شهادة
ندوة الرواية والمقاومة
نعيش.. نقاوم
غسان كامل ونوس
ما زلنا نعيش..
جواب يخرج أحياناً من مسام يضيق، ربّما من دون قصد، لكنّه يعبّر أكثر من أيّ قول آخر، يحاول تلخيص معنى للحياة/حياتنا، أو عنونة فصل من فصول المعاناة، التي تتزاحم..
ما زلنا نعيش..
ما الذي يثبت ذلك؟! ربّما أمواج الألم، التي تشعرنا بأنّ إحساساتنا، ما تزال تعمل بطاقة ما، برغم تدافع النصال.
أن تبدأ من العدم، يحتاج ذلك إلى قدرة غير عاديّة على مقاومة كلّ الظروف غير المواتية، والشروط التي تحاول إعاقة الاستمرار في الخطو، والحصول على لقمة العيش، وجرعة التنفّس؛ ولا سيّما إذا ما كانت قابليّة تأقلمك ليست شهيّة، لِما يمكن أن يوضع لك من أشراك، أو لما يعترضك من موالد ومباركات وانحناءات..
مع ذلك، فإنّ المسافات يتمّ تجاوز الكثير منها.
تعرف ذلك، ربّما من تغيّر العناصر والمفردات، أو الوجوه.. قد تختلف دقّة الأسنان، وأشكال المخارز، وشعور الأيدي أو القفّازات، التي تسدد أو تغرز؛ لكنّ موجات الألم، تكاد تتماثل، وبتواترات لا تختلف، برغم تعدّد الأسباب.
تستطيع أن تقول إنّك تخوض أشرس المعارك، في ميادين لا دخل للعدوّ المعروف والمعهود بها، أو لا وجود مباشراً له فيها، برغم أنّ النتائج، لا تبتعد عن ذلك العدوّ؛ ميادين يُفترض أن ترتفع رايتك فيها، إلى جوار الرايات الأخرى للآخرين، الذين يستحقّون.. مواقع ليس لآخرين- وأنت منهم- مواطئ أقدام فيها، إلّا لذوي القربى والمصالح المشتركة؛ المصالح التي لا ترحم.
*
من الشائع، أن يكون لمن يموت في ساح الوغى، أمام عدوّ معروف ومتوقّع الغاية والاتّجاه، فضائل وميزات –وهو يستحقّ أكثر- يُحتفى باستشهاده، ويُحترم، حتّى لو لم تكن المعارك جدّيّة والاستعداد كافياً، يُرفع جثمانه على الأكتاف؛ ملفوفاً بالعلم الوطنيّ، ويوارى الثرى في موكب مهيب، ويُخلّد اسمه في مواقع وذاكرة وتاريخ..
في الوقت الذي يموت فيه كثيرون في جبهات أقرب وأكثر، من دون منحة الشهادة، ومن دون احترام من أحد، ومن دون موكب أو غار أو خطب؛ بل ربّما رافقته، مع مراسم الدفن المختصرة؛ إن كان هناك دفن، وربّما سبقته، ألقاب واتّهامات، تضيّق القبر أكثر، من دون أن تُدفن؛ لتلاحق سيرته، فتكيل المزيد من التراب والحجارة وأشياء أخرى غير طيّبة الرائحة فوقه، قد يندى لها جبين من بقي من سلالة، تعجز عن الظهور برأس مرفوع؛ لأنّ من انتهى، لم يترك لهم ما يؤمّن ذلك، إلّا مواصفات ومسؤوليّة وآراء ومبادئ، كان يهذي بها حتّى لحظاته الأخيرة.
*
إنّ على من يحاول أن يستمرّ، تجاوزَ عنت الظروف وبؤس المناخات: الفاقة ووعورة الطبيعة، والغبار الذي يكاد يلفّ كلّ شيء؛ فصول الشحّ، التي لا تنتهي فيها همهمات قلق الوالدين، وملامح الشحوب، مع تضاعف الواجبات، وتضاغط المتطلّبات، وتضايق النفس في البيت الحجريّ ذي السقف الترابيّ، الذي لا تكاد نافذته اليتيمة، تكفي لتأمين كثير من الضوء والهواء، حتّى مع انفتاح الباب الخشبيّ العنيد؛ إضافة إلى وقع قطرات مياه في أركان، يؤمّل منها أن توافر الدفء والأمان.
