غســــان كامــــل ونـــــوس:لا أفـــــرض علـــى نفســي شـــكلاً للكتــابــة
الكتابة بالنسبة إليه تعبير عما ينغّصه ويدميه، واليوم وفي ظل ما يدمي الجميع في سورية، يؤكد أن لا راحة للنفس في ظلّ تعب الآخرين، فما بالنا بالنزيف المعمم والألم العميم، والأرق والقلق والغصّات التي يشعر بها الجميع؟!.. من هنا يرى الكاتب غسان كامل ونوس في حواره مع “البعث” أن الراحة التي تبعثها الكتابة تشبه ما يبعثه الأنين المكتوم، أو التنهيد العميق أو الصراخ الكظيم، أو حتّى الإطلاق الموهوم صوب الهدف المتحرك، وهي مشاركة وجدانية -على الأقل- في الاحتراق المشروع، أو إسهام في الإطفاء بكشف أو تعرية أو إضاءة أو مواساة.. ويشير ونوس إلى أنه كتب الكثير من النصوص التي تتعلق بما يجري في سورية من أحداث مؤلمة طالت الأحياء والأشياء، الزمان والمكان، الحاضر والماضي والآتي، نتيجة العدوان المباشر وغير المباشر، بمشاركة أطراف خارجية وكائنات من لدن القلب والصدر والظهر، والكثير من الزوايا والمقالات في “الأسبوع الأدبي” وسواها من الدوريات، وكتب نصوصاً في القصة والشعر، والكتابات الأخرى، ومع ذلك يشعر أنه مقصّر تجاه سورية.
رصدتَ في روايتك “المآب” مرحلة مهمة من تاريخ سورية، وقد وصفها البعض بأنّها رواية سياسية اجتماعية، فهل هي كذلك بالفعل؟ وهل تتفق مع سامي الجندي حين يقول: “الكاتب حين لا يكون شاهداً على التاريخ يبدو صفراً”؟.
في “المآب” رصد لمرحلة مهمة من تاريخ سورية المتّصل مع الحاضر، أسباباً ومؤثّرات ومفرزات، وفيها قضايا سياسية واجتماعية ترتبط أيضاً بموضوعات اقتصادية، وفيها أيضاً أبعاد رؤيوية ونفسية وماورائية، وهي تتابع ما رصدته الإصدارات الأخرى في الرواية وسواها لهذه المرحلة وما قبلها وما بعدها.. ربما، بتقاطع وتواشج وتواصل واتصال، أما فيما يتعلق بالقول الوارد في سؤالك، فلا أحبّ الدخول في جدال حول مقولات تأخذ جانب القطع والتعميم، مع أنّ معنى الشاهد ملتبس، فهناك شاهد سلبي، راو خارجي منقطع عما يجري، وهناك شاهد مكتو مع المحترقين ويعاني مع المأزومين، أي يرصد الحياة المعيشة من داخل معتركها، ويستطيع أن يتمثّل الكائنات بأحاسيسها ومشاعرها وأحلامها ومشروعاتها وإنجازاتها وخيباتها، ولكن ليس على الكاتب واجب الخوض في الوقائع التي حدثت فحسب، بل يمكن أن يهتمّ بما لم يحدث، ويتمنّى أن يحدث، أو يتكهّن، أو يحذّر، ليس في هذه البيئة أو تلك، ولا في هذا الزمن أو سواه، بل حتّى في عوالم أخرى متخيّلة، أو يُتنبَّأ بوجودها، ويمكن أن يتناول كائنات لا نعرفها كانت، أو لم تكن، ويمكن أن تكون، فهل يكون حينئذ شاهداً أو صانعاً؟ كما أنّ هذا الأمر يختلف في الرواية عنه في القصة والمسرحية، وبنسبة أكبر في الشعر، حيث تقلّ العلامات الفارقة واللبوسات القريبة.. وفي كتابات أخرى ربما.
وصِفتَ في مرحلة من المراحل بأنك من الشباب التجريبيين، فما هو التجريب الذي مارستَه؟ وإذا أردنا أن نصفك اليوم فماذا يمكن أن نقول؟.
