ما بين الأربعينيّات من القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة في وقتنا الراهن يمتدّ زمن المتن الحكائي في رواية غسّان ونوس الجديدة «المآب»(1) التي تصوّر مسار شخصيّة أبي نضال المحوريّة, منذ تفتّح وعيه على قيم النضال الثوري القومي وانتسابه إلى الحزب الذي كان يمثّل تلك القيم في مطلع شبابه, وحماسته لنشر فكره, مرورا باصطدامه بالعقلية البيروقراطية لكوادره بعد انتصاره وتسلمه السلطة, وانتهاء بموته في دمشق وحمله في تابوت على إحدى العربات إلى قريته السّاحليّة.
إن مسار هذه الشخصيّة ليس سوى تمثيلٍ رمزيٍّ لمسار جيل آمن بالوحدة العربية والحريّة والاشتراكية وعمل لأجلها, لكنه أُصيب بخيبة أمل لعجزه عن تحقيقها, فأحسّ بانفصام بين الواقع وما يؤمن به ويسعى إليه, وأعلن رفضه لما يحدث من ممارسات باسم الحزب واحتج عليه, فكان مصيره الإقالة من الوظيفة والإقصاء والتهميش ليواجه مصيره وحيداً! ويأتي موته تتويجاً لنهاية مرحلة الرومانسيّة الثوريّة من تاريخ سوريا وبدء مرحلة جديدة تضعها على مفترق طرق خطير.
فرحلة أبي نضال من قريته إلى دمشق هي رحلة الذهاب سعياً وراء الأحلام الثورية الكبيرة, أمّا رحلة عودته المعاكسة في تابوت من دمشق إلى القرية الساحليّة بعد نصف قرن فهي رحلة «المآب» عقب انكسار تلك الأحلام, وغروب شمسها أمام تحديّات لم تكن في الحسبان. ومن هنا ينفتح عنوان الرواية «المآب» على متنها النّصي موسعاً دلالاته, ومشكّلاً نقطة تبئير مركزيّة, تصبُّ فيها مختلف سياقات النّص, وأبعاده الزمانيّة/المكانيّة, ورواته, وحواراته, وتقنياته السرديّة.
ـ سياقات النّص:
تنتظم البرنامج السردي لنصّ «المآب» ثلاثة سياقات رئيسة: الأول سياق علاقة «أبي نضال» بماضيه وأحلامه, والثاني سياق علاقته بأسرته, والثالث سياق علاقته بعماد.
1ـ علاقته بماضيه: يبدو «أبو نضال» صاحب أحلام شاسعة منذ شبابه, فقد لقّبه أترابه بالمجنون كناية عن إصراره على نيل الشهادة الابتدائية آنذاك على الرغم من كبر سنه! وقادته تلك الأحلام إلى الانتساب إلى الحزب زمن النضال السرّي, وكان يرى فيه خلاص شعبه من الإقطاع وأعوانه. ودخل معترك الحياة مبكراً فعمل في قريته في التحطيب, وتأهيل الأرض البور, واستزراع الزيتون, والتعفير. ويرافقه في أعماله تلك «العود» الذي يعزف عليه ويغنّي وقت الراحة: «أحب عيشة الحريّة زيّ الطيور بين الأغصان»! كما عاش في بيوت الصفيح عندما سافر إلى بيروت وعمل في مختلف الأعمال من جمع الزبالة, إلى نقل مواد البناء, وتنظيف الحدائق, والمجارير! وعلى أثر انتصار الحزب وتسلّمه زمام السلطة, أصبح «أبو نضال» من خلال موقعه الجديد «يفك الحبل عن رقبة المحكوم بالإعدام ص58», لكنه لم يفقد نقاءه الثوري, ولم يستسلم لمقولة:«أفد واستفد», بل ظل يخدم كل المراجعين من خلال إدارته لمكتب أحد الوزراء, بما يمليه عليه ضميره لا مصالحه الشخصيّة, وهو ما جعله يقف حجر عثرة أمام الانتهازيين والمستفيدين الذين عملوا على إقصائه وإقالته من عمله! وبذلك تحوّل أبو نضال الرفيق الحزبي النزيه, الذي لا يسكت عن الخطأ, من أداة للثورة إلى وقود لها!
