الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2013-09-25

يستمرّ عبور الزمن، ويتقدّمُ عمر الأرض بكائناتها الوحشيّة والنسغيّة والأنسيّة، وتزداد الاختراعات في المجالات جميعها،

وتتواصل محاولات اقتراب التناول والاستعمال من الأسرع والأعلى والأعمق والأدَقّ والأوضح والأكثر شفافيّة.. وفيما يُفترَضُ أن يتمّ ذلك في سبيل راحة الإنسان وسعادته وهنائه، يدهشك ما يسود العالم في معظمه من شناعات تتناقض مع العقل الذي نشط لابتداع تلك الإنجازات، والحكمة التي اجترعَتْ وأوصتْ، والفكر الذي يُعمّم حول المشاركة والتعدّدية والعدالة والإنسانية.. وبدل أن تُجيَّرَ تلك المنجزات الحضارية لتخفيف المآسي وتقليص الجرائم وتنظيف البؤر المنتنة في المجتمع، تلك التي تستشري، على الرغم من أنّ اكتشافها صار أكثر يسراً، وتحديدها وتطويقها.. وبدل أن تُستثمَر الإمكانيات التواصليّة والمعرفة الموسّعة والمتاحة في زيادة مساحة التشارك والتواؤم والقبول بالآخر، والاستماع إلى رأيه وأمله وشكواه.. صارت تُستَغَلُّ لإثارة الفتن وتكريس الفوارق والانقسامات والتحريض على الآخر تسخيفاً وتقزيماً وتكفيراً وقتلاً..‏

وصار موضوع الهيمنة والاستتباع يعتمد أساليب الانتشار الحديثة اتصالاً وإعلاماً وإعلاناً، ويصل إلى الشرائح الأضعف حتّى في مخادعها، فيزيّن لها ما يشاء، ويستدرجها إلى جنّاته الأرضية تمهيداً لإرساله إلى الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار وحوريّاتها وخمرها.. قاتلاً مدفوعاً مأجوراً مأخوذاً، بعد إعادته إلى الظلمات، أنفاقاً وأخاديد ووعورة وغباراً، متحصّناً متسلّحاً بأحدث التقنيات القاتلة و»غير القاتلة»، وأقدمِها، أقربِها وأبعدِها، ومحقوناً بأجهل الأحاديث والأفكار والفتاوى والحكايا التي تستغلّ الغرائز والنوازع والحاجات في أظلم حالاتها..‏

ثمة أشياء ينبغي أن تُرصد وتحلّل، واستنتاجات يُفترض أن تُؤخذ على قدر أهميّتها؛ ثمة مواقف يجب أن تُتَّخذ، وتيارات ينبغي أن تتحرّك في مواجهة ذلك، من دون الوقوع في فخّ الانحياز المشبوه أو التخندق القاتم في هذا الموقع أو ذاك، أو الانقياد الكارثي إلى الحتف الموعود..‏

ليس طبيعياً أن «تُنتخب» في جوّ الديمقراطية التي يجب أن تُحتذى قياداتٌ تقوم بأفعال منكَرة، ثم تكذب، وتسوّق الفجور، وتجيّش من أجل التصرّف على أساس ذلك ثلثي العالم، وتحرّك مجاريَ ومسالكَ ومصالحَ وهيمناتٍ (ناهيك عمّن يتزعّم بانقلاب أو يتسيّد مَلِكاً أو أميراً بالوراثة أو القوّة التي قد تأتيه من الخارج.. بلاأيّ منطق أو شرعة!) حتى لو أدّى ذلك إلى ملايين الضحايا؛ فكلُّ ذلك يجري من أجل هؤلاء الضحايا، وكرمى لعيونهم التي عميت، ولراحة أنفسهم وأرواحهم التي أُزهقت، وستزهق لاحقاً في هذا الميدان أو ذاك الركن من العالم الذي صار فاجعة كبيرة ومقبرة صغيرة..‏