قلتُ ذات وقت مضى، وأقول: لا أحبّ كلمة التجريب في الأدب، بمعنى أن الأديب يقرّر أن يقوم بتجربة ما.. الأمر في نظري يتوقّف على ثقافة الأديب واغتنائه بالمعارف واطّلاعه وموهبته، وبالأخص قدرته على أن يكون صوت نفسه المتفرّدة وبصمة ذاته المتميزة التواقة إلى الرضى والأمان والسعادة، هذه التي لن تتحقق، وأن تكون لديه الثقة والقابلية والإمكانية لتجاوز المألوف والمكرور والمستهلك في الكتابة من طرق وأساليب، وحتى موضوعات ورؤى، بلا خوف أو تردّد، حينئذ يمكن أن يتحدث الآخرون عن (تجربته) أو (تجاربه) الخاصة ومدى نجاحها ودرجة إقناعها، لا أن يتحدث هو عن ذلك.. بالنسبة إلي، كنتُ وما أزال لا أطيل الوقوف عند حالة مرسّمة أو حدّ منجز في هذا الجنس الأدبي أو ذاك، وبهذا الشكل أو سواه، وأترك لما لديّ من حرية أن يعبّر عن ملامحه وإيقاعاته التي أُحسّها وأتمثّلها، وأترك لكم وللآخرين من نقاد ومتلقّين أن يقولوا في ذلك ما يرون.
يقول بلزاك: لا يبدو كلّ ما يجري في صميم الواقع صحيحاً في الأدب، وليس كلّ ما هو صحيح في الأدب صحيحاً في الواقع.. ككاتب تنتهج الواقعية في بعض كتاباتك، كيف تنجح في تحقيق المعادلة الصحيحة للأدب والحياة في كتاباتك؟ وما هو تعريفك للواقعية؟.
أجد أنّه من البدهي القول: إن الأدب ليس نقلاً تصويرياً للواقع، فهناك عواطف ومشاعر ومواقف نفسية وتهيؤات لم ولا تتجسّد في الحياة، وهناك تجاوزات في الزمن وتكثيف وعدم انتظام في سير الأحداث كما تجري فعلياً، إذا ما كانت جرت أصلاً، أو يمكن أن تجري، مع تقديم وتأخير وتقاطع وموازاة ونشازات أو شذوذ أو انبتات، وهناك فضاءات مضافة أو متخيَّلة وكائنات.. باختصار: الفنّ أساس في تقديم الوقائع والانفعالات والتفاصيل والسياقات والبدايات والخواتيم، وهذا يختلف بين جنس أدبي وآخر، وأفترض أنّ ما في النص من كائنات وأفكار وعلاقات وحركة وجمادات، ينسجم مع معطيات البيئة النصّية وشروطها وظروفها بصرف النظر عن وجودها في الواقع المعيش، وإذا ما حدث خروج عن ذلك -في النص طبعاً- يفترض أن يكون مسوَّغاً أو مدعاة للتساؤل من قبل المتلقّي للوصول إلى جواب أو أجوبة أو لا جواب!.
أثبتت الواقعية تفوّقها على الاتجاهات الأخرى في الكتابة، فما أسباب ذلك برأيك؟.
بصرف النظر عن صوابية الحكم أو عدمها، يمكن القول: إن في الواقعية إمكانية أوسع للكتابة وخيارات متاحة وحيوات معيشة أكثر قرباً من التخيّل أو التوهّم، ونماذج متنوّعة ومتعدّدة، ويمكن بقليل من الجهد والموهبة والإمكانية اللغوية الحديث فيها وعنها، لكنّ الإجادة الفنية تتطلّب أكثر من ذلك، والصوت الخاص لا يرضى بهذا، وصاحب الرؤيا لا يمكن أن يستقرّ على بساط الواقع، يرصد ويسجل وينفعل، بل لا بدّ من ثقافة ومعرفة ومرونة وتحليل وأسئلة وتساؤلات.. ومن الطبيعي أن من تتوافر لديهم هذه القدرات ليسوا أعداداً وفيرة، مع التنبّه إلى أنّ النّص غير العادي يستثير متلقّياً غير عادي، ووسطاً منفتحاً وميسّراً للانتشار، لا يقتصر دوره ومشروعه على المنفعة المادية، بل هاجسه ثقافي متنوّر محفّز، ومغامر أيضاً.
تقول في أحد حواراتك: “من الممكن أن يقدّم الأديب رؤى عبر شخوصه في الرواية وسواها”.. فما هي حدود العام والخاص لديك في الكتابة؟.
