الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
الانفعالُ في أقصاه، حركةٌ وصراخٌ وعويل، في مساحاتٍ تضيق أكثر؛ فالنعشُ وصل، وسيعرّج على الدار الصغيرة، وسط السفح المنحدر حادّاً وطويلاً إلى الوادي، الذي لا يزال يمسكُ بطرفِ الموكب؛ كيلا يبتلّ بماءٍ، تخلّف من أمطار الأمس.
الوعورة والانزلاق، والتضاغط… كلّ ذلك وسواه، يجعل التشييع إلى المقبرة المستقرّة على رأسِ القرية في قمّة الجبل، غير عاديّ، وهذا ما جعل حضورها المسودّ الباكي غير ملحوظ، في زحمة الحزن وضغط اللحظات في الإجراءات، التي تسابق غيوماً تتراكم فوق البحر؛ لمتابعة عاصفةٍ مقيمة.
الباكيات كُثر، ويمكن تمييز الأكثر قرباً، تُناهضهنّ أيدي مَنْ ليسوا أقلّ حزناً، وتهدهدهنّ أصوات، ليست أقلّ تهدّجاً؛ فالشهيد كان قد غادر بلا ضجيج، بعد أن ترك عمله، وأهله، وهو، وهم، في أمسّ الحاجة إليه، والتحق بزملائه في الوحدة المحدّدة، ولم يبخل أو يتردّد، حين تبلّغ الأمر.
وهي، على الرغم من انفعالها الشديد، لم تصرخ، ولم تضرب على صدرها أو رأسها، كما فعلت عديدات، ومن حقّها، إن فكّرتْ في حالها، وإن يعلم الناس، أن تفعل ذلك، ولم تقترب كثيراً من تجمّع الباكيات الأكثر قرباً، ولولا بكاءها الصامت، ووحدتها، وانشغالها بلحظاته الأخيرة، كان من الممكن أن تُلاحَظ.
***
حين حضرت السيّارة المستأجرة الصفراء باكراً، ووقفت قريباً من الدار، ثمّ انسحبت من المكان المتضايق، بعد أن نزلت منها وحيدةً، كان لا بدّ للتساؤلات أن تظهر، كانت حريصة على زيارة القبر قبل طلوع الشَّمس، مع الزائرات، وازداد التساؤل، حين دخلت إلى المنزل المتواضع، وجلست مع الجالسات.
لم تشأ أيّ من الحاضرات، أن تسأل؛ فالأمّ والأخوات والقريبات الأُخر مشغولات بوجعهنّ، والأخريات احترمن ألم الفقد ومرارته، لكن إلى حين.
واستْ، وجلست تتقبّل العزاء، وبقيت في مكانها، لم تغادر، كما تفعل المعزّيات، ولم تأكل، أو تشرب، صامتة كانت، ساهمة في نقطةٍ ما من الحيّز المحتشد، يبدّلها القدوم المضطرم، والمغادرة المتواترة.
***
ليس الأمر سهلاً عليهم، أعرف ذلك، وليس مناسباً أن يُذكر الأمر الآن، ولا فائدة من ذلك؛ فكلّ شيء سينتهي بعد حينٍ بالنسبة إليهم، قد يزيدهم حزناً، ولن أخفّف عنهم، ولا يستطيعون أن يخفّفوا عنّي؛ فحملهم ثقيل، وحِملي، وسيزداد ثقله، ولا وقتَ ولا مشاعر لذلك..
سيُستغرب حضوري، وقد يُستهجن، وربّما يَستعذِب ذلك أحد!.
سيسألون.. ماذا أقول؟! ما الذي بيننا؟! ما الذي يربطني به؟! ليس هناك من شيءٍ سوى أنّني أحببته، وتعلّقت به، وأحبّني، وأراد أن ينسحب، حين علم أنّ أهلي غير موافقين؛ فإجازتي الجامعيّة، لا تليق بها أعماله الحرّة، وإن كان عملي غير مرتبط بوظيفةٍ دائمة، وهو ما جعلني أتعرّف إليه، في المعهد الخاصّ؛ حيث أعمل، وعرفت مدى جدّيته وشغفه بالحياة، وقد أُصبحُ بلا عمل في أيّ وقت؛ كما كنت إلى مدّة قريبة، لم تقبل أمّي أن تخفّف من حدّة أبي، وكانت أكثر منه رفضاً، ولم يقبلا أن يحضر إلى البيت لمجرّد التعارف، ماطلت في قبول زيارته، من أجله؛ لمّاح هو ونبيهٌ، فهم أنّ هناك عثرات، قال: سأسجّل في التعليم المفتوح، وربّما فعل، قبل أن يلتحق، لكنّ الرفض كان يتعاظم، وحبّي له يسابق، ويفوز!.
حاولتُ أن أقول لهم، بعدما تعرّفت إليه أكثر: أفضل من كثيرين من أصحاب الشهادات، زملائي، من الذين أتعامل معهم، من تعرّفت إليهم في الجامعة، إخوتي! اهتماماته أكثر إنسانيّة، جدّيّته تُحترم، جودة عمله، ومواعيده، واحترامه لنفسه وللآخرين، كلّ ذلك مختلف، لكن من دون جدوى.