وحين تدور مواسم الدلف والدحل والوحل والدخان، تحلّ أوقات الهجير والحشرات غير الأليفة، التي يمكن أن تستوطن الجحور، أو تستطيب طلاوة التراب. ويمكن أن تعبر أمامك، أو تكمن لك؛ متوارية بين الحجارة أو الأشواك، التي تتطاول على موقع القدم في الدروب، التي لا تتّسع لأكثر منها.
ستعبر تلك الأوقات، وستعبرها معك كائنات، أدمت أيديها شراسة التشبّث بكلّ ما يمكن أن يكون رافعة للعبور، وأنهكت قاماتها انضغاطات لا تنتهي..
مع كلّ ذلك، لم تكن نوافذ الأمل لتغلق، ولا كلمات التحفيز، تنوس نضارتها، أو يسود القنوط.
ستعبر تلك الأوقات، وأنت تنقل إلى تلك الكائنات– وهي تستحقّ- جوازات عبور المفازات الضيّقة، فتنتشي، وتعذب اللحظات؛ هكذا يظنّون، وتظنّ. لكنّك ستجد نفسك، بعد حين، لا يطول، في دهاليز، لا تصلح إلّا لعبور الأقزام! ستقع في أشراك، لن ينجو منها إلّا من يأكل دودها!
ولن تفعل.. برغم أنّ أنياب الحاجة، ما تزال تُسَنّ؛ فليس أن تأكل، وتنام، وتنتقل، يعني أنّك تعيش..
صرت تأمل أكثر، تنتظر أكثر، سنواتك ونضوجك وشهادتك، تضعك كلّها في حال للعيش، يُفترض أن تكون كريمة، لا في موقف يحتاج إليه أهلك، ويمنّون النفس، أن تكون لك أسرة، وتحتاج إلى ذلك أيضاً، وتتمنّاه، وتتعذّب من أجله- لكن..
صحيح أنّك لم تقعد، ولم تتوانَ، ولم تقصّر، حتّى في التزوّد بأكثر ممّا تطلبه المهنة/المهندسة، وتغتني بما يفيض عن المنهاج. وتتزوّد من قرارات عديدة، ما يحفّز على الاستزادة من عوامل الصمود. وعليك- برغم أنّ الظروف، التي وجدت فيها، لا تساعد، ولا تشجّع- أن تقدّم في مجال عملك المبادرات، التي يمكن أن تعلي من شأن الإنجاز، وتحقّق الخطط، وتترك مثالاً حسناً من الجدّ والمثابرة والاندفاع واحترام العاملين، لكنّ ذلك لا يكفي.. بل إنّه السبب، الذي سيقصيك عن العمل، أقصد الشخصيّة الرئيسة في رواية “المدار”.
فالعمل في الشركات العامّة، المؤسّسات العامّة، وربّما في مختلف الدوائر، مرهون برأي السيّد القادر المقتدر، يرفع من يشاء، ويُسقط من يشاء.. الرغبات كثيرة، والمشتهيات لا حدود لصلاحياته في منحها لمن يراه مناسباً للصفقات، أو من يراها مناسبة لساعات هنيّة، تخفّف عنه وزر الأعباء الجسيمة، التي يتحمّلها في بناء الوطن، والمسؤوليّات الهائلة، التي يتجسُمها هو وأقرباؤه ومقرّبوه، ممّن يرون أنّ القطاع العام رزق “داشر”، يعلّم من لم يتعلّم بعد أصول الأخذ بالمعروف، و”الحلال على الشاطر”؛ حتّى المشرفون على المشاريع من قطاعات أخرى عامّة، يسوّغون أن ما من شيء يستحقّ الإشراف؛ فمن الدولة وإليها؛ فما الفرق بين العبّ والجيبة؟! لكنّ الجيوب تتكاثر ما بين شطارة وفهمٍ للقوانين إلى درجة ابتلاعها، وغباء ونهم يثير التدشّؤ، ويا ويل البيدر حتّى من حُماته!!
