في الطريق إلى…
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
لكلّ منّا معشر الأدباء حكاية؛ بل حكايات في بدايات الخطو المختلف على طريق الأدب، وكانت النظرة المشتركة لدينا ولدى كثير من الناس، تشير إلى قيمة كبرى ومرتبة عليا للأدب، وبُعد مناله؛ أمّا الأدباء، وكانوا قلّة في المحيط القريب، فهم كائنات فوق مستوى البشر، ولهم هالات من الضوء، يصعب معها الاقتراب منهم. وحين يصادف أن تلتقي بأحدهم؛ فذلكم هو الحظّ السعيد، وتلكم هي الفرصة الثمينة، وعليك ألّا تفوّتها، فتقترب متردّداً خجولاً، وربّما لا تتجرّأ على ذلك، إلّا بعد أكثر من مصادفة؛ ولم يكن يخطر في البال، أو لا يؤخذ على محمل الجدّ، أن تقصده من نفسك، وتذهب إليه في صومعته؛ داره، أو دائرته، او مؤسّسته.. وتبقى أصداء ذلك اللقاء في الذاكرة طويلاً؛ وكنت ترى في خطواتك الأدبيّة حبواً متدرّجاً، على الرغم من أنّك قرأت الكثير، وكتبت نصوصاً من وحي أفكارك، وأحلامك، وأوهامك، وتساؤلاتك، التي كنت تخجل- ربّما- أن تجاهر بها للمقرّبين منك، والمسؤولين عنك، وربّما خشي عليك من تبوح له، من أقرانك، أو أقربائك، فنهاك عن هذا! وستتذكّر أيّ كلمة إطراء أو اهتمام باد- على قلّة ذلك- من أستاذ في المدرسة، مقرّظاً لغتك، ومعجباً بأسلوبك في كتابة موضوعات التعبير، التي كنت تنشغل في التحضير لها أكثر من سواها.
تُراسل برامج الإذاعة، التي تهتمّ بأدب الشباب، وتتواصل مع الدوريّات الورقيّة- لم تكن قد حلّت “فضيلة” الفضاء الالكترونيّ بعد- فربّما كان تقويم الأدباء من بعيد لنصوصك، أهون من المواجهة المباشرة العصيّة الوصول والفصول؛ كما أنّ شغف الانتظار أسبوعاً بعد أسبوع، وعدداً بعد آخر، يجعل أوقاتك الفاصلة شقيّة وماتعة، لسماع صدى اسمك، أو رؤية حروفه مكتملة على الأقلّ، ثمّ الرأي المقوّم، ثمّ النصّ أو بعضه؛ مسموعاً أو منشوراً؛ فتلك غاية المنى!
تعرّفت إلى أدباء كثر عن قرب، في المحيط الأبعد فالأبعد، بعد ان قرأت لبعضهم، وعن بعضهم، وعشت معهم وبينهم، وتشاركتم بعدئذ المسؤوليّة الأدبيّة والثقافيّة، وقاربتم الكتابة والنشر والتقويم، واكتشفت- وأنت تعرف أنّك من البشر- أنّهم بشر مثلك ومثل سواك، يصيبون ويخطئون، لهم أمزجتهم وميولهم وعلاقاتهم، التي يمكن الحديث فيها وعنها؛ وهذا مهمّ، لكن الأهمّ أنّ بالإمكان التواصل معهم، مع كثيرين منهم، وإطلاعهم على النصوص، من دون الحاجة إلى جرأة فائضة، ومن دون التعثّر لخجل أو تردّد، أو التمتّع بإمكانيّات غير عاديّة، ومن الطبيعيّ أن يكون لكلّ تواصل فوائده ومثالبه، محفّزاته ومحاذيره.. لكنّ هذا يعتمد على ما يكون عليه من خصال وشيم، الأديب أو الراغب في أن يكون أديباً؛ من حيث المصداقية والاحترام والجدّيّة والحرص والإنسانيّة…! هذا من حيث المبدأ؛ أمّا من حيث الواقع الآن، فإنّك تلاحظ، أنّ من النادر، أن تجد أديباً ناشئاً، يتواصل مع أدباء لهم باع في ميدانهم، وإذا حصل، ففي الغالب لا يكون متردّداً ولا خجلاً، بل مقدام ومتطلّع ومتحفّز، ولا بأس بهذا؛ بل هو مطلوب ورغوب؛ ولكنّه قد يشعرك أنّه جاء إليك، لا ليسمع منك رأيك في نتاجه؛ بل الرأي الذي يريد، ولا ليعرّفك إلى نفسه؛ بل لتتعرّف إليه، فهو يعدّ نصّه ناجزاً، ويرى في نفسه واصلاً إلى مستوى، لا يصله الباطل من أيّ سمت، ربّما، وإذا لم يعجبه ما تقول، واجهك بأنّه ينشر على صفحته وموقعه الالكترونيّين، وينال مئات الإعجابات والمدائح والأوصاف والألقاب؛ وربّما حصل على شهادات في رحاب الفضاء الالكترونيّ طبعاً، وليس في المواقع الأرضيّة! وقد يسألك في المرّة الأولى عن رأيك، ويهديك في الثانية كتابه! وقد يبدأ بالثانية متجاوزاً الأولى..