حاولتُ أن أشرح ما أنا مقتنعة به: ليست الثقافة شهادة فحسب.. عديدات من تزوّجن بأقلّ منهنّ تعليماً، المتعلّمات كثيرات، وإذا كانت كلّ منهنّ، ستتزوّج من يكبرها سنّاً وشهادة، ستظلّ نسبة كبيرة بلا زواج؛ أليس هذا ما نراه الآن؟! في ظروف الأزمة المتفاقمة، أين الشباب أصحاب الشهادات؟! أين مواقفهم التي ترفع الرأس؟! البسطاء هم المهمومون والمعذّبون والمقاومون والمضحّون، هم الباقون في أرضهم وديارهم وبلدهم، كثيرون طاروا، وهجروا، لعملٍ وأجرٍ وأمان…
لم أفلح في زحزحتهم عن مواقفهم، ولم يرحموا مشاعري. حاول أن يبتعد متفهّماً ومراعياً ومقدّراً؛ لكنّي تشبّثت به، وتوسّلت إليه، من أجلي..
أحاول أن أبتعد عن الانشغال بمن يحدّق بي؛ هل ظهر انفعال غريب على ملامحي؟!..
كنت سأقول لهم، مرفوعة الرأس، لو كان يفيد، بالرغم من حزني وخوفي: ها قد التحق، حين استدعي؛ أين أبناؤكم؟! إخوتي؟! كيف يبحثون عن منفذٍ أو ثغرةٍ أو حجّة؟!.
كبر في عيني أكثر.
لا أنكر أنّي ضعفت، وقلت: دبّر حالك كما يفعلون، أساعدك في البحث عن طريقةٍ للخروج، لم يقبل، وكنت سعيدة وفخورة؛ كما أنا الآن: فخورة وحزينة.
***
كيف أعرّف نفسي؟! وماذا سيقولون عنّي؟!
لست خطيبته، ولا زوجته؛ فهل أكون أرملته، أرملة حبّه؟! هل يترمّل الحبّ؟!.
وماذا ستكون الحال، بعد أن ينتهي العزاء؟! هل سينتهي العزاء بعد أيّامه المعدودات؟!.
كلّما عدت إلى البيت، تشاجرت مع الجميع؛ يحاولون منعي من الخروج صباحاً إليه، يقولون، ومعهم حقّ: ماذا يقولون عنك وعنّا؟! تحضرين الجنازة؟! آمنّا، تعزّين؟! فهمنا، لكن.. أن تذهبي كلّ يوم، كلّ يوم، وتداومي من قبل طلوع الشَّمس، إلى ما بعد غروبها؟!
هذا شيء لا تقوم به عاقلة، ولا يقبل به محترمون!!
أفكّر في ما يلي من أوقات، لا أصدّق غيابه الأبديّ، وقد استأنست بغيابه القسريّ، وفكّرت فيه طويلاً، ووصلت إلى قناعاتٍ فيها احتمالات كثيرة؛ منها ألّا نكون معاً، ونكون في قيد الحياة، لكنّ هذا الغياب دمّر تلك القناعات؛ فلا أحتمل ذلك الآن؛ كما لا تحتمله والدته وأخواته؛ مع أنّه الحلّ المثاليّ؛ إن فكّرت بواقعيّة، ولم يكن خياري ولا خياره؛ لعلّه احترام الأقدار!.
هل تقبّلوا فكرة وجودي معهم هذه الأيّام الكابوسيّة؟! أم الواقعة لم تسمح بالتفكير في هذا؛ ربّما فكّر في ذلك آخرون، هل يتفهّمون فكرة زيارتي لهم، بعد انتهاء العزاء؟!.
هل أذكّرهم به، وأجدّد حزنهم؟! وهل سينسون أو يغفلون، أو يَعتَقُ حزنهم، ويعتادون على الأمر، بعد أن صار الفقد رفيقاً حاضراً متوقّعاً في كلّ لحظة؟!.
وماذا عنّي؟! هل سيكون بإمكاني الحفاظ على العهد؟! هل أستطيع مقاومة الاحتمالات الأخرى؟! وهل يمكن أن أوافق على أوّل صاحب شهادة، تختلف عن الشهادة الأغلى، التي توسّلها إكراماً لي، ربّما، ولَهُ ولحكايتنا المحرومة، وحصل عليها، فحرمتني منه؟!.
سأزور قبره، كلّما استطعت، بالرغم من كلّ ما قيل ويقال؛ والحبيب يُزار، سأزور مثواه، نذراً وعهداً ووفاء؛ والشهيد يُزار؛ فكيف إذا ما كان الشهيد حبيباً؟! وكنت أرملة حبّ لا ينضب؟!.
* كاتب وشاعر وقاص
التاريخ: الثلاثاء4-5-2021
رقم العدد :1044