ليس عادياً أن تعجز الأديان والشرائع الحقّة حتّى عن القول الحقّ؛ بل صارت لدى مدّعيها وسيلة وأسلوباً لجرّ الناس من خوفهم وإيمانهم وخطاياهم إلى التهلكة!‏

ليس منطقياً أن تقود الأحزاب أعضاءها ومناصريها في الطريق إلى السلطة، فتصل إلى بحيراتٍ تركد وتأسن، فيفسدون ويتآكلون، أو قنواتٍ متعثّرة تتضيّق فيتناحرون ويتصارعون، ويتسابقون إلى الهاوية!‏

ليس مقبولاً أن تُستخدَم الأفكار والإنجازات المعرفية في سبيل التلاعب بالعالم، والتحكّم بهذه الكرة السابحة في فضاء مقيّد لتحويلها إلى محرقة.. ليس مفهوماً أن يُحيَّد المفكرون أو ينكفئوا، أو يغدوا مفرِّخين لأفكار المهيمنين منظّرين لهم، وأن يصبح المثقفون مسوِّغين للقادرين أفعالهم، وأحكامهم.. وأن يضحي الناشطون مسوّقين للأقوال المفبركة والاتّهامات المصنّعة والإجراءات المقررة..‏

من دون أن ننسى استخدام العِلم والاكتشافات في تصنيع الأسلحة الفتّاكة والأدوات القاتلة (بمشروعية أو رحمة!!) ومن دونهما، في أحدث المختبرات والتجارب التي تستبيح الكائنات التي يتربّع الإنسان على عرشها الزائف..‏

أم إنّ كلّ ذلك طبيعي، ولم يخرج عن سياقه التاريخي المليء بالنكبات والكوارث، وعلينا أن نطأطئ العقل لتمرّ أسراب الكائنات الوحشية المجنّحة لتقتل وتدمّر، ونمرّغ الوعي في نفايات موادّ إبادة، قبل أن يصبح وقوداً لها، ونجمَّد عناصر التفكير والتحليل في مكبّات حضارية، أو تدفن في المقابر الجماعية؟!‏

سنترك مثقفينا- الكثيرين منهم- في انشغالاتهم وتشاغلهم أو غفلتهم وتغافلهم، انقساماتهم وانكفاءاتهم هشاشتهم وتبعيتهم؛ لأنهم ليسوا في بيئات حاضنة للديمقراطية(!)، ونتحدث عن متنوّري بلاد الديمقواطية والتقدم العلمي والفكري، وأحرارها، ومايملكون من استقلاليّة نابذة وإنسانيّة معولَمَة، أن يخرجوا عن صمتهم أو قبولهم أو تسويغهم للعسف والإرهاب الدوليِّيْن بأيّ حجّة أو ذريعة!‏

أين مثقفو العالم؟! أين إنسانيّوه ومشرّعوه وحكماؤه؟! لماذا أصواتهم خافتة أمام ضجيج الحماقة والاستعباد والتسلط والعدوان؟! لماذا تتعثّر رِيَشُهُم، وتتردّد أقلامهم، وتبهت حملاتهم لإنقاذ البشر والبشرية، والكرامة الإنسانية؛ فيما يتحمّس بعضهم للحفاظ على الطبيعة وكائناتها الحيوانيّة والنباتيّة حتّى في أقاصي البرّيّة، وأعماق البحار؟! وهذا بالتأكيد ليس بلا أهمية وتقدير؛ لكنّ الإنسان في خطر، والحقوق والمبادئ والأخلاق والقيم، النظريات والعقائد والأديان، الهويات والانتماءات والأوطان.. فمن يرى ويسمع ويحتجّ وينتفض ويقاوم البؤر التي تتكاثر خلاياها بشكل غير طبيعي، وتتقاوى وتتشارس وتتوحّش، بلا وازع أو رادع؟!‏

اترك رداً