يا زمان الوصل!!
غسان كامل ونوس
القلب جمرات، والشعور حسرات، والذاكرة تضجّ بما كان.. ويكون! الوهن نشطٌ في محاولة خلخلة الأركان وتعطيل المفاصل. الأرق شيطان لا يحاور ولا يستأذن، والرحلة التي كانت إلى “قصدنا” مرجأة، أو تكاد، والروض لا ترحّب بنا، ولا تضحك الأزهار من قلبها؛ فهل بهجة آلية أو مصطنعة، وهل الخضرة التي تعود تقليد مبرمج، أو شعار موسمي مستورد؟!
لا بأس؛ لسنا في حال تسمح بالسؤال عن الحال التي عادت بها الدنيا مزهرة، أو بالجواب؛ لسنا في حال نستطيع معها سماع صدى أنفاسنا؛ هل ما زلنا أحياء؟! ولا وقع النبض، لعلّه ما زال ينبض! لسنا في حال البحث عن الأفضل والأجدى؛ فالخيارات محدودة أو مفقودة، ولا بدّ مما ليس منه بدّ، رغم أنّ من حشوُهُ ورمٌ ما زال يتضخّم ويتكاثر؛ فهل ما نزال نخطئ في تقديره؟! وهل ما نزال نُسَرُّ في ما قال حاسدنا، وما قد فعل، ونساعده في ذلك؟! ولا أتألم؛ لا لأنّ الأوصال المقطعة ترضي، أو تشلّ؛ فحاشى أن يكون الأمر كذلك لدى من يعقل ويحس.. ما يزال؛ ولا لأنّ النصال تتكسّر على النّصال؛ بل للمرارة من تكشّفِ هذا القدْر من القتامة في النفوس، والذهول حيال تفلّت كلّ تلك الوحشية من القيود والأنفاق، والتفكّر في ذاك الرّكام من الافتئات والارتكاس والافتراس في غابة الكائنات.. الناطقة!
لكن؛ ما كان قد كان، ولا بدّ مما ليس منه بدّ!
لم يآلفني عنين الناعورة التي حشرجها تعكّر الماء وانكفاء الورّاد، فسكتت عن الكلام الذي يكاد لا يباح به، مخافة الاتّهام بأنّ لألف حكاية وحكاية مرت على هذه البلاد تأثيرها الخرافي، لولا أنه مستعرٌ ما يزال، والشواهد تترى والضحايا اليوم كثر.. فخامرتني أمنية جريئة: لو أنني ارتضيت لنفسي لحناً أردّده منذ إحساس وإرهاص، أعوذ به من ظلامة الطريق وقفر المسافات؛ لعله تغلغل في الأوصال خوف حراس الحواس والنوايا والهوايات، والدعاة الأوصياء على الرغبات والمصائر؛ أو تهرّبَ من ذوّاقة خالدين في بلد الطرب المعتّق، أو تماهى مع أطيافهم أو ذكراهم..
أكاد لا أصدّق أن هناك من يستغرب مجازفتي؛ فأنتِ تستحقّين؛ وأنّ هناك من ألحّ كي أتخفّى أو أتنكّر؛ فماذا يتبقّى من معنى، حتّى أمام ذاتي، أو مقامك العالي، إذا ما عبرتُ بلا علاماتي الفارقة؟! لن أموّه معالمي، أو أشوّه ملامحي؛ ولا تقبلين؛ لن ألبس قبّعة الإخفاء؛ فسحرك يكفي، وتَوقي وانتمائي، واصطبارك وانتظارك!!
كدت أعرّج على صاحب الهطل الذي ينتظم البلاد، لأتزوّد أكثر، وأغتني.. لكنني فكرت: إنني في عجلة من أمري، وقد أطيلُ الوقوف، وأُستَمالُ لحكمة وتبصّر، أو يطلب مني أن أخفّف الوطء، كيلا أسيئ إلى أديم الأرض المعفّر وأكبادنا الغابرين؛ فماذا عن الذين يولغون…؟! قابلني ما يشي برأسه المقطوع في مفرق الوعي، وحذّرني نَوحُ شادٍ، مما كان قد شكك فيه وتساءل عنه.. الأخيرُ زمانُه البعيد؛ لم يشفع له محبساه وأخدود الوقت المديد، الذي يتحدّر فيه أصحاب الأوائل والأواخر بلا كبير قيمة للجهة والمسار والمحشَرين!
