الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

مجرّد نموذج!

ملحق الثورة الثقافيّ-

غسان كامل ونوس-

انتهيت من قراءة تقويميّة للمخطوط كاملاً، بعد عناء؛ لأنّني كنت قد توصّلت إلى قناعة بعدم أهليّته للنشر والتوزيع على القرّاء، منذ حين، لكنّني تابعت القراءة العسيرة إلى آخر صفحة؛ كما هي عادتي، وبات من اليقينيّ أنّه لا يحتاج إلى قراءة أخرى؛ بل تلزم العودة إلى الشواهد والأمثلة على العثرات؛ وقد سجّلت بعضها في أثناء القراءة- فمن غير اليسير إحصاؤها- لتثبيتها في البيانات، التي ستعدّ، وتقدّم إلى الجهة المعنيّة. وقبل أن أفعل، طالعني آخر عنوان في الكتاب، يخصّ صاحبه بتعريف مسهب، يعدّد شهاداته وإنجازاته، وكتبه الصادرة، وتلك التي هي قيد الطباعة! وذلك حقّه، وتلك حال طبيعيّة مألوفة؛ ومع كامل احترامي لشخصيّة الكاتب، الذي لا أعرفه؛ وليس هذا غريباً؛ فليس من الضروريّ، أن أعرف كلّ من يدخل هذا المعترك الجميل الشائك؛ بالرغم من حضوري في المشهد الثقافيّ لعقود! وقفت مليّاً، لا أحدّق في الصورة، ولا بالشهادات؛ بل بالكتب المطبوعة، التي صارت بين أيدي القرّاء منذ زمن، وقد قاربت العشرة، والأخرى التي تنتظر، وتساءلت: هل من الممكن لمؤلّف هذا المخطوط، الذي فرغت منه توّاً، أن يكون له كتب أخرى منشورة؟! وهل من المعقول أن يكون قرّاء آخرون، قد وافقوا على هذه الكتب؟! أعرف، ولا يغيب عن ذهني، أنّ الكاتب يمكن أن يخفق في مدوّنة، وينجح في سواها، ولكنّ هذا يمكن أن يعود إلى مشكلة في بعض العناصر، أو في نسجها، وربّما يكون المؤلّف قد اهتمّ بجوانب أكثر من سواها، لكنّ الكتاب يبقى- او يُفترض أن يبقى- في الحدّ الأدنى مقبولاً بمجمله، ولا يمكن أن ينسحب هذا القصور على اللغة؛ كما في هذا المخطوط؛ فتُرتكب أخطاء ساذجة، وتثبّت صياغات مرتبكة ومربكة؛ كما أنّ هناك عجزاً في المحافظة على أصول كتابة المادّة بالشكل المختار من قبله! ومن يتعثّر هنا، سيتعثّر هناك؛ لأنّه يفتقد؛ كما هو بيّن، القدرة على الخطو المتوازن، وتشكيل القوام المناسب، والوصول إلى الإنجاز المقبول! ولو كان هذا المخطوط محاولة أولى لموهبة شابّة، وتلك الكتب المنشورة محاولات لاحقة، لقلنا- وخاصّة أنّنا لم نطّلع على تلك الإصدارات- ربّما استدرك الكاتب نواقصه، وتجاوز هناته، وصوّب أخطاءه، وحسّن لغته! أو عرض مدوّنته على مختصّ خبير؛ ليخلّصه من شوائبه اللغويّة، وتشوّهاته الكتابيّة البادية بلا تدقيق.. لكنّ الظاهر من العمر المثبّت، والمسيرة المسطّرة، ومن تواريخ إصدار الكتب تلك، أنّها سابقة لهذا الذي بين يديّ بسنوات عديدة!

وأعرف أيضاً، ولا يغيب عن بالي، أنّ مستويات القرّاء والقراءة تتباين، وقد تتفاوت المعايير، التي تُعتمد؛ كما أنّ الذائقة الأدبيّة والقدرة الاستيعابيّة والأمزجة والاستساغة، تختلف بهذه الدرجة أو تلك؛ ولكنّ الكلام هنا لا يتّصل بقارئ هاو، أو راغب، أو عَجِل أو عاديّ… بل إنّ المعنيّ قارئ مسؤول! ودرجة المسؤوليّة ونتائجها وتبعاتها، لا تتوقّف عند القارئ ذاته، ولا تدور حول صاحب الكتاب بمفرده، ولا عند حدود حيّزه؛ بل تتعدّى كلّ ذلك إلى أن تغدو مسؤوليّة عن قيمة ما نشر، وحضوره، وجدواه، عبر السماح بتعميم عدم الجودة، على الناس، وقد يَظنّ غير المتمرّسين منهم، وبعض الذين يطمحون إلى أن يدخلوا هذه الساح الزاخرة من دون الزاد المناسب، أنّ هذا هو المطلوب، وهذا هو الأدب! ويغدو نموذجاً قد يحتذى، أو يتّخذ ذريعة وحجّة؛ ولا سيّما إذا كان لهذا النتاج، ولصاحبه، الحظوة، التي تجعله في مرمى الأضواء الموجّهة! وإذا ما تزايد حدوث مثل هذا الأمر لدى كتاب آخر، وكاتب آخر- وهذا لا شكّ في إمكانيّة وقوعه في وسط كهذا- فستسود الرداءة، وتنتشر المستويات الهابطة، في المشهد الثقافيّ، الذي- للأسف- لا يفتقدها! ومن الطبيعيّ أن تبدأ المسؤوليّة من المؤلّف، الذي لم يعدّ نفسه للتخويض المجدي الآمن، في بحر لا قرار له، ويرضى بأن تعمّم نصوصه غير اللائقة على الملأ؛ بصرف النظر عن وجود الموهبة والهاجس والتوق؛ وتشمل المسؤوليّة أيضاً أولئك الذين أطلعهم المؤلّف، أو اطّلعوا بطريقة أو أخرى على النصوص قبل انتشارها، ولاحقاً بعد تعميمها، إذا ما كانت لديهم الدراية والقدرة على التقويم وإبداء الرأي، ولم يصوّبوا له، ولم ينصحوه؛

