الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2014-01-22

متى الهجوم المعاكس ثقافياً..؟

معروف أن على من يتعرّض لهجوم أن يقاوم، مباغتاً كان هذا الهجوم أو متوقَّعاً،وبصرف النظر عن الاستعداد لهذا الهجوم، أو التّراخي والتّشاغل عنه؛ وعليه أن يستجمع قواه المحضَّرة أو المبعثَرة، لإيقافه.وأهمّ مفصل في ذلك استيعاب الضربة الأولى، التي غالباً ما تكون الأشدّ إيذاء؛ لأنّها تستهدف الدّفاعات المباشرة، والتحصينات المواجِهة، والمواقع التي يُخشى من قوّتها وفعاليّتها في المراحل الأولى، والحصون الاستراتيجية التي سيُعتمد عليها في الردّ على هذا الهجوم.
ولعلّ الثقافة هي إحدى الاستهدافات الرئيسة في بنك الأهداف التي تعرّضت للقصف المباشَر وغير المباشر،وفي جميع مراحل هذه الحرب العدوانية التي تُشَنّ على سوريّة منذ ثلاث سنوات إلا قليلا؛ سواء أكان ذلك عن طريق ضرب أفكار، واستهلاك شعارات، واستغلال مصطلحات، وارتهان عقائد، وامتهان كائنات، واستخدام محسوبين على الثّقافة، ومسؤولين ثقافيين سابقين و«قائمين عليها»، والنّيل من رموز ثقافية تاريخية، وأعلام معاصرين، ومحاصرة المقاومين في وطنيّتهم وانتماءاتهم وقناعاتهم وحاجاتهم..‏

وقد تمّ ذلك بتخطيط وتنظيم وتحريض وترغيب وتهديد، وبوسائل إعلاميّة ومنابر ثقافية، وأطر تنظيميّة أحياناً، وبأساليب قديمة وأخرى مبتكرة، وأدوات جاهلة وأخرى متذاكية، أو حاذقة وعارفة وعالمة ببواطن الأمور وظواهرها..‏

ليس هذا التوصيف جديداً، ولا أنّ الغاية من كلّ ذلك وسواه ضرب المنعة الحقيقيّة للكيان؛ فرداً أو جماعة، أو وطناً، تلك الّتي ليست سوى الثقافة؛ أي العمق والمعنى والقوام والامتداد والاتّصال والثقة والإرادة..‏

ولعلّ ما يلفت، أو ما يُفترَضُ أن يُسلَّط عليه الضوء كثيراً وطويلاً، إنَّ المعادن الحقيقية الفاعلة جاءت من الشرائح التي تتمثّل الثقافة، وتتشبّع بها، وتحوّلها أداء وسلوكاً ومعطيات (الشعب والجيش)، أكثر من الكائنات الثقافية مسميّاتٍ ومسؤولياتٍ ومعلوماتٍ وتصنيفاتٍ وأطراً؛ فَمِن هؤلاء المثقفين من انقلب، أو تحوّر، أو انساق، وعلت نبرته في المسار المعاكس، كما كانت تعلو في المقلب الأول؛ وهناك من صمت وتهرّب وانكفأ وانتظر!!‏

ومن المفهوم بشكل عام، وليس المسوَّغ لدى الثّقافة، أن يحدث الالتباس والارتباك والتوهان لدى الضّربات الأولى، التي غالباً ما تكون شاملة وضاجّة.. لكنّ ذلك يُفترض أن لا يستمرّ طويلاً، وأن يعود المصدوم إلى رشده،والمفاجَأُ إلى هدوئه، لتفحّص الأضرار وترميم الخسائر، وقراءة ما وراء الهجوم وأبعاده، بعد إيقاف وقائعه ومحاصرة تَبِعاتِه، ومن ثَمّ البدء بالهجوم المعاكس! ومع الكثير من الخسائر الفادحة، والأمراض المستجدّة، والصّدوع المتشارخة؛ فإنّ من أهمّ بوادر فشل العدوان؛ بل أخطر مراحله،أنّك ما زلت قادراً على التّفكير والتّحليل، وأنّ البلد لم يسقط بمؤسّساته وهيكليّته على الأقلّ؛ ولن يسقط؛ تلك كانت رؤيتنا وثقتنا وقناعتنا التي لم تتزعزع، ولاتزال!‏

لكن؛ متى يبدأ الهجوم المعاكس؟!‏

السؤال بسيط ببداهته، وكبير بمسؤولياته، وأساسيّ بما يترتّب عليه، ومُلِحٌّ بتوقيته؛ بل تأخّر كثيراً.‏

وما دمنا نتحدّث في الثقافة؛ فالمعنى من ذلك: متى تبدأ المبادرات الثقافيّة الحقيقيّة، الّتي يُفترَض أن تشكَّلَ لها هيئة جامعة، أو تُضمّ مكوّناتها في إطار تنسيقيّ، ليتمَّ ضَفْرُ الإمكانيّات وتكامل المسارات، من أجل ضرب أسس العدوان الفكريّ، وردم مستنقعاته،بعد كشف بؤره وأنفاقه ومسمّماته، وإعادة استزراع النبات الأصيل غير المكتفي بذاته، ولا المنبتّ عن أحيازه، بمناعة حقيقيّة واستقلابات طبيعية، لاهجينة أو مدجّنة، كي تكون الثمار حيويّة ناضجة فاعلة في محيطها وموسمها وطلّابها، لا متبارِدة أو محنَّطة أو مستورَدة بلا حماية أو رعاية..‏

الكلام هذا ليس نظريّاً فقط، ولاتوصية أو تفكيراً بصوت مرتفع؛ لأنّ الإمكانيّات موجودة لاتزال، وما يُقام، أو يجري على هذا الصعيد حتّى الآن، ليس سوى محاولات فرديّة، أو تمظهرات إعلاميّة، أو خطوات ناقصة متسرّعة؛ بل هي ردود أفعال لا ترقى إلى مستوى الفعل/العدوان المتعدّد الوجوه والأشكال والأدوات بأيّ حال؛ فبيانات التنديد، أو ندوات التوصيف الذي صار واضحاً ومفهوماً، أو الملتقيات ذات العنوانات الكبيرة والمخرجات الباهتة أو المنسيّة، ليست فعلاً حقيقياً ناجماً عن رؤى استراتيجية، وخطوات جدّية في مسارات العمل المنتِج؛ بل كثيراً ما تأخذ منحى ردّ التهمة، وإثبات الموجوديّة في حيّز يحتاج إلى الكثير والمزيد والجديد والمفيد، وتفتقر حتّى إلى الثّقة بالنفس، للمتابعة المؤسَّسة على ما كان، والمعبّرة عن بعضما يجب أن يكون..‏

ودعونا نَقُل الأمور كما هي: ليس من الممكن أن تتمّ هذه المبادرات بمن هوقائم، وما هو موجود، كياناتٍ فرديةً أو مؤسّساتيّة، ورؤى وسلوكيّات وقدرات، وربّما رغبات وإرادات أيضاً..‏

الحقيقة موجعة؛ لكنّ وجعها المؤشِّر إلى الخلل، الذي يستدعي العلاج الفوريّ، أهونُ من علّة كامنة،تتحوّل إلى مرض مزمن، أو خمود مقيم، أو سبات وموات!!‏

اترك رداً