الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2014-01-15

لستُ في واردِ القول من دون دليل، لستُ في هاجس