أمّا المسؤوليّة الكبرى، فتتلبّس الذين وافقوا على الطباعة، وسمحوا بالنشر؛ فإذا كانوا لا يمتلكون المعرفة ولا الخبرة، فتلك مصيبة، والحقّ هنا على من اختارهم لهذا الموقع، ولهذه المهمّة؛ وإذا كان لديهم ما يلزم من العلم والفهم والتصريح بالرأي، ولديهم الإمكانيّة لفرز الجيّد من الرديء، والمقبول من الهابط، وتغاضوا عن كلّ جوانب القصور في الكتاب، وتجاهلوا المثالب غير المقبولة، التي ينطوي عليها مثل هذا الفعل؛ فالمصيبة أعظم! ولا يجوز التساهل؛ بحجّة التشجيع، أو بأنّ المؤلّف ينشر على حسابه، لا على حساب جهة أو مؤسّسة؛ لأنّ النتائج لدى العموم واحدة، وقد يخيب الأمل بالكتّاب وسمعتهم وإمكانيّاتهم، وينسحب هذا التوصيف؛ ليصل إلى عدم الاهتمام بآرائهم، وعدم احترام شريحتهم، التي يصيبها كثير من هذا، وتصيب الثقافة، ومروّجيها، ومتبنّيها، على أكثر من صعيد!

ولو تعلّق الأمر بكتاب واحد، أو حتّى بكاتب واحد، وفي ميدان واحد، ولدى جهة واحدة، أو حتّى بعدد محدود؛ فالحالة، بالرغم من أنّها سلبيّة منفّرة، ستبقى في حدود ضيّقة؛ لكنّ ذلك يشمل مؤلّفين وكتباً ومجالات مختلفة، ثقافيّة وغير ثقافيّة.

ولا ننسى هنا ما يُقرأ في النشاطات الثقافيّة المتنوّعة والمهرجانات، وما ينشر في وسائل الإعلام؛ ونوافذ الظهور؛ ولا سيّما في الصفحات والمواقع، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، وما يوزّع من ألقاب، وشهادات، وجوائز، وحوافز؛ ما لا يحتاج إلى كلام كثير حول توصيفه؛ من الارتجال، والسطحيّة، والسوقيّة، والاستهلاك، والاستسهال، والشلليّة، والفوضى، والمبادرات غير المحسوبة، والمشاركات غير المؤطّرة، أو المحدّدة، أو المقيّدة بما يلزم ويليق.

كما يجب ألّا نتغافل عن وجود القراءات المسؤولة، التي تفرز الجدير من بين المفتقِد الحدّ الأدنى من القبول؛ والمنابر الجادّة، التي تحرص على تقديم ما يستحقّ من نتاج ومبدعين؛ والمسابقات المحدودة والمعمّمة، ذات الجوائز المعنويّة أو المادّيّة المجزية، التي يكون فيها للتقييمات الجدّيّة دور أساس في نجاحها؛ وفي كون النتائج معبّرة بحقّ عن الإبداع، وجوهر الأدب والثقافة.

إنّ اللامسؤوليّة تجاه ما يُحمَّل المرء من مهمّات في الكتابة والقراءة والنشر، واللامبالاة بما يُكتب ويُقرأ ويُنشر، والإهمال في التقويم والتصريح، وعدم الجرأة في إبداء رأي، واتّخاذ قرار، واعتماد موقف، والسكوت على ما يُعوّم، ويُعمّم من الغثّ والرثّ والمهلهل، من دون أن ننسى الوقوع تحت إغراء أو إغواء؛ لنوايا غير ثقافيّة! كلّ ذلك، يفسح المجال لإشاعة الفوضى في العرض والاستقبال والتعميم، ويؤخّر، أو يؤجّل، أو يسفّه، أو يمنع، أن يكون البقاء للأصلح والأقوم والأسلم والأجدى، وتتردّى الذائقة الجمعيّة، ويسود الجهل والشحّ والنقص في المناعة العامّة، الناجمة عن نقص نسغ الثقافة؛ معرفة وسلوكاً وحصناً وسبيلاً مأمولاً أميناً آمناً.

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً