الفئة: نصوص هندسية
الجنس الأدبي: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: مجلة المهندس العربي
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

ربع الأعمال
الثقافة الهندسية
المهندس غسان كامل ونوس
لا شكّ في أن الثّقافة العامة هامة للإنسان، تعبّر عن شخصيته، وتمنحه الكثير مما يحتاج إليه في مساراته المتنوّعة العصيّة، إلى غاياته التي لا تحدّ، ويأتي الحفاظ على الحياة في أسّها.
وإذا كانت فصول الثقافة وعناصرها وألوانها، تختلف، وتتعدّد، وتتمايز، فإنّ للثّقافة الهندسية أحيازاً مهمّة في بنيانها وامتداداتها وأطيافها.
وإذا كانت العلاقة بين الثّقافة والحياة تتواشج وتتماهى، تتجلّى وتتخفّى، فإنّ علاقة الثّقافة الهندسية بالحياة الفردية والجمعية أكثر أهمية وضرورة، لهذا الكائن المتطلِّب القلق (العاقل)، الذي يعيش في موئل يبتنيه، ويتنفّس الهواء من البيئة التي تحتويه، ويستزرع الأرض التي تقوته، ويستكشف الأعماق، ويستثمر الموارد ويطوّرها، يتسارع في الطرقات، ويخوّض في البحار، ويحلّق في الأجواء، يتطلّع إلى البعيد، ويرنو إلى الأبعد.. يتواصل مع أقرانه من البشر، ويتعايش مع الكائنات الأخرى..
وهو، في كل هذه المجالات، يحتاج إلى الثقافة الهندسية، ليتفهّم ويتفاهم، وينجو بأقلّ الخسائر، ويفوز بالرّضا والأمان. وكلما ازدادت ظروف الحياة تعقيداً وتغيّرات، وتفاقمت شروطها، وتخصّصت متطلباتها، تضاعفت الحاجة إلى الثقافة الهندسية.
وكثيراً ما يُشتكَى من ضعف الوعي الثقافي العام، وقلّة المهتمّين بالثقافة، وعدم كفاية الخطو والزّاد والمبادرات في سبيلها، وهذا واقع معروف؛ فماذا يمكن أن يقال إذن عن الثقافة الهندسية، التي تبدو شحيحة المصادر، باهتة الحضور، أو غائبة حتى في القضايا الهندسية الأساسية والملحّة؛ ناهيك عن الموضوعات والمسائل الأخرى؟!
وفي الوقت الذي ينشغل الكثير من البرامج في الإذاعات ومحطات التلفزة، وتهتم الدوريات المكتوبة والصفحات اليومية بقضايا أقلّ ضرورة وخطورة، كالطبخ والتنجيم والأزياء والرياضة وسواها.. إذا ما تجاوزنا الراهن من سياسة ومجتمع وأخبار؛ فإن من النادر أن ترى حلقة جادّة عن قضيّة هندسيّة حسّاسة، أو تتابع ندوة هامة ذات صلة، رغم تكاثر وسائل الإعلام الورقية، ومئات القنوات الفضائية؛ إضافة إلى عشرات المراكز الثقافية، والمنابر العديدة الأخرى.
ومن الغفلة وسوء الفهم حيناً، والتغافل أحياناً، القول إن هذا الأمر يعني الاختصاصيين فحسب، أو المشتغلين في هذا المجال بعينه من مجالات الهندسة التي تشعّبت وتعمّقت إلى درجة كبيرة؛ بل إن المنطق والعقل والواقع تؤكد كلها أنه يعني كل الناس، الذين يقطنون تحت رحمة الأوزان والكتل الهائلة، ويستخدمون الوسائل القاتلة من كهرباء، ومبيدات، وغازات.. وينحدرون أو يصعّدون في التضاريس والأنواء، ويعبرون الجسور والأنفاق، ويركبون الريح والأمواج؛ يتسارعون ويتسابقون نحو الأعلى والأبعد والأعمق والأقرب والأدقّ.. يرقصون رغبة على إيقاعات الضوء واللحن والأجواء المكيّفة، ويهتزّون عنوة مع حركة مفاجئة لصخور حاملة للقارات، ويهربون من نفثات أرضية محمومة، يترنحون من الحرارة والجفاف والقنوط من دعوات الاستسقاء، وقد يعومون من جراء هطل مجنون..
فهل بعد كل هذا، وغيره كثير، يمكن الحديث عن خلاص فردي، واهتمام عارض، وتجاهل مقبول، وثقافة هندسية نافلة؟! وهل يجوز التعامل مع الهندسة ومفاهيمها ومتطلباتها كملحق لمشروع الحياة؟! أم أن الاهتمام بالثقافة الهندسية، يفترض أن يكون حاضراً في صلب اهتماماتنا، ومتداخلاً مع التفاصيل المعيشية والمعرفية والفكرية؟! ويفترض أن تنثر المعلومات الهندسية المفهومة للغالبية، كما تتوزع الحكم والأقوال المأثورة والطرائف؛ لا أن يتوقف الاهتمام على التعامل مع زلزال متوقع، أو غبار بركاني عابر، أو عاصفة قادمة؛ ولا أن يقتصر على لملمة أنقاض أبنية منهارة، أو مساعدة منكوبين، أو كفكفة نهدات فاقدين أو عاجزين أو مشردين..
إنها مسؤوليتنا جميعاً؛ مهندسين وفنيين ومهنيين، مثقفين ومفكرين وإعلاميين، متعاملين مع الأدوات والآليات والمواد، وعاملين في المشروعات الهندسية، ومهتمين بالقضايا الإنسانية.. من دون النظر إلى الفائدة الآنية، أو المنفعة المباشرة، أو الربح الفوريم، مقتنعين، نحن الدارسين المنفّذين المشرفين المستثمرين، بأن الجائزة الأكبر محققة حتماًً، وأن الجدوى من هذا المشروع الثقافي الهندسي الإنساني، لا تقدر بثمن.
***
المهندس غسان كامل ونوس

اترك رداً