حين يلجأ الأديب إلى الكتابة يستخدم أدواته وخبرته ليطرح أفكاراً تشغله ويثير قضايا تهمّه، ومن الطبيعي أن يتجسّد ذلك عبر خيارات: مَشاهد وعناصر وأساليب تناسب هذه الأفكار وتلك القضايا، وهذا أمر يتعلّق بخصوصية الأديب، وما يهتمّ به وما يحمل من رؤى، ويكون النجاح حليفه بهذه الدرجة أو تلك، نتيجة الموهبة والفنّ والقدرة على الابتعاد عن إقحام ما يريد قوله بشكل مباشر بما لا يناسب السياق، أو عبر شخص لا يتناسب مستواه في النص مع ما يقول أو يتبنّى، في الوقت الذي يستطيع الكاتب أن يمرر مقولاته وتساؤلاته بطرق مناسبة كاهلاً وشكلاً ولغة ومستوى من دون أن يحتاج إلى أن يتحدث عن تجربته بشكل سافر، أو يشرح همومه وقناعاته، أو يفرضها ويقرر الخلاصات والنتائج، ولا شكّ أنّ من الأيسر والأقرب أن يسجّل الأديب تجربته الشخصية وعلاقاته وهواجسه وأفكاره بتفصيل يعرفه، وكائنات يعايشها، لكنّ هذا قد لا يفيد العمل الإبداعي ووجهة النظر المراد إيصالها، ويشكّل عبئاً وفجاجة ونشازاً ونفوراً ربما، أو قد يكون نافلاً وزائداً عن الحاجة، وهذا مدعاة للفشل، إذ إن سياق النص ومجرى الأحداث ومستوى الشخوص في النص هي التي تحدد ما يمكن أن يكون مجدياً مما لدى الكاتب من معلومات ومعارف ونوايا وهواجس وغايات.. ومن علامات النجاح أن يتيح النص مشاركة المتلقي الجادّ، وأن يصل من خلاله إلى استنتاجات وأصداء تخصه وتعني سواه، وتختلف نسبة ذلك حسب اهتمام المتلقي وقدرته على الغوص في النص واستلهام أطيافه وأبعاده من دون أن يعني ذلك بالضرورة جودة النص وإبداعه.
على الرغم من ادّعاء البعض بانحسار مكانة القصة في سورية لصالح الرواية، مازالت القصة سيدة الموقف على أرض الواقع نشراً واهتماماً، مقابل عدد قليل من الروايات، فما تفسيرك لهذا التناقض؟.
أرى التناقض فيما يشاع بأن العصر الحالي عصر السرعة، وأنّ المتلقي لا يستطيع أن يكرّس الكثير من الوقت والجهد لقراءة نصّ طويل كالرواية مثلاً، في الوقت الذي يُعمَّمُ أن للرواية الحضور الأوسع والاهتمام الأكبر، ولكنّ الوقوف على حقيقة ذلك يتطلب متابعة جدّية واستبيانات دقيقة تشمل بيئات متعدّدة وشرائح واسعة، مع ملاحظة أنّ من طبيعة النفس البشرية الاطّلاع على سِيَر وتجارب مكتملة ونهايات، قد تتيحها الرواية بطبيعتها أكثر من القصة التي تهتمّ غالباً بحيّز من واقع ونموذج من شخصيات وحالة، كما أن تحويل روايات عديدة إلى السينما والتلفزة والإعلان عن جوائز عالمية في الرواية والاهتمام الإعلامي بكلّ ذلك ربما ساعد في تحفيز كتّاب الرواية أكثر من كتاب القصة وسواها.
تنقّلتَ بين الرواية والقصة والشعر، إلا أن القصّة ظلّت صاحبة الحظوة لديك على صعيد النشر؟.
بدأتُ الكتابة بنصوص يتعالق فيها الشعر بالنثر، وما أزال أكتب في المنحيين غير المنبتّين تمام الانبتات، وما زلت أترك الفكرة تتخلّق شعراً أو نثراً قصصياً أو روائياً حسب درجات تهيّئها وارتسام ملامحها ومعالمها المحددة التي تظهر في القصة والرواية أكثر منها في الشعر المنشغل بالطواف والتحليق والسموّ.. الحالة والإحساس والانفعالات هي التي تفرض شكلها على الورق، ولا أقرّر ذلك مسبقاً، والأمر لا يتعلّق بالرغبة ولا بالحظوة، بل بما يلحّ من أفكار واهتمامات ووجهات نظر، والظروف التي يمكن أن تتيسّر للكتابة، مع أنني أحاول ألا أعوّل كثيراً على الظروف.
