ملامح الشفق!
غسان كامل ونوس
حرائق الوجد، أم شرارات الحرقة، أم جمرات الألم؟!
مضائق الأرق، أم ملامح الشفق، أم كوى البوح..؟!
أيّ تنهيدة تعبُر، وأيّ غصة ترتاح، أو ومضة تهلّ؟!
في المشهد اعتكار، وفي الأحاسيس اصطبار، وفي الروع لهفة إلى موالد وأعراس..
لا الخضرة المنثورة بلا حساب قادرة على إضحاك فاقد أو إنهاض راقد.. ولا العثرات تستطيع حجب المطالع والمرابع، ولا الوسواس يتبدّد، والهجس يتلاشى، ولا التّوق يتوارى، أو النّبض بمستراح!
لو فكّر الزّهر بالعاصفات ما استفاض قبل أن تكتسي أعواده، أو يخيب عوّاده!
ولا النبع قتّر، أو استبخل، أو التأم؛ فأيّ معنى لابتلال، والآخرون بلا سوائل؟!
وأيّ هناءة لفسحة في شاطئ مهجور؟!
لو استسلم الحبو للعتبات، ما تجاوزت الخطا محيط الحواس!
والعين مااستكانت للغبار، وأمعنت في التحديق في الملامح والمعالم؛
والتأمّل مسرى، والحنين والألفة والودّ موئل، والثقة عروة وثقى..
وفي الذكرى تسرٍّ ومتّكأ وزاد، وفي مسارات العبور الصعب مداد.
والآفاق لا تجاب بالتمنّي، ولا بالتعذّر والتعلل..
ولا يكفي التغنّي بما كان، والوقوف على الأصول والقامات والحميات.
والكَلِمُ في غير موضعه ثرثرة وفجور؛
فكيف إذا ما كان في مورده ادّعاء، وفي مجراه انسفاح واجتراح، وفي صداه النّواح؟!
وكيف إذا ما تباكى العامد، وتذاكى الشاهد، وتغافل الساعي، وتحامل القيّم، وتصاغر المولَّى، وتخلّى المحكَّم، وتنابذ الأقربون، وتولّى الأصحاب؟!
وكيف إذا ما تداعى الصدق، وانهدّ المتن، وتصدّعت القناعة، وتحوّرت المعاني، وانحدر المعيار، واختلّت الأفكار، وتعذّر الوفاء، وتهتّك المعروف؟!
كيف إذا تناصر الأبعدون، وتسابق النّهمون، وتشارس الواقدون، وتنافر أولو القضية، وتلوّنوا وهانوا؟!
ولكن في أطراف الخميلة، وفي الحضن منها أفئدة عزيز عليهم ما تعانيه، وفي وجدانهم تحتشد المشاعر تجاه الأرض وما عليها ومن عليها.
ليس الأمر غريباً في ذاكرة التاريخ، ولا الحالة منبتّة عن سيرة البشر، وليست الحال طارئة؛ فكم تعرّضت البلاد للعصف والعسف، وكم مرّت في أحيازها السَّموم، وتناءت الرؤى، وقتمت النوايا، وساءت الأحوال؛ وفي كل حال غبار وقساوة وشظف وشقاء، وفي كل حال فقد ولوعة وأسى، وصبر ومصابرة، وإصرار على المواجهة، وعناد في مقارعة الخطوب، ومقاومة الظلم والعنت والقهر والغدر بكل ما في القلوب من إيمان، وما في النفوس من كبر وأمل، وما في الحياض والريّاض والبيادر والوهاد من إمكانيات، وما يمكن أن يعدّ ويستحضر ويبتدَع..
ربما كانت القضايا في ما مضى أوضح، وقد صارت الآن أيضاً جليّة لكل من يقرأ؛ ربما كان الهدف أكثر مباشرة، وقد بات الاستهداف بيّناً لكل من يريد أن يرى ويسمع؛ والوقائع كانت مشهودة ومفضوحة، وهي الآن فاضحة وناضحة بما في الدواخل السوداء؛ والأدوات والعناصر كانت مواصفاتها وقسماتها متمايزة أكثر؛ وقد باتت الآن أيضاً موصوفة ومكشوفة معروفة!
الظروف كانت صعبة والفصول قارسة، ولا تزال الحال صعبة؛
لكن أحوالاً انتهت، وحالاً ستنتهي؛ لأنّ في الرصيد قدراً كبيراً من الخير والنبل والشهامة، وفيضاً من العزيمة والإصرار؛ ولأنّ في الرصيد وعياً بما جرى منذ زمن بعيد، ويجري؛ وما وراء الأكمة وفي أركانها ودغلاتها متوقّع ومقروء ومفهوم، وما في المركب والموكب من كائنات مجرَّب ومختبَر، والطاقات بادية وكامنة، والقدرات لا تنضب، والإشعاعات لا تنوس؛ رغم ما في الحلق من غصات، وما في الطعم من مرارة، وما في المسامات من عوالق فاسدة، وفي الأسماع من منكر الأصوات والأقوال؛ ففي الأفق سماء تمطر وتصحو، وفي الربوع فيوضات تحتفي بالحياة وتبشّر بالأجمل، وفي مختلف الأرجاء خرير ونماء وخطو وهمم..
فــــ “كم كبت أجيادنا في ملعب، ونبت أسيافنا”، وأخطأ المؤشّر سمت الهدف، ومضى الحدّ في الضلوع، وأوغل النصل في الأعصاب..
لكن: “كم لنا من ميسلون نفضت عن مآقينا غبار التعب”!!
وفي كل حين نبض نيسان، وفي كل مكان من أرض الوطن فيض ميسلون!
***