الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

في الأدب وبعض شجونه!

ملحق الثورة الثقافيّ-

غسان كامل ونوس-

الحديث في شؤون الأدب وشجونه شائق شائك؛ لأنّه حديث في الموهبة وفضاءاتها المفتوحة، والتخلّق وبُشراه وفتنة ترقّبه، والوعي ومدياته؛ وصولاً إلى اللاوعي، الذي يتدخّل بكامل غيابه المراوغ، فيسهم في التزويد بمقوّمات الإبداع وبضاعته؛ ولأنّ الحديث ذاك، يتعثّر بكثير من الأشراك والكمائن والأخاديد، ويتجرّح من علاقات ونزوات ومزاجات وأعراض ليست سويّة، لا تكاد تخلو منها شريحة من البشر، وليت الخصوصيّة الأدبيّة تساعد في سلوك مميّز للأديب؛ بالمعنى الإيجابيّ المشهود طبعاً، أو أسلوب لائق في التعامل؛ لكنّ المؤسف والمؤسي، أنّ هناك من يجمع؛ بتناقض مريع، بين الحالين؛ فيستعين الأديب بالسمات التي توحي بها الخصوصيّة هذه؛ لممارسة شخصيّة شاذّة، أو خروج فاضح عن المطلوب والمنتظر والمأمول، من أديب أو مثقّف في أيّ فرع من شجرة الثقافة المتواشجة الوارفة، الممتدّة إلى ما لا يحدّ من إمكانيّات واحتمالات ونتاجات ومشهديّات، وهذا ما يجعل الفعل صادماً، أو مبالَغاً في تأثيره في المتلقّين، الذين ينظرون، أو من الطبيعيّ أو المفترض أن ينظروا، إلى الأديب باهتمام واحترام، وينتظرون منه أداء يقارب المثاليّ، حتّى في حياته الشخصيّة، التي لا تمسّ أحداً، وعلاقاته الاجتماعيّة؛ وليته يقارب هذا؛ مع الإشارة الضروريّة إلى أنّ في هذه النظرة بعض الظلم للأديب؛ فهو بشر أيضاً، وله ما لهم من حواس ومشاعر ورغبات، وربّما تزيد انفعالاته في شأن ما أو قضيّة ما عنهم؛ فلا بأس أن يقدّروا ذلك، ويغفروه، إن كان فيه زلّة أو تقصير.

ولا نريد من هذا التوقّف هنا عند الحالات السلبيّة للأديب، أن نؤثّر قتامة على صورته أكثر لدى الناس، أو نزيد من المرويّات والمسموعات، التي لا تسرّ؛ هو الذي يكشف الأخطاء والخطايا والخفايا، ويقول الحقّ، أو ما يؤدّي إليه، ويتولّى، بقصد أو من دونه، تحديد المعيار، الذي يقاس به السلوك العام.. لكنّ الأمر يستوجب مراجعة حقيقيّة ذاتيّة من قبل الأديب نفسه، واستعراضاً عامّاً لمشهديّة الأدب والأدباء.. وهذا لا يتّصل- مبدئيّاً- بما يقدّمون من نتاج، يُختلف على تقويمه، أو جنسه، أو جدواه.. لكنّه يمسّ الأديب كإنسان منّا وبيننا، ولنا علاقة مباشرة أو غير مباشرة به وبمسيرته وحضوره في الواقع والذاكرة.

وليس سرّاً أو مفاجئاً أن نقرّ أنّ لبعض الأدباء حساسيّة زائدة، ولهم خيالاتهم وتساؤلاتهم الكبرى، وتهويماتهم أو هلوساتهم، التي لا يستطيعون السيطرة عليها، أو على بعضها، من دون أن يعني هذا أنّها لا إراديّة تماماً.. وهذا ما يمكن تفهّمه من القراءات والمعايشات، والزملاء والأصدقاء، والمهتمّين المتابعين للفعل الثقافيّ الإنسانيّ العام محلّيّاً وعالميّاً.

