الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: نورس الهندسة ع 26 مجلة فرع نقابة المهندسين في طرطوس
تاريخ النشر: 2015-10-31
رابط النص الأصلي: 

“من لم يكن مهندساً؛ فلا يدخل علينا”!
ليس هذا القول عنصريّاً، ولا عصريّاً، وليس من كلامنا؛ بل هو نصٌّ كُتِبَ على باب “الأكاديميّة”؛ وهي المدرسة التي أنشأها أفلاطون؛ الفيلسوف اليونانيّ الشهير، في القرن الرابع قبل الميلاد، واستمرّت حتّى النصف الأوّل من القرن السادس الميلاديّ، في بستانٍ، كان مُلكاً للبطل “أكاديموس”، ومنه أَخذَ المكان لَقَبَهُ، وإليه تُنسب المدرسة تلك؛ فباتت تدعى: “أكاديميّة”. وما تزال هذه الكلمة متداولةً في جميع اللغات، ومعتمَدَةً في معاهد البحوث العليا في مختلف البلدان. ولفظة “أكاديميّ” تُطلَق على “المفكِّر المتعمِّق في البحث، مع الجِدّة والأصالة”. ويعدّ ذلك امتداداً للمدرسة الفيثاغوريّة عظيمةِ الأثر في تاريخ الفكر الفلسفيّ.
وقد اشترط أفلاطون أن يتعلّم الطالب الهندسة، قبل أن يتعلّم الفلسفة!!
ومن هنا جاء تحديد السبيل إلى دخول المدرسة “الأكاديميّة”:
“من لم يكن مهندساً؛ فلا يدخل علينا”؛
ومن الجليّ أنّ فحوى هذه العبارة، لا يعني أصحاب الاختصاص الهندسيّ وحدهم؛ بل يتعدّى ذلك إلى مختلف مجالات الحياة الفكريّة والعلميّة، النظريّة والعمليّة؛ فقد كان الهدف الرئيس من إنشاء “الأكاديميّة”، تخريج قادة في السياسة والحكم؛ لذا ليس غريباً أن تتضمّن مناهج الدراسة فيها، الشرائعَ، وأصولَها، وأنظمة الحكم الضروريّة. لكنّها لم تقتصر على ذلك؛ بل كانت تدرّس العلوم الرياضيّة من حسابٍ وهندسةٍ وفَلَكٍ وموسيقى.. تلك العلوم التي توصل متلقّيها إلى “التطهير النفسيّ”؛ بالإضافة إلى اتّباعهم آداباً وأسساً معيّنة في الطعام، مع القيام بإجراءات وممارسات محدّدة بإشراف الكهنة. وقضيّة “التطهير” معروفة في الفنّ؛ حيث تساعد مشاهد الإثارة والعنف على تخفيف الضغوط النفسيّة للمتلقّي، بإخراج مخزونات النفس البشريّة من الانفعالات الضارّة.
وكان أفلاطون، وأستاذه من قبله سقراط، يجمعان بين الزهد، والسيرة الفاضلة، وبين اكتساب العلوم الرياضيّة؛ وخاصّة الهندسة.
كلّ هذا يثبت عراقةَ الهندسة، ويُبرز الأهمّيّة التاريخيّة للمهندسين، وحضورَهم الحيويّ في مسارات التقدّم الحضاريّ الإنسانيّ؛ سادةً وقادةً؛ ليس في الميادين الهندسيّة، واختصاصاتها، التي تجّذّرت، وتعمّقت، وتفرّعت، وتسامت… فحسب؛ بل في ضرورتهم؛ تفكيراً وتحليلاً، وتنويراً وتطهيراً، وتقريراً ومواقف؛ وصلاحيّتهم أن يكونوا رياديّين، وفي مقدّمة من يسوس القوم أو يخدمهم؛ على رأي القول المعروف: “سيّد القوم، خادمهم”!
وإذا كان من المهمّ أن يعي ذلك غيرُ المهندسين، فيُعطى المهندسون ما يستحقّون من أدوار ومسؤوليّات خاصّة وعامّة، حزبيّة وإداريّة، وفي مختلف المستويات والشرائح؛ وأعتقد أنّ هذا الأمر قد حدث، أو يحدث، وإن كان متأخّراً، وليس بالقدر الذي تتطلّبه مسيرة العمل الناهض المقاوم، في بلد كسوريّة، التي تتحمّل الكثير، والمطلوب منها أكثر؛ فإنّ الأهمّ أن يقتنع بذلك المهندسون أنفسهم، ويسوّغوه ويبرهنوا صوابيّته تمثّلاً لا تظاهراً، وممارسة لا تنظيراً، وفعالية لا مناورة؛ مع التأكيد أنّ مثل هذا الإقرار، لا يتوقّف عند إعطاء المهندسين علامة مميّزة؛ بل يحمّلهم مسؤوليّة كبرى، قبل ذلك، ومعه، وبعده؛ وعلى المهندسين أن يعوا ذلك، ويقوموا بما يعزّزه، كي يكونوا على قدر المسؤولية التاريخيّة، والعصريّة؛ ولا سيّما أنّنا مقبلون على مرحلة ترميم وإعادة تأهيل وبناء، في مختلف شؤون الحياة، سنكون فيها على المحكّ الحقيقيّ، أكثر من أيّ وقت مضى، للاستفادة القصوى من الوقت والجهد، والموادّ المتاحة، والإمكانيّات الذاتيّة المتجدّدة، وفي “جبهات” عمل عديدة، متقاربة ومتباعدة، منفردة ومتداخلة، على امتداد جغرافيّة الوطن السوريّ، ومساحاتِ التحرّك المادّي، والنشاط الحيويّ الإنسانيّ، داخل الوطن وخارجه.
ومن المهمّ؛ بل من الضروريّ أن يتعالى المهندس على الصغائر، ويترفّع عن الدنايا، ويبتعد عن المنافسة غير الشريفة، والنهم والفجاجة والشراهة، ويبقى في إطار اللباقة والكياسة في السلوك الشخصيّ والتعامل مع الآخرين، والمتابعة والجدّية والجدوى في الأداء الوظيفيّ والإنجاز المهنيّ؛ سواء أتعلّقَ الأمر بالمسائل الهندسيّة، أو بالقضايا الحياتيّة الأخرى، التي تُضيف إليها الهندسة من خصالها، ما يزين ويليق، ما يمكث في الأرض، وما يسمو في النفس وبالنفس إلى راحة الضمير، وأمان الوجدان!
***

اترك رداً