استخدمت المذكّر في الحديث انصياعاً لسلطان اللغة، أمّا الواقع فيشهد أنّ التعامل مع بعض ضمير الأنثى مبتدئةً وناضجةً، يختلف، وله مواصفاته وشروطه ونواتجه الخاصّة أكثر؛ من دون أن يكون في ذلك اتّهام، إلّا لمن يكمن وراء الأكمة!
لا شكّ في أنّ الدروب والمعابر أمام طلّاب الأدب اليوم أكثر، والمنافذ الميسّرة متاحة، والنوافذ المباشرة وافرة، والموارد المتنوّعة ممكنة في أيّ وقت؛ والأضواء أقوى وأغزر؛ وهي كلّها أفضل بكثير ممّا كان على أيّامنا.. وهذه نعمة، يمكن أن يستفيد من مواسمها وبيادرها الجميع؛ أفراداً ومجموعات، هواة ومخضرمين، ويفترض أن يكسب من غلالها الثقافيّة المجتمع بمختلف شرائحه، والبلد كلّه؛ كما يمكن أن تصبح نقمة، قد يقع في مطبّاتها وإغراءاتها ومنزلقاتها كثيرون من المتطلّبين والراغبين في الظهور السريع؛ ناشئين ومقيّمين ومشرفين ومسوّقين، وأصحاب مسؤوليّات وإمكانيّات وغايات ثقافيّة وغير ثقافيّة!
وأرجو ألّا يفهم من الكلام، الذي سبق، أنّني أرى الصواب فيما كان على أيّامنا، وسواه خطأ كلّه، وأنّني أتباكى وأتحسّر على الماضي؛ فهذا ليس من تفكيري ولا قناعتي، فلكلّ وقت ظروفه وإمكانيّاته الخاصّة والعامّة، وأرى بشائر في الجديد والقادم، وأُغبَطُ لدى كلّ اطّلاع على موهبة واعدة؛ كما أنّني لا أرتاح إلى منطق الأستاذ والتلميذ في الأدب- وفي سواه-؛ بل أعتقد بالموهبة والسعي الحثيث لإغنائها بالمثابرة والجدّ، وبذل الوقت والجهد؛ من دون أن يمنع ذلك وجود موهوبين متميّزين قد يحرقون المراحل.. وهناك “كبار” يتعثّرون في نصوصهم الجديدة، و”شباب” يجيدون في كتاباتهم.. لكنّ المرجوّ من هذا الكلام، أن يكون هناك من الجيل الجديد من يسمع، ويصغي، ويتصرّف وفق قناعاته وإمكانيّاته، وليس على الجميع أن يقولوا، ولا يسمعون حتّى دواخلهم؛ ولا بأس في التواضع قليلاً في أثناء التخويض في هذا المجال الأدبيّ أو ذاك، وأنا من الذين يقولون: لنتركهم يجرّبوا، وينشغلوا بهذا الأمر؛ فهذا أفضل من أن ينشغلوا بما هو مسلّ وأخّاذ ومستهلك للوقت والأعصاب في الفضاء ذاته؛ لكن لا بدّ من احترام النفس والآخرين القائلين والمتلقّين، والحيّز والموضوع، ومن الضروريّ- مع افتراض أنّ الرغبة حقيقيّة- السعي إلى الحضور الأدبيّ وفيه بقدر كاف من الاستعداد والتحضير والجهد، وقبل ذلك، ومعه، لا بدّ من قدر مهمّ من الموهبة والاهتمام؛ كيلا تزداد العملة الأقلّ جودة، على حساب ما يستحقّ، ومن يستحقّ!
***
غسان كامل ونوس