لكن من غير المقبول أن يُتّخذ هذا ذريعة أو سبيلاً، من قبل الأديب، لتصرّف طائش أو تحرّك مصلحيّ مشبوه، أو أنّه يحقّ له ما لا يحقّ لسواه؛ ولا سيّما إذا ما كان مسؤولاً في الثقافة والأدب خصوصاً، وغير ذلك من مجالات الحياة، التي لا تحصى. والأمرّ من هذا، أن يصدّق الأديب نفسه، من أنّه مختلف عن الآخرين تميّزاً وتفوّقاً، ويتعامل معهم على هذا الأساس، وعلى أساس ما يَكتب، أو ما “يُبدع” في أيّ موضوع وبأيّ شكل، وقد يشهد له بذلك أشخاص، لا عمق أو جدّيّة أو خبرة، وربّما علاقة بالأدب أو غيره، ويمكن أن يقوّم الأديب إيّاه الآخرين- بصرف النظر عن سويّاتهم، وقربهم من هذا الميدان أو النوع، أو بعدهم عنه- ومن خلال قبولهم لما يقول، أو عدم استساغته؛ سواء أكان ذلك في الثقافة أو السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، ويشهر ذلك في مدوّناته أو عبر الإعلام أو غيره، وقد يتعامل على أنّه الأنموذج والمثال في ما يقول، ويترك من أثر! وهنا يخطئ الأديب مرّات؛ مرّة بحقّ ذاته، حين يضعها في غير مكانها المستحقّ؛ وأخرى حين يسيء إلى الآخرين، ومنهم زملاؤه في الكار نفسه؛ وثالثة حين تشمل الإساءة معشر الأدب والأدباء والمثقّفين؛ وتنسحب عليهم سمعةً ووصمة، على الرغم من أن بعضهم لا يعرف صاحب هذا “الفعل غير الأدبيّ”، ولم يسمع به أو يستمع إليه، أو يقرأ له! إضافة إلى أنّه قد يتمادى في ذلك؛ ليرى نفسه فوق زملائه الأدباء في الجنس، الذي يخوض فيه أو في سواه، ويمارس هذا السلوك مع شريحة الأدباء أنفسهم، ويتعامل معهم حسب مواقفهم من كتاباته، وآرائهم فيها؛ بدلاً من أن يستمع إلى كلّ الآراء، التي تصله، ويبحث عنها، لمختصّين أو هواة، أو متابعين عاديّين، ويستفيد منها بهذا القدر أو ذاك؛ وأخيراً وليس آخراً، قد تؤثّر انعكاسات ذلك الفعل سلباً على المجتمع والناس، والتاريخ الشخصيّ والجمعيّ، والحياة معنى ووجوداً محدوداً، أو ممتدّاً في المكان والزمان والوجود!

المسألة إذاً أبعد من موقف شخصيّ، وأقسى من سوء تفاهم بين شخصين أو أشخاص، أو سوء تقدير، وأوسع من حيّز ضيّق إلى أحياز مترامية، وأكثر تأثيراً من ذنْب فرديّ، حتّى إذا لم يعترف صاحبه بارتكابه، أو لا يراه كذلك.. والقضيّة لا تنحصر بـ “قصّ أذن فنّان، وإهدائها إلى حبيبته”، لو كان هذا صحيحاً، أو بجنون عاشق، أو بتطويل شعر أو تصفيره، أو ترك بقعة شَعريّة هنا أو هناك، أو وضع غليون في الفمّ، أو ارتداء ثياب غريبة، أو غطاء رأس فاقع… إلى علّة نفسيّة سلوكيّة اجتماعيّة.. لا بدّ من تحديدها وتشخيصها ومواجهتها بطرق شتّى وأشكال متنوّعة؛ حفاظاً على سموّ الأدب، وعلوّ قامة الأدباء، الذين نضطرّ أن نقول عنهم: الحقيقيّين، لا مدّعين، أو متسلّقين، أو انتهازيّين، أو منافقين، أو فاسدين..

ولعمري إنّها صفات قاتمة قاسية، نأسف؛ إذ نراها لدى أيّ من البشر؛ ناهيك عن الأدباء والمثقّفين عامّة.

***

غسان كامل ونّوس

اترك رداً