كلمة العدد
العمل والقيمة!
المهندس غسان كامل ونوس
لأي عمل قيمة، تزيد في الغالب عن البدل النقدي الذي يُستحَقّ لقاء إنجازه، وتتجاوز الفترة الزمنية التي يتم فيها ذلك؛ سواء أكان العمل عضلياً أو فكرياً، فردياً أو جماعياً، خاصاً أو عاماً.. وفي مختلف المستويات والمواقع والأوقات.
فمنظر الشارع المنظم النظيف يريح المارّة والمقيمين، ويُبهج من أسهموا في التخطيط والتنفيذ والمتابعة.. الذين تقاضوا أجورهم، أو تبرّعوا، وما يزالون في المعترك أو انتقلوا.. حتى من الحياة! وينسحب الأمر على البناء والطريق والحديقة والسدّ والقناة والحقل…
كما أن عملاً إبداعياً مميزاً يخلد صاحبه وشريحته وبيئته وزمنه ومعاصريه؛ سواء أكان لوحة أو منحوتة أو كتاباً أو بحثاً أو نظرية.. ناهيك عن الاكتشافات والاختراعات في مختلف المجالات والميادين.
صحيح أن أيّ إنجاز يحتاج إلى من يساعد في ذلك؛ فلا عمل منبتٌ تماماً عن الشروط والظروف والعناصر المادية والبشرية، ويحتاج أيضاً إلى من يرى ويقدّر ويقوّم.. وللثناء مفعول إيجابي مهم؛ إضافة إلى المكافأة العينية أو حتى من دونها. ولا ننسى الأهم: المبادرة الشخصية والموهبة والإقدام؛ لأن العمل يعني حضوراً فاعلاً وعبوراً مجدياً في المهنة أو الوظيفة أو المنطقة أو السيرة أو العمر.. ولا شك في أن هناك من يسعى إلى العمل بإشراق، ويقوم بمتطلّباته صادقاً شفافاً، وقد يخطئ أو يتعثّر؛ ولا شكّ في أن هناك من يسعى محموماً إلى الوصول من أجل غاية ليست ناصعة، وقد ينجح.. وهناك من يرضى -وهذا مستغرب- أن يكون رقماً بلا معنى، أو جسداً بلا ظل؛ وصوتاً بلا صدى.. وقد يكون كذلك عنوة وابتزازاً وخشية من أن يقول أو يرفض أو يشير إلى خلل، أو يناقش في الأمر: أسلوباً وغاية..
وقد لا يصل من يَجِدّ ويُؤهَّل شهادة وخبرة، إلى ما يبتغي، فيحسّ بالنكوص والخسران..
وللعمل قيمة أخلاقية تبقى الرصيد الإضافي الهام، ويفترض أن تكون الغايةَ الأسمى، وأن تظلّ في الحسبان بداية ومتناً ونهاية؛ مع الإشارة إلى الأعمال الدنيئة التي ينبغي الترفّع عن التطرق إليها؛ ناهيك عن التنطّح لممارستها.
لقد شهدت الأحداث الأليمة التي تجري في سورية منذ أكثر من عام أعمالاً ناشزة تستوجب التفكّر والدراسة والتحليل، بعد استغلال الناس أيَّما استغلال: حاجة وقصوراً في الرؤية ونقصاً في الوعي والتربية والتأهيل.. وأهرقت جهود وطاقات عضلية وفكرية في أقبح صورة، ناهيك عن التسلّح والقتل والاختطاف وقطع الطرق وتخريب المؤسسات والمنشآت العامة والخاصة.. ومخلّفات ذلك من خسائر وخيبات وصدوع وغصات..
فحين تنظر إلى العبوات الناسفة بأعدادها الكبيرة، وأشكالها المتعددة، المصنّّعة في الخفاء من موادّ وعناصر محلية أو مستوردة لغاية أخرى، وتفكّر في عملية التركيب واللحام والحشو والتوصيل والتفخيخ: اسطوانة غاز، قازان، أنابيب معدنية، حديد مبروم أو صناعي، أكياس وأوعية وأصص ورد.. وقبل ذلك وبعده النيّة القاتمة والوسواس والقصد والرغبات السوداء، ينتابك أسى عميق، وتتناهبك غصة خانقة وأحاسيس حانقة؛
فماذا لو صرفت هذه الجهود والقدرات والخبرات والمواد والأوقات في اتجاه معاكس كلياً، وفي أعمال مفيدة للبيئة والناس والبلد؟! ورشات في الضوء: لمّة في موسم، أو حلقة في تدريب، أو جَمعة في مشروع.. ومشاركات ومبادرات ومصنّعات ومركّبات ومشغولات.. تستفيد من المكوّنات البيئية، وتخفف من المستوردات، وتقلل من النفايات والمخلّفات والبقايا المهدورة، وتؤمن عملاً ذا جدوى للكثير من المواطنين!
وإذا ما استطردنا في الحديث عما يخلّفه تفجير تلك العبوات الغادرة من وفيات وتشوّهات وصدمات وخراب؛ فما هو الشعور الذي يتضاغط لدى من ينظر ويعاين ويتأمل؟! وهل يمكن مقارنة مثل هذا المشهد الكارثي وتبعاته بأيّة نتائج لأعمال خيّرة في الجهة الأخرى: احتفاء وغبطة وتكريم.. وماذا عن الوداد والألفة والجمال: وردة في أصيص، أو لوحة في معرض أو صالة، أو تمثالاً في شارع أو ساحة؟!
إنها القيمة الأخلاقية التي تتمثّل في العمل؛ تشعّ وتنتثر وتسمو وتخلد، وفي فقدها الخسارة الكبرى!
***