موّال الأرق وهواجس الشّاعر
الوحدة
الأحد6/3/2011
قيس محمّد حسين
( اللغة الأولى لا بدّ أنّها كانت مجازيّة ) . هذا القول لجان جاك روسّو , آخرون كثر من فلاسفة ونقاد يوافقونَهُ الرّأي فبالتخيّل والتشبيه بدأ الإنسان يتعرف على الأشياء ويشير إليها , ولا زال حتّى الآن يعبّر عن
هواجسه العميقة , وأفكاره اللاهبة من خلال المجاز ¯ الإيحاء ¯ الشعر , وإذا كان كروتشه يرى ( أنّ المادة الشعرية عائمة في جميع النفوس , ولكن العبارة الشعرية , الصورة , وحدها تصنع الشاعر ) فإن البعض يرى أنّ المادة الشعرية تتعلق برهافة حسيّة تتباين من شخص إلى آخر ..
نلمح في المجموعة الشعرية ( موال الأرق ) للشاعر الأديب غسان كامل ونوس حالة من التميز في الصور الشعرية , وإن كانت قصائد المجموعة تنسجم في مضامينها من نواحٍ عدّة وتتقارب في مواضيعها وطرقها الإيحائية , وطابعها الشعوري , فإن هذا الأمر يذيب الحدود جزئياً بين القصيدة والأخرى , نقرأ في العنوان انشغالاً بهمّ مضن ٍ , وحزناً وعدم رضا ( وهذا دأب الشعراء ) وإن كانت كثير من عناوين المجموعات الشعرية الصادرة حديثاً تبتعد عن مضامين المجموعات فإنّ عنوان هذه المجموعة يعطي أكثر مما يجب ويقدّم هوّية المجموعة وطابعها بشكل ٍ فاضح , لغة الشاعر أنيسة مركّبة من ألفاظ متناغمة مع السوداوية والحزن ( التيه , الصَّلب , الجمر , السأم , اللّظى ..) تتراكب فيما بينها في بنية متنامية زاخرة بالتفجع , فالتوق والحرمان من الرغائب والحزن والشعور بالإحباط … تنبع من إحساس بما يلاقيه الإنسان في مجتمع منغلق ومتخلف وذي رؤية مشوهة لمعايير الحياة , فالشعر لا يمكن أن يكون ( كونيّاً ) ولا حتى ( فاعلا ً ) إذا لم ينطلق الشاعر من بيئته , إذاً هناك جدلٌ قائم في ذات الشاعر , وهناك مزج بين الهواجس الذاتيّة , والحالة الموضوعية للإنسان في مجتمعنا , كما نلحظ استمرارية في الحالة الشعرية لمعظم القصائد مع ترك النهايات مفتوحة ( حالة من الانقطاع المفاجئ ) تحفّز عند القارئ تخيُّلات وأفكاراً ذات سياق متصل بموضوع القصيدة .
القصيدة إذاً سبيل الإبداع والمعاناة سبيل لخلق الموضوع ¯ الفكرة , والموضوع الشعري لا يمكن أن يتكون بدون انشغال الأحاسيس به , فكما يقال ( الشاعر أكثر تأثراً بالأحداث والأشياء ) ولذا كان الشعر هو الأكثر تأثيراً بالبشريّة , والشاعر المؤرّق الذي يشعر دائماً أنه هدفٌ محتملٌ لوحش ساغب يدور في غابة العصر لا بدّ أن يملأ ورقهُ بالحزن : ( الهادئُ قربَ النَّطع / يحدّقُ في السيف المسلول / ويقرأ في الحدّ الملهوف / الفاتحة على من / جاء وراح ) ص38 . القصائد من شعر التفعيلة , هذا الشعر الذي يتميّز بتلون إيقاعي من حيث تواتر التفعيلات حسب الأسطر الشعرية , والذي تتلون فيه القافية ¯ الرّوي , حسب الدفقة الشعورية فهذا النمط ¯ البناء الشعري , يلائم ما يحكيه الشاعر من دفاع عن الحسِّ الإنساني , وعن رغبات الإنسان الفطرية : ( ها إنّي أعترفُ الآن / بأنَّ بنفسي فيضاً من شغب ِ الرغبات / وقطيعاً من نَهم/ ودماً لا يرحم دفء الغصّات ص66 .
والشعر الذي ينضح بالألم يفرز سوداويّة تطيح بكل ٍّ شيءٍدفعة واحدة , إنه الهدم الذي يرغب بإعادة التشكيل : ( أعترف بأنّي أعرفُ / أنَّ اللحن ضلال / والأفق عماء / والأرض يبابُ. ص70
والشعر الذي يبحثُ في المجهول عن المجهول لا يكاشف عن جوهره إلا بجهد مضنٍ , وفي شعر غسان ونوس غموض من ناحية المعنى يحتاج إلى التفاعل مع كنهِ القصيدة ( كبوح المسافات / للخطوة الشاردة / ورقص الثواني على الجثة الباردة / أهيمُ على أوجهي المقفلة …ص33 و( الأوجه المقفلة ) حالة الشاعر الذي لا ينسجم مع بيئته ويتحاشى الخوض في مسمياتها ومدلولاتها فليجأ إلى الإيحاء ¯ الرّْمز ( هنا أو هناك وحيثُ تروح وتأتي / مواويل حب حرام / وزغردة من قتام ..) ص30 . ويتكرر التوق الباحث عن ارواء ظمأ حسّي وعاطفي هذا التوق الذي يولدُ شحناً فكرياً وعاطفياً يبعث جمراً على شكل قصيدة ( افتح قلبك للدفق الناري / أوسع جدران القبر / لفيض الحب / وعلى حد النهم / أصلب لوعتك / وتعرَّ قبل الرعشة / أو أبعد التوق تبدّد …) ص74 .
وبعد كل هذا الجموح والاندفاع يعود القلب ببرودة ما , إلى نبضه الرتيب المنتظم : ( ودعني .. فأنا قادم / يا كل طموح الأمس : اليوم أتمُّ أمري / وأتوب ..) ص160 .
( موّال الأرق ) مجموعة شعرية للأديب غسّان كامل ونوس الذي كتب في مجالات الرواية والقصة القصيرة والمقالة وهذه المجموعة من مئة وستين صفحة قطع وسط إصدار اتحاد الكتاب العرب .