وتبرز في شبكة علاقات «أبي نضال» مجموعة من الشخصيّات الريفيّة الثانوية التي ارتبط بها في شبابه, وظل يتوق للقاء بها, ويحلم برؤيتها في «مآبه» وهي تنتظره على المقبرة, ومنها: أبو عدنان, وشعبان, والشيخ محمود, وأبو تحسين, وأبو أحمد, وأبو منصور, وأم تحسين, وفتاة الزعتر, وتيسير. وتكشف تلك الشخصيّات عن نقاء سريرة «أبي نضال», وشهامته, وحبه للآخرين, واندفاعه للوقوف معهم في الأزمات. كما تكشف عن براءته في التعامل مع المرأة وعن احترامه لها جسداً وروحاً.
2 ـ علاقته بأسرته: لم يأت اسم الابن البكر «نضال» اعتباطا, بل هو علامة دالة على شخصيّة الأب, ونضاله من أجل مجتمع عربي موحد, تسوده الحرية والاشتراكية, ولا حقّ فيه إلا لمن يعمل ويزرع, ولكل بحسب جهده وكفاءته لا بحسب ولائه. لكن هذا «النضال» على الرغم من صدق نواياه, وصواب أهدافه ونبلها, وتمسكه بالقيم الثورية, وتعليقه لصورة جيفارا في غرفته, فقد جاء مُعوّقا, وتتمثّل تلك الإعاقة الحقيقية والرمزيّة في العكّازين اللذين يستند عليهما الابن «نضال» في مشيته! ومع ذلك يبدو هذا الابن الأقرب إلى روح الأب وقلبه, لأنه ابنه المُعاق أولاً, ولأنه صورة عن النضال الذي تعثّر في مسيرة حياته ثانياً.
وفي الوقت الذي يبدو فيه الابن «نضال» متصالحاً مع واقعه وشروط حياته وإعاقته, وناجحاً في دراسته, ومتفهّماً لأبيه ومعاناته, شأنه في ذلك شأن أخته «بتول», فإن كلاًّ من «ثائر» و«ثورة» يخفقان في دراستهما, ويعلنان تمرّدهما على الواقع وعلى المستوى المادّي المتواضع الذي يعيشانه بسبب نزاهة والدهما وترفّعه عن الرشوة! حاملين بذلك من دلالة اسميهما ما يشي بذلك التمرّد السلبي الذي يجد صداه في الإعلاء من نمط الحياة المتبرجزة, وتعليق صور الممثلات بدلا من صور الثوار! وهو ما ينسحب أيضاً على شخصيّة الأم المتذمّرة وغير الراضية عن زوجها وعيشتها!
3ـ علاقته بعماد: تبرز شخصيّة «عماد» من الجيل الجديد بوصفها المعادل الموضوعي لشخصيّة «أبي نضال», والراوي الآخر الذي يتقاسم معه البرنامج السردي. فهو ابن صديقه «أبي عدنان» الذي يحمل له مودة وتقديراً خاصّين من جهة, وهو التجسيد الحيّ لأحلامه القديمة التي ستتواصل من جهة ثانية. وتكاد شخصية «عماد» تتقاطع مع شخصيّة «أبي نضال» في غير موقف, فهو مثله أيضاً يعمل أعمالاً عدّة في الزراعة, والمنشرة, والمرفأ, وتربية الأبقار, ويخفق فيها كلّها, ويتحمّل الكثير بسبب نزاهته, ويواجه البطالة بعد التخرّج, ويعانى من قسوة الخدمة الإلزامية التي لم يجد له معينا عليها سوى جلساته الممتعة مع «أبي نضال». وكما رفض «أبو نضال» الرشوة, والكسب غير المشروع, واستغلال المنصب, فإن عماداً ينحو نحوه وينسج على منواله, فيرفض بعد تعيينه أمينا للفرقة الحزبيّة ما يقدمه إليه كلٌّ من ناصر وشعبان من رشوة لتسهيل أعمالهما, ويحتج على ممارسات الوصوليين والانتهازيين ويدخل في مواجهة حادّة مع الفساد والمفسدين.