كأنّي لست في زماني، عالقٌ في رقيّم مقروء أو مشفّر، يكاد يضيع وأترابه الكنوز، بين أقدام الهَرْجِ والعَرَج، أو قطعةُ فسيفساء تستحمي بأخواتها في لوحة بين وصيفات، وتتعلّق في جدار يهتزّ وصالة تعتم، فتعود إلى جحيم الغمر والكبت والاحتراق!
كأني أضعت الدرب؛ فالشاخصات مقلوبة، والسحنات غير أليفة، والكرة لا تدور، والحدائق تبور، والأحداق تكاد تغور.. والأصداء التي تتردد في بعض الأنحاء ليست قدوداً، ولا قدّك الميّاس في الشارع الخالي، ولا ظريف الطول الحلوُ المسلّي، ولا في شبّاك الحيّ المتاخم، أو على الأدراج المصعّدة إلى القلعة!
في الركن متّسع متعثر، وفسحات تضيق بصفير الريح وعواء الروح؛ كانت تكتظّ بأنفاس وأطباق وأذواق، وتحتشد بأصحاب الحلم، وأفكار وأوراق.. والرصيف لا يشتعل بالخطو والمراوحة، وفي السّموتِ الحائرة قلقلة وهمهمة، وتمتمات أشباح أو ظلال هوامٍ في حينٍ لا كالنهار؛ الرؤى تتعلّق الآفاق -كانت- والمساءات لألأة وائتلاق؛ لم تكن في حاجة إلى دليل؛ لم تتُه، ولن تضيع في أحياز الفيض والحبور؛ فلا تقنط من تلويحة ألفة أو نداء لهفة، أو ترجيعة ودٍّ كامن؛ بلا موعد تأتي ولا ترتيب؛ فأنت في خيمة مفتوحة على السعة والرضا والحضور المجدي؛ فالوصلة تستعاد، والآهات تتجدّد، والسماح السماح، والبهجة والانشراح، فلا يدركنا الصباح، ولا شهرزاد ترتاح!
لن أقفل راجعاً قبل أن أطمئن على أعزةّ وأصدقاء، أدباء ومفكرين ومثقفين آخرين؛ لن أعود بلا رصيد أقبسه من شآبيب الألفة، ورذاذ شلال الطيب الذي لا يتوقف على عتبة هنا، أو درج هناك، ولا على جرف متعال في مجرى مائي أُجهد أو اُستنزف، وقد يتعثّر، ولا على معبر واهم أو مناور أو مغامر، ولا من يراهن على جماله أو أدائه أو جدواه، ولا حضوره العارض، أو غيابه الجاحد!
لن أرجع قبل أن أزور الكثير من الموائل، وأنفث عني الكثير من المواجع والعوالق، وأتحمّل المزيد من المواقف والمحطات الهامة والمآلات المقدرة..
لن أعود الآن؛ لن أكرر أغلاطي السابقة، فأسارع في الإياب؛ لم أكن أعتقد، أو أظنّ، أو أشكّ؛ هل هذه جرائري؟! سأعيدها؛ لا تغفروا نزوعي وأمنياتي وعواطفي؛ لديّ الكثير مما أريد أن أطمئنّ عليه، وأطمئنه عليّ، والعديد مما لا أريد التعرف إليه، وقد خبرته من سلوكه الخاص حيال ما يجري؛ يراوغ، وينكر، ويسكت عن قول الحق، ويشوّش على المشهد الذي ينضر باستمرار.
بي رغبة أن أتمشّى في حاضراتها، وأتشهّى “حواضرها”، وأتبضّع من أسواقها، وأطوّف بمسرّة على الدرّة من قلعتها؛ بعد أن أقرأ نصوصاً في المركز الثقافي، وأستمع إلى رأي نقدي في فرع اتحاد الكتاب، وأتبادل الحكايا مع الخلان في زاوية أو مجلس.. بي لهفة أن أستمع إلى أغان وألحان، وأرنو بتأمّل وصفاء، وأحلّق في فضاءات وأكوان، وأندغم مع هسهسات ووشوشات، وألوان وأضواء، وأمارس -بلا خوف ولا إكراه- طقوس الوجد والعرفان..
فهل هذا كثير عليّ.. يا زمان الوصل في حلب الشهباء!!
***