الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة ع 15492
تاريخ النشر: 2014-06-11

من المعتاد أن يلجأ المتحدّثون إلى الاستعانة بما يؤكّد صدقهم، أو جدّيتهم، وتمكّنهم من الفكرة التي يطرحون، أو ما يقرّب المعنى المقصود إلى المتلقّين؛ وتشكّل الأمثال الشعبيّة جزءاً مهمّاً من هذه المتّكآت التي يجد فيها مُريدُها سنداً مضموناً، وشاهداً مختبَراً على مرّ السنين..

لكنها -بلا شكّ- ليست المورد الوحيد؛ فهناك الأقوال المأثورة، والحِكَم، والحكايا، والوصايا، والأبيات الشعرية التي تتضمّن حالات مشابهة؛ -ولعلّنا نستذكر الشاهد الذي كان يلحّ عليه أساتذة اللغة في موضوعات التعبير المدرسية-!‏

لكن الفارق بين الأمثال الشعبيّة والشواهد الأخرى، يبدو مهمّاً؛ فللأمثال ساحات واسعة، ومديات فسيحة، وأحياز متنوّعة ومتعدّدة، تستطيع تسويغ أيّ حالة، حتّى لو كانت سلبيّة، وإسناد أيّ مسار حتّى لو كان خاطئاً؛ فهي خليط عجيب ممّا قيل وتفاعل وانتشر وعُمّم، وبقي في الذاكرة التي تستدعيه للتداول في الوقت المناسب؛ لأنّ تجارب الحياة متّصلة، والخيّر يحاول استثمار ما هو جميل وجليل ومفيد، والشرّير يسعى إلى تبييض نزواته وشطحاته..‏

وهنا؛ حيث تظهر أهمية هذا الشاهد، تكمن خطورته؛ إذ تستطيع أن تقذف من تشاء، بما تشاء، وأن تنتقي من ركامه الذي يمكن أن يتشكّل من حبيبات صغيرة أو كتل كبيرة، بألوان وكثافات وأشكال بما لا يحصى؛ لأنّها بعض من الحياة بحلوها ومرّها، نصاعتها وعَكَرِها، بمحفّزاتها ومُحبِطاتها، بنجاحاتها وخيباتها..‏

ويشترك في مسألة الاستعانة بهذه الأمثال المتحدّثون العاديّون والمختصّون، المثقّفون والسياسيّون والاقتصاديون والباحثون الاجتماعيون..‏

كما يمكن أن يستخدمها الأدباء في نصوصهم، وتعدّ دليلاً على الاقتدار والاكتناز والامتلاء بالفكرة أو الموضوع..‏

وإن كانت الحال الأدبيّة هذه تخرج بشكل أو آخر عن جوهر طرحنا المتعلّق بموضوعيّة استثمار الأمثال؛ لأنّ لها صلة بالمؤلّف الساعى إلى الإقناع، الذي يمكن أن يأتي عن طريق نجاحه بالإيهام، وإقواء وجهة نظر الشخصيّة وتَمَثُّلِها لكيانها الذي أراده مُكوِّنُها، ولا تأتي في صلب الأداء الواقعيّ الحياتيّ ومشروعيّة السلوك والممارسة؛ لكنّها لا تبدو منبتّة عن مقاربتنا لموضوع الأمثال..‏

إن وجود العناصر كلّها، تلك التي يمكن أن تساعد في تأكيد المعنى أو توطيد المبنى، بصرف النظر عن صوابه، أو خيره أو إيجابيته.. يبتعد بها عن أن تكون ذات نفع مضمون، أو دليل إثبات مقنع؛ فهي تشير إلى أنّ مثل هذا قد حصل بالفعل مرّات، خلال سياقات الحياة ومعارجها، وأنّ هناك من عاش مثل ذلك، وارتآه واعتمده، أو خبره، أو لاحظه، أو سمع به أو أشار إليه، أو استعان به؛ لكنه لا يصلح توكيداً على صدقه، ولا يُعفي الخاطئ من تبعات خطئه، ولا يحميه من انعكاسات فِعلته على الآخرين أو عليه، كما لا يُدينه، ولا يُعتدّ به دليلاً عليه.. إنّ هذا ما يجعل اللجوء إلى الأمثال شواهدَ للتخويض في كلّ شيء، وإقحامها في كلّ قول أو رواية أو توصيف.. نوعاً من الّلغو الذي لا يفيد، والزّبد الذي لا يُسمن ولا يُغني.‏

وتتساوق مع هذا الأمر ذاته بشكل أو آخر حالات عديدة في نصوص مقدّسة، تكفّر، تهدّد، تُسالم، تُجرّم أو تُبرّئ، تغرّم أو تكرّم.. وبصرف النظر عن البحث في أصلها ومسوّغات ورودها، وعن أنّ إخراجها من سياقها يشوّهها، ويُبعد عنها صفة القدسيّة والمصداقيّة؛ فإنّ مجرى القول الذي يُستشهَد به، يمكن أن يبيح القتل، أو يُعفي المجرم الحقيقيّ من أيّ تبعة، ذاك الذي يمكن أن يكون القائمَ بالفتوى والأحكام الشرعية ذاته! وهذا هو الخَطِر والمُدمِّر والكارثيّ؛ لأنّه يأتي من عند الله؛ كما يدّعي قائلوه ومستغلّوه، وقد تكاثروا واستشروا..‏

الأمر ليس عبثياً ولا عارضاً، وقد أصبح جزءاً من أسلوب بعض ممارسة الحياة، والهيمنة على شريحة واسعة من الناس، ووسيلة للحكم؛ اعتماداً على ما لا يأتيه الباطل من صوب!!‏

اترك رداً