لم يكن أمام حسّان أخيراً، هو الذي لم يستطع/لم يحاول أن يتنازل، أو يدير سلّمه بالطول، كحال بعض زملائه/الكثيرين منهم ومن العاملين الآخرين؛ لم يكن أمامه سوى الامتثال إلى أمر المصلحة العامّة، التي قرّر السيّد المدير التالي بلسانها، أنّ حسان لا يصلح لمسيرة الإنجازات المظفّرة، ولا بدّ من إزاحة العثرة من طريق التيّار الهادر.
*
قبل ذلك أو بعده، في الرواية: “تقاسيم الحضور والغياب” كان لظروف من نوع آخر حصار آخر: التخلّف والتكاسل، والوقت الذي يفيض عن الحاجات، التي تتكفّل بها العادات، والبعد عن مراكز الحركة، والأسئلة، التي تكرّسها حالات لا تفسير مقنعاً لها.. وكان لكلّ ذلك دوره في الحصار، الذي يُحَسُّ أكثر ممّا يظهر، وكأنّما احتاج إلى مُسوِّرٍ، يقارب الأجزاء أكثر؛ رجل دين مستحدث، يتقاعد بعد خدمة طويلة، مشكوكٍ في مصداقيّتها ونتائجها المثرية، يعود إلى مجتمع القرية، الذي تركه منذ زمن طويل، بعد أن نال من فتاتها المتمردّة. يعود فيبدأ تأثيره يتغلغل في نسيجها المهلهل، ويبعثر حتّى الأثافي الثلاثة /الأصدقاء/الهِدْريّة، ويفوز بواحدة.. وربّما كانت القساوة، تتضاعف على نبيل الأكثر إحساساً بالمسؤوليّة والخطر؛ لأنّ الرجل العائد عمّه، فيلوب في مقاومة أشرس على فتوّته، وأعقد من قدرته على التحليل والتصدّي؛ فيغدو الصمود في حدّ ذاته نوعاً باهراً من المقاومة. تضاعف من أهمّيّة ذلك هشاشة الزمن، وضحالة المتاريس، وقوّة العواصف. يتقاوى المقاوم مع همسات ألفة، تنبثق من ثنايا الطرف الآخر، وشبح الضحيّة القادر على خلخلة التوازن في الحصن، الذي بدأ يعلو؛ لأنّه من طينته نفسها.
*
في وقت مهشّم، وبيئة تفتّش عن ضحاياها؛ لتمثّل فيها جرائم، ترتكب عن طريق قوّة عظمى، أو لتنقّذها حسب معجزة كبرى، في واد غير ذي زرع برغم وابل المطر، وعنف العاصفة؛ في واقع كهذا، يكون للنبتة، التي تصرّ على أن تتنفّس، وتخضرّ، قوّة وعظمة، من دون أن يكون ضروريّاً أو حتميّاً، أن ترفع هامتها عالياً في مغامرة، يمكن أن تقود إليها مراهقة، أو يدفعها ردّ فعلٍ منفعلٌ، أو استفزاز قارس، أو إحساس بالانحطام وشيك.
لكنّ الإدراك يحمي، والخوف يساعد، والحرص على الاستمرار أو الدافع للبقاء..
من دون انثناء القامة، أو طأطأة الرأس، ومن دون تكيّف، يلغي تمايز العناصر والإرادة، ويلقي بالمرء في الشبكة المتحفّزة، أو الحضيض الخالي من النقيق.
*
مثل هذه المقاومة، التي تعدّ بطولة مقدّرة لدى من ينظر إلى الأمور بقراءة واعية، كفيلةٌ باستمرار الجذوة، ولو تحت الرماد، وحتّى لو أطيح بها في نهاية العمل الروائيّ، فإنّ في ذلك مناسبة للسعي؛ أن لا تحدثَ مثل هذه الإطاحة في الواقع.
*
من دون تردّد، أحترم هذا النوع من المقاومة، وأعوّل عليه كثيراً، في استمرار توازن ما أتخيّله، أتوق إليه، وأسعى.. فهو كتلة الحماية الذاتيّة للحقّ، الذي تعوزه القوّة الكافية. وليس شرطاً لمن يقوم به أن يكون عملاقاً في الفكر والسياسة والأدب والعلم، أو أن يكون محاوراً فذّاً أو قائداً محنّكاً، يتّخذ القرارات، التي لا تقوم بتنفيذها المؤسّسات، التي ينتمي إليها. بل يمكن أن يقوم بكلّ ذلك من موقعه ومسؤوليّاته، أنّى كان هذا الموقع، وأيّاً كانت المسؤوليّات؛ بكل بساطة وسموّ، يمكنه أن يرفض المرغّبات والمشهّيات؛ ليستمرّ في أداء ما أمكن من قول أو عمل..
وما يعجبني في مثل هذه النماذج الإيجابيّة، أنّها تقوم بما تقوم به بحسّ المسؤوليّة والاهتمام الجدّيّ، والوعي المتمثّل حتّى لو لم يكن كاملاً.. إنّه تحفيز للقوى الكامنة، التي لا تتوق إلى الشهرة، إلاّ من خلال احتراق فاعل.. ولا تتقافز من أجل فوز مبرمج أو كأس مزيّف في سباق مهزوم.
لم يتنازل حسّان ونبيل على اختلاف الحالين في روايتَي: المدار، وتقاسيم الحضور والغياب، ولم تكن النهاية محسومة الفوز، كذلك الأمر في روايتين تاليتين، لا يتنازل من يتحمّل المواجهة لمجرّد الوجود غير المجّاني، الوجود المتراصّ من دون إمكانيّة التحلّل والتفكّك.. إنّه الصمود، الذي يشكّل عثرة في وجه أمواج الغايات، التي تسوّغ الوسائل، وتمتهنها، وتبتدعها، وتبدع فيها.. الصمود الذي يمثّل أسّ الكائن الواعي وجوهر وجوده ومعناه وغايته؛ كما تقول كلّ الشرائع والتعاليم الإنسانيّة، الصمود المقاوم.. وليس جديداً مواجهة الكائن المعذب هذا/ الخطّاء والشهّاء، لأشباهه من كائنات، تستذئب، وتستوحش؛ حتّى تستسيغ أكل لحم الأخ الحيّ؛ ناهيك عن الميت.
وأستذكر هنا قولاً سمعته ذات “مرحباً يا صباح”، وكنت أحلم وآمل وأسعى ما أزال؛ من أنّ “المطر يبلّل الطيّب والشرير، لكنّه يبلل الطيب أكثر؛ لأنّ الشرير يكون قد سرق مظلته”!.
وما زال الشرير يسرق المظلّة والقوت والدفء والأمان، ويسرق حتّى المبادئ والشعارات والتعاليم والمصلحة العامّة؛ ليحارب بها الطيّبين العزّل إلّا من تشبّث باستمرار وجود وتفكير وقدرة– ما تزال- على الصمود فالمواجهةِ فالفوز..
لم يكن هيّناً، ويستمرّ غير يسير، القولُ بالجهاد الأكبر.. وليس انتقاصاً ممّن يواجهون بصدورهم وأعينهم، دروع الأعداء الغاصبين ومخارزهم، أو من أعمالهم الاستشهاديّة المباركة، وليس بديلاً عن جهادهم.. وليس تسويغاً لعجز عن مواجهة مماثلة، أو عدم توافر الإمكانيّة والتجربة المناسبة.. لكنّه تأكيد على أنّ المقاومة في جبهة داخليّة مفتوحة على كلّ الجهات، ليست أقلّ خطورة أو شراسة أو حيلاً أو محاولات استسلام وعمالة، وليست أقلّ سهاماً..
وليس نافلاً القول إنّ الفوز في المواجهة المسلّحة على الجبهة، يحتاج إلى فوز في معارك السلامة والنهوض؛ هذا الفوز، الذي يتطلّب تماسكاً وتواشجاً وأماناً وثقة وكفاية وعدلاً.. يتطلّب وفاء وإخلاصاً وجدّيّة وشفافيّة ومسؤوليّة، يتطلّب اعتداداً مكتنزاً، وتمثّلاً خيّراً، وحساباً وثواباً وعقاباً، وأناساً قادرين على الفعل، يدخلون إلى المصلحة العامّة من أبواب لا يحرسها الحرامية..
***
غسان كامل ونوس