ليس من الشطط القول إنّ وراء الاكمة ما وراءها أو – وراء “الربيع” ما وراءه- إذا ما أُمعن في أحداث المنطقة العربية قراءة وتحليلاً وتبصّراً: مراحلَ وفصولاً وحيثيات؛ بل صارت الأمور مكشوفة ومفضوحة؛ تلك التي جاءت تنفيذاً لمشروع “الفوضى الخلاقة” الأمريكي عنواناً وإعلاناً وإدارةً وغايات.. وقد تجاوز التمزيق والتفريق والتخريب والإدماء ما على الأرض، إلى ما في النفوس والأذهان من اعتقادات وقناعات ورؤى وأفكار، تشويشاً وتضليلاً، وصولاً إلى الكفر بكلّ شيء، أو تكفير كلّ آخر؛ فيصبح المرء عرضة للضياع أو الانصياع..
وليست الأسماء التي أُطلقت من الخارج، والمسمّيات التي اُستخدمت يافطاتٍ وأهدافاً، والعبارات التي جرى تكريسها عبر ضخٍّ متواصل من قنوات إعلامية، وشخصيّات سياسية وثقافية واقتصادية، ومحلّلين ومراسلين.. سوى الجزء (المعرفي) الأساس من المشروع؛ ابتداء من “الربيع العربي” اللقب اللقيط، وليس انتهاء بالتكبير المرافق للنّحر المشهود جزاءَ انتماءٍ غيرِ مُختار، أو قولٍ برأيٍ آخر؛ مروراً بعدد كبير من الألفاظ والتعبيرات والألقاب، التي كانت موجودة، وجرى تسويقها بمعانٍ فضفاضة أو أصداء رجراجة، أو مفهومات مغايرة إلى درجة التناقض؛ ومنها ما جرى تسفيهه وتقزيمه وتعكيره، حتّى أصبح تهمة بعد ما كان امتداحاً، وجريرةً بعد ما كان اعتزازاً. وما المَبالغُ الباهظة التي اُعترِفَ بتخصيصها من قبل الإدارة الأمريكية لتشويه صورة المقاومة في لبنان منذ سنوات قليلة، وإقرار “زعيم” لبنانيّ، على الأقلّ، بالإسهام في ذلك، سوى “شاهد من أهلها”!
وليس العبث بمفهوم “الثورة” خافياً؛ فهل من ثورة بلا نظريّة أو أفكار، أو برنامج عمل يُطرح على الناس، ليقتنع به من يقتنع، ويسعى إلى تحقيقه؟! أم هي مجرّد شعارات وعنوانات محبّبة مرفوعة بلا عُمُدٍ راسخة متماسكة، ولا مضامين مسوّغة؟! ثم هل تكون ثورة من دون قادة يحملون سمات مميّزة وخصالاً مقدّرة، معروف عنهم التضحية والزهد والاهتمام بالشأن العام، وتُمثُّلُ هموم الوطن والمواطنين، لهم تاريخ حافل بالنضال من أجل الحقوق ورفع الظلم ومحاربة الفساد..؟! وإذا افترضنا أنّهم غير موجودين مسبقاً، أو هم قلّة وبعيدون عن الواجهة، لأيّ سبب، أليس على الحراك الشعبي، إذا ما كان حقيقيّاً، أن يفرز مثل هؤلاء القادة؟! بدل أن يُفرَضَ على المشهد رجال مستهلَكون منبتّون، يغيّرون انتماءاتهم وعقائدهم من اليسار إلى اليمين، أو “إلى الأمام سر”!، أو يُؤتى بأشخاص منبوذين، أو غير معروفين إلّا من قبل من عيّنهم، أو زعّمهم، وجعلهم أدواته التي يحرّك بها الطبخة الشائطة، كيلا “يلطّخ” يديه بالمفرزات المرافقة والنواتج التي تفضح الطبّاخين الكثر، وتُدينهم، أمام الرأي العام إذا ما استيقظ، والتاريخ إذا ما كتب بمصداقيّة.
وماذا عن مفهوم “الجهاد” الذي شُوّه وعُكّر ووُجّه الوجهة الخطأ، وعبّئ بما يفسده؟! فـ”الجهاد الأصغر” حسب الحديث الشريف، جعلوه الأعظم، وسعوا إليه من القريب والبعيد، وجنّدوا له المقاتلين بلا حساب، والانتحاريين بلا احتساب، ولم يعد العدوّ من يأتي البلادَ غازياً مخرِّباً مدمِّراً منتهِكاً الحرمات؛ بل صار هذا القادم من أقاصي الدّنيا مجاهداً في سبيل الله، والسماوات العلى منشغلة بتحضير الولائم “القدسية”، والنديمات الحور، لمن يُزهق روحه، وأرواحاً مساهمة ومسالمة! وغدا العدوَّ هو الوطن وأبناؤه ومؤسّساته ومقدّراته! هذا البلد الذي بات يحتاج من أجل “الجهاد الأكبر” الحقّ إلى إمكانيات وكوادر وسنين جرى استنزاف الكثير الكثير منها!