غامرتَ حين قدمتَ في كتابك “قريباً من القلب” نصوصاً أدبية لا انتماء لها على صعيد الشكل، فهل كان ذلك نوعاً من التجريب أم رغبة في التمرد على القيود التي مازالت تتحكم في كتاباتنا؟.
لا أفرض على نفسي شكلاً للكتابة أو جنساً محدداً لإيماني أن الحالة تفرض شكل تمظهرها وارتسامها وانبثاثها، ولم أفكّر في مغامرة أو تمرّد، ولا أعاند أو أنافس إلا نفسي وإمكانياتي، وأعبّر عما أحسّ به وما أتمثّله وما أودّ أن يظهر منّي لأنّه يمثّلني ويمتدّ تأثيره إلى آخرين قريبين في المكان والزمان، أو بعيدين قد لا يهمهم الشكل المألوف ولا الجنس الأدبي المهيمن، ولا شكّ في أن ذلك يتطلب جرأة لم أفتقدها في أي نصّ كتبتُه ولم أتردّد في نشره.
تقول في أحد حواراتك: “النص حين يخرج يجب أن يكون كائناً قادراً على العيش من دوني”.. متى برأيك لا يتحقق ذلك فيولد نص الكاتب ميتاً؟.
يولد النصّ ميتاً حين يتطلّب التعامل الجدّي معه العودة إلى كاتبه لفهمه، سيرة وأداء، أو حين تكون أفكاره مقحَمة أو مشوّشة أو مجرّدة، متعلقة بما يفكّر فيه الكاتب من دون أن يأتي ذلك عبر العلاقات والإيقاع والصياغات النصية المناسبة، أو حين يكون جافاً فاقداً للجاذبية والامتاع بسبب قلة الموهبة أو المستوى الفنّي المتدنّي، وقد يكون ذلك نتيجة كتابة هجينة أو معالجة غير ناضجة أو مكرورة مبتذلة.
يقال دائماً إن نصك لا يسلِّم نفسه للمتلقي بسهولة، فمن هو القارئ الذي تكتب له؟.
أكتب لنفسي أولاً، ولقارئ مهتمّ أولاً وثانياً، وللإنسان أولاً وأخيراً، فأنا لا أفكّر كثيراً في المتلقي، بل هاجسي تطوير أدواتي وشحذها، وأن أقدّم فنّاً مؤثراً، لا أُقلِّد ولا أَستهدِف ولا أستهين، ولكنني أحاول ألا أكون عادياً قابلاً للاستهلاك السريع بطعم معروف وحواضر فائضة وخصائص مألوفة بحيث يسهل تجاوز كتاباتي أو نسيانها بلا كبير توقّف، وهذا لا يعني أبداً أن الصعوبة من هواياتي، والتعقيد من هواجسي، إلا أنني لا أفضّل ولا أقصد أن أقدّم الحلول الجاهزة، بل أن أثير أسئلة وتساؤلات، وأحفّز ملكات الوعي والإحساس على الحيوية والنشاط.
رأى خالد أبو خالد أن المبدع هو الذي يرى بعين زرقاء اليمامة، فمتى ينجح الكاتب في أن يكون كذلك؟.
يكون الكاتب رائياً حين يكون موهوباً ومثقفاً وأميناً لما يفكّر فيه ويحسّ به ويستشعره، وحراً في تناوله الموضوعات والقضايا، لا مرتهَناً لمنفعة أو وصاية أو ارتزاق، ولديه الجرأة في الإفصاح فنياً وفكرياً عما يختلج في نفسه وما يستخلصه من ملاحظاته، وما يتمنّى أن ينشغل به القراء والمتابعون الجادّون، ويبقى في أذهان المتلقّين أطول فترة ممكنة.
رغم أنك تعدّ الشعر أرقى مراتب الإبداع والأقدر على التعبير عن اللحظة، إلا أنّك مازلتَ مقلاً فيه فلماذا؟.
صحيح أنني نشرتُ عدداً أكبر من الكتب النثرية في القصة والرواية والكتابات الأخرى، ونشرتُ مجموعتين شعريتين، وقد صدرت منذ أيام المجموعة الثالثة “حديث الروح” عن اتحاد الكتاب العرب، ولديّ مخطوطان شعريان، ومخطوطات في الأجناس الأخرى، لكنّ مثل هذا الأمر لا يشغلني، فالأهمّ أنني أعيش حال الكتابة بأنواعها المتعدّدة.
أمينة عباس