فعماد كما يظهر في مرآة نفسه ومرآة أبي نضال والآخرين هو عماد بيت الحزب الذي بناه الجيل الأول بنضالهم, وعماد الحلم المتبقي في التغيير نحو الأفضل والأجمل. ولعل ذلك ما يفسّر رغبة «أبي نضال» الخفيّة بارتباط عماد بابنته «بتول» وتشجيعهما غير المباشر على تلك العلاقة التي لم تسمح بها ظروف العائلة وطموح الأم إلى من هو أغنى مالاً وأعلى مركزاً, الأمر الذي ترك حسرة مكتومة في قلب عماد.
عبر السياقات الثلاثة السابقة ودلالاتها الواقعية والترميزيّة تتوالى حركة السرد مقدمة نموذجي «أبي نضال» و«عماد» عبر شبكة واسعة من العلاقات بالناس والحزب والأمكنة وتحوّلاتها الدرامية من حال إلى حال بين زمن وآخر, متشابكة عبر التناص مع«أسطورة سيزيف حينا ص 179» و«فكرة التقمّص حيناً آخر ص 89».
ـ الأبعاد الزمانيّة/ المكانيّة:
يغطي زمن المتن الحكائي نحو نصف قرن من حياة «أبي نضال», ويتم تخطيب هذا الزمن في المبنى الروائي عبر تقنيات الاسترجاع والتداعي والمونولوج والذكريات خلال ساعات قليلة تمتدّ ما بين حمل تابوته على إحدى العربات من أحد مشافي دمشق والمرور الوداعي ببيته هناك حتى وصوله إلى قريته السّاحليّة. وبذلك يكون القارئ في الصفحة الواحدة أمام زمنين: الماضي البعيد/القريب, والراهن/المستمر. وهذا الانتقال بينهما يولّد ديناميكية عاليه في السرد, ويحفّز الذهن والمخيّلة, ويستدعي قارئاً يقظاً يستطيع الربط بين الزمنين وتداعياتهما وأحداثهما.
ولأن الزمن يجري في المكان والكائنات ويفعل فعله فيهما, فإن القارئ سيلاحظ تبدّل الأشخاص والأمكنة بسريان ذلك الزمن. فكما كان «أبو نضال» مشحونا بالحلم والتغيير, وأداة للثورة في بداياته, وأضحى وقوداً لها في نهاياته, فإن «دمشق» التي احتضنته شابّاً وودعته في آخر عمره تغيرت أيضا, وتغيّر كل ما فيها, الشوارع, والحارات, والغوطة: «لم تكن الشوارع بهذا الاتساع وهذا الازدحام, لم تكن المحلاّت بمثل هذه الإضاءة والزينات, ولا المباني المتعالية ذات الواجهات الزجاجيّة الملوّنة, أو الحجريّة المشكِّلة هياكل وخطوطاً مميّزة! بل هذه الحارات كلها لم تكن؛ البساتين كانت تمتدّ في كل صوب, والأشجار المنوّعة المثمرة, كأنّ الغوطة تناغي بِدَعةٍ الساكنين في دورهم القديمة, وتشاطئ الحارات المأهولة آمنة غير دارية بما ينتظرها بعد زمن لم يطل كثيراً ص9». ويأتي ذلك الزمن الذي لم يطل فإذا بدمشق التي يخترقها نهر من الفضّة, وتحيط بها غوطة غنّاء تصبح مدينة «تتكاثف وتختلط, تتكوّر وتتعمّق, تتمدّد وتتسلّق, حتى أن كائناتها الملتبسة باللهاث والحياة داخل أزياء متنوعة, وأردية سوداء, تكاد أن تنسى الشهيق, مكتفية بالزفير الذي يملأ الفضاء الغاص بأبخرة أخرى ودخان لا يقلّ قتامة ص8».
وإلى جانب دمشق تحضر «بيروت» بوصفها فضاءً للغربة, والتشرّد, والمعاناة. كما تحضر قرية «أبي نضال» بسفوحها وجبالها وأشجارها وبراريها بوصفها فردوساً مفقودا يجسّد براءة الحياة. أما مدينة «النبك» فتبدو نقطة العبور ما بين القرية الساحليّة ودمشق, مابين الحلم وانكساره, وما بين إرادة الحياة وقدرية الموت. وهكذا تبدو صورة الماضي الزاهية بأمكنتها وناسها أشبه بصورة الأحلام الثورية التي عاش «أبو نضال» على وهجها, وبانطفاء ذلك الوهج انطفأت معه تلك الأمكنة أيضاً.
ـ صيغ الراوي:
تتسيّد صيغة سرد المخاطب(أنت) second- person narrative مجمل البرنامج السردي في رواية «المآب» وهي صيغة يكون فيها المَروي له بطل الرواية, أو الشخص الوحيد الذي يُرى العالم من بؤرته. وتوهم هذه الصيغة السردية بتبادل الأدوار, وبالتطابق بين المؤلف والبطل والقارئ من جهة, والراوي والمروي له من جهة ثانية. وهو ما يتناغم مع حالة التقمّص التي دخلها أبو نضال بعد موته, فيبدو أنه مُخَاطَب من جهة, ويخاطب نفسه عبر مونولوج داخلي من جهة ثانية, ويخاطب سواه من جهة ثالثة! وغالبا ما تُحوِّل هذه الصيغة زمن السرد إلى المضارع أو المستقبل. وهي صيغة ملتبسة, تشيع نغمة شاعرية, متشكّكة, منطوية على تساؤل, أو اعتراف, أو لوم, أو اعتذار. نغمة ذات كثافة عاطفية وانفعالية تشي بمرارة كامنة وراءها(2). وهو ما نلاحظه في قول أبي نضال: «كدتَ تغدو العثرة التي توقف العجلة, أو تحاول! وكدتَ تنال الجزاء العادل…تريّثوا, هل كان ذلك من حسن حظّك أو سوئه؟ لكنهم لم يتأخروا, بل أنت من انسحب, ارتضيتَ شجاعة الهروب بدل مغامرة أقسى! واجهت بعد تردّد, بعد أن حذّرت من غموض المسار, وتأكّدت من انحرافه, ويئست من انتظار عودة الرشد, أصرّوا, هدّدوا ورغّبوا, وتجاوزوك ص6»!
وتتناوب مع تلك الصيغة صيغة ضمير المتكلّم التي توهم بتطابق تجربة الراوي مع تجربة الروائي, وصيغة ضمير الغائب التي توهم بالحياد والموضوعية. وتتآزر هذه الصيغ الثلاث في النهوض بالبرنامج السردي, مُسهِمةً بتنوّعها في تكسير خطيّة الزمن وخطيّة الحبكة التقليدية ورتابتها, وفي توليد التشويق عبر الانتقال المباشر من راو إلى آخر بما يحمله من تباين في التجربة والنبرة والصوت.
ـ الحوار:
تتنوّع مستويات الحوار بتنوّع الشخصيّات ونبراتها الاجتماعية والثقافية, وفي الوقت الذي يحرص فيه الراوي على تطابق منطوق الشخصية مع مستواها وموقعها فيكون فصيحاً أو عاميّاً بحسب مقتضى الحال, فإنه يخرج أحيانا عن هذه الترسيمة فيبدو حواره مرتبكا ينوس ما بين العاميّة والفصحى على لسان الشخصيّة الواحدة نفسها وفي الموقف والحال نفسه! على نحو قول أبي نضال: «طوِّلي بالك يا امرأة, دعينا نأكل, اتركي الرجل يعرف يمسك اللقمة, ولا تصدِّ نفسه عن الأكل ص25». «اذكر الديب وحضِّر القضيب, نتكلم عنك, أهلاً وسهلا, أين أخوك ص34».
فالتجاور بين «طوِّلي بالك» و«دعينا», وبين «الديب», وصيغ النداء والاستفهام الفصيحة مثل: « يا, أين» كل ذلك يكشف عن ارتباك واضح وتردّد في صياغة الحوار على لسان الكاتب نفسه لا الراوي أو الشخصيّة الروائية.
ـ تقنيات سرديّة:
في مثل حالة الزمن القصير والمحدود للمبنى الروائي الذي لا يتجاوز بضع ساعات تبدأ من حمل تابوت أبي نضال من أحد مشافي دمشق حتى وصوله إلى إحدى مقابر القرية الساحلية كان لا بد لتقنية «الاسترجاع» من أن تستأثر بمعظم مسافات البرنامج السردي الذي يغطّي حياة أبي نضال منذ طفولته وشبابه حتى رحيله, كما يغطّي في الوقت نفسه حياة عماد بوصفه الشخصية الرئيسة الثانية في الرواية.
فمن اللحظة الراهنة في العقد الأول من الألفية الثالثة ينتقل السرد عبر «الاسترجاع» إلى الأربعينيات من القرن الماضي كاشفا عن علاقة أبي نضال بقريته وأبنائها, وعلاقته بمواسمها وطقوسها, وبالحزب الذي آمن بمبادئه, مستحضرا ما كان عليه من اندفاع إلى العلم والمطالعة والحب البريء لحسنة, وفتاة الزعتر, وأم تحسين, والعشق الواسع للعود, وما واجهه من متاعب في حياته, مرورا بانتقاله إلى بيروت, ووصولا إلى استقراره في دمشق. وهو ما ينسحب على حياة «عماد» أيضا الذي يسترجع طفولته وشبابه في القرية وتخرجه في قسم التاريخ, ومعاناته من البطالة, وخدمته الإلزامية, ومرورا بعلاقته بأسرة أبي نضال, وصولا إلى انتخابه أمينا للفرقة الحزبية في قريته وما واجهه من محاولات رشوته وإفساده.
وتسمح تقنية «الاسترجاع» بكثير من الوقفات التأملية التي تستدعي تعليق القراءة والتفكير في دلالتها, مثل: «العمر قصير وفي الحياة ما يشغلها ص31», «الثورات كالقطط تأكل أبناءها ص70», هل للروح منازل ومستويات؟ هل يمكن لهذه الروح التي ستخرج من أكمل صورة نعرفها أن تدخل في جسد يزحف, أو يطير؟ أو يسبح؟ ص90».
كما تسمح بتوظيف عدد كبير من الأمثال والحكم على نحو قول الراوي: «صاحب الحاجة أرعن ص59», «ليس كل ما تسمعه صحيحاً ص61», «البيدر أكرم من صاحبه ص91», «يبيع الماء في حارة السقايين ص99», «طعمي التم بتستحي العين, فخار يكسر بعضه, بعد حماري ما ينبت حشيش ص171». وتوظيف الأشعار والأغاني على نحو ما جاء في «ص 67 من شعر عنترة», وما جاء في«ص 97 من أغانٍ شعبية».
أما تقنية «الاستباق» فقد جاءت محدودة التوظيف كما في الاستباق المتحقّق: « سيأتي زمن تغدو فيه المسافة المقطوعة مشيا حثيثاً غامضاً, شارعاً عريضاً ولن يطول الأمر كثيراً حتى تتجاوز الآليات المتسارعة المتعاكسة من دون أن يكون في ذلك تحدٍّ؛ بل هو الإنجاز يحسب ويُفاخَرُ به تطوراً حتميّاً ص 47».
ـ ثيمات أسلوبية:
أوّل تلك الثيمات يبدو عبر «التحوير» في المأثورات البلاغية والكنائية, على نحو قول الراوي: «لن يَفُلًّ الحديدَ غيرُ الوفاء ص39», «آناء الموائد وأطراف اللقاءات ص45», «سألته ذات حميمية ص96», «الدّهر كسر ريشي ص66».
وثاني تلك الثيمات الاحتفاء الجليّ للنّص بالصور الفنيّة, والتعابير الإنشائية الرومانسية التي ترد على لسان «أبي نضال», كما في قوله: «ما تزال مسافة أخرى بيني وبين الوصول إلى الدار التي تكاد تختفي بين الأشجار الفارعة المكتظة قبل أن تبرح الشّمس بيدرها السماويّ, فما الذي سيدلني عليها وقد صار الضوء انتثارات وملامح في الأرجاء المحيطة, وإشعاعات نائسة في الخلف ص47».
وثالث تلك الثيمات التناسق بين المسافات السردية عبر الفصول المتقاربة في عدد صفحاتها, وعبر التناوب بين ضمائر السرد على لسانيّ أبي نضال مرة, وعماد مرة أخرى, عدا ما جاء من خروج على هذا التناوب في الفصلين الخامس والسادس اللذين جاءا على لسان عماد وحده! وكم كان جديرا بالكاتب أن يتم فصول روايته حتى الفصل الثاني عشر ليوحي بإتمام دورة الحياة في سنة كاملة ولا يتوقف عند الفصل الحادي عشر كما فعل.
ورابع تلك الثيمات الأسلوبية الاحتفاء الخاص بالاستهلال والخاتمة/القفلة. فقد جاء الاستهلال على لسان أبي نضال المتوفّى وهو داخل تابوته يحدّث نفسه ويتساءل عن سبب إحساسه بالاختناق وسرّ الظلام الذي يحيط به, والسقف المطبق عليه, ومثل هذا الاستهلال الذي يتداخل فيه الهذيان بالكابوس بالفانتازيا يرمي بطعم التشويق للقارئ ويحفّزه على متابعة القراءة.
أما الخاتمة/القفلة فتأتي متناغمة مع السياق العام لمسارات شخصيّة أبي نضال, حيث يختفي كل شيئ ولا يبقى سوى صوت العود الذي كان يعشقه وعلى أنغامه كانت تتردّد أغنية الحرية: «وفي الوقت الذي تمضي فيه طقوس الدّفن والعزاء إلى منتهاها, كانت أصداء اللحن المميّز تتعالى في الفضاء, وتطوِّفُ في الأمداء, تتجاوب معها الكائنات بترددات وإيقاعات متفاوتة: أحب عيشة الحرية ص202».
لقد قدّم غسّان ونوس رواية بل مرثية لرحيل الرومانسية الثورية المتمثلة في شخصية أبي نضال ذلك المناضل الذي لم يتمرّغ بشهوة السلطة من أجل السلطة فحسب بل من أجل خدمة وطنه والارتقاء به في المقام الأول, وذلك عبر تقنيات وأساليب فنيّة تحاكي التجارب الجديدة في الرواية السوريّة دون أن تكون ظلا لإحداها بل صوتا جديدا خاصّا بكاتبها دون سواه.
***********
الهوامش:
(1)ـ ونوس, غسان, المآب, رواية, اتحاد الكتّاب العرب, دمشق, 2011م.
(2)ـ للتوسّع ينظر:
ـ ريتشاردسون, بريان: السرد بضمير المخاطب: فنيّته ومعناه, ترجمة خيري دومة, مجلة نزوى, عُمان, العدد 50.
ـ دومة, خيري: «صعود ضمير المخاطب في السرد المصري المعاصر» مجلة بلاغات المغربية, العدد الأول, شتاء 2009, ص 66ـ95.