حتّى الدّين الذي قام كثيرون باسمه، وأقاموا إماراته، أو يسعون إلى دولته التي تطبّق تعاليمه المتحجّرة بأدواتِ الجاهلية، صار يحتاج إلى أن يُلحَق بتوصيفٍ يميّزه عمّا يدّعون: كالاعتدال والانفتاح؛ وقد بات “التكبير” الذي هو عنوانه ورمزه، مثار استسهال واستغلال، وصار من الصعب تحمّل الصور التي ترافقه، والخيالات التي تتواتر آناء سماعه في أيّ وقت أو مناسبة، ولا سيّما من قبل الأطفال.
ومن التعبيرات التي أصبحت تتردّد كثيراً –أيضاً- خلال العدوان على سورية:
الأقلّيّة والأكثريّة؛ إذ لم نكن نسمع بهاتين الكلمتين في بلادنا؛ ليس فقط لأنّ مفهوم الانتخابات كاد يكون غائباً؛ بل لأنّ مفهوم المواطنة هو السائد من دون ادّعاء أو تنظير، ولم يكن الانتماء موضع شكّ، لا في الوثائق والثبوتيّات، ولا في الأفكار والقناعات (موضوع الأكراد كان مختلفاً عن هذا السياق). وليست إثارة قضية الأقليّات من قبل الغرب مسألة إنسانية؛ بل عملية إيغال في إثارة الفتنة، واستمرار في التفتيت والتمييز، ومدعاة للتدخّل الخارجي لـ “حماية الأقليات”، وهناك أمر آخر لا يقلّ خطورة؛ إنّه مفهوم “الأكثرية” الذي لا يُقصد به ما تريده غالبيّة السكان في موضوع معيّن، انسجاماً مع الديمقراطية التي يدّعون الترويج لها، والمساعدة في إنجازها، أو فرضها بالقوّة حتّى العسكرية؛ بل هو تحريض مفضوح يتعلّق بـ”الأكثرية” الطائفية التي يجب أن تهيمن وتسود! وبالتالي يتمّ اللعب على المفهومين بخبث ولؤم وتسويق بهدف الخلخلة والتصدّع، وصولاً إلى الاشتباك.
الشبّيحة؛ فليس عبثاً أن تقوم قناة تلفزة جُنّدت لتهديم سورية، وسفك دماء أبنائها، وبعد أسبوع واحد من بداية الأحداث عندنا، ببثّ برنامج مدّته نصف ساعة، عن “الشبّيحة” في سوريّة، مع صور لأشخاص متهوّرين بسيارات فارهة، وحركات استفزازيّة؛ فقد اُستخرجت هذه الكلمة من ترسّبات مضى عليها عقود، وكانت تطلق على مهرّبين أو مسؤولين () يستخدمون سيارات الشبح! وأكّد عارفون أنّ بعض تلك الصور كانت تخصّ بعض أمراء الحرب الأهلية في لبنان؛ لكنّ الكلام كلّه كان تحريضاً على سورية! ثم استشرى استخدام هذه الكلمة، حتّى صارت تطلق على كلّ من له علاقة بالدولة السورية، وغدت تهمة يعاقَب عليها بأشدّ العقوبات التي يتباهى بها مرتكبوها من العصابات الإرهابيّة، لكن القناة تلك، وأخواتها، لا تنشر صور العقوبات التي أسهموا في ارتكابها!
ومن الغريب والطريف أنّ هذه اللفظة صارت على ألسنة الناس العاديين، تُوجّه لـ “اـلموالين” للوطن، إشعاراً بالتطرّف في مواقفهم، بحقٍّ أو من دون حقّ، بجدّ أو سخرية؛ حتّى إنها اُستخدمت علنيّاً وجماهيريّاً في شعارات مؤيّدة إمعاناً في السخرية منها، كما ألصقت بالمؤيّدين لسورية الدولة والشعب من غير السوريين! وقد قال لي رئيس رابطة الكتّاب الأردنيين د.موفق محادين في مسقط مازحاً، ونحن نتجاور لالتقاط صورة مشتركة: الشّبّيحان!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة البعث ع 15053
تاريخ النشر: 2014-05-09
رابط النص الأصلي: http://ncro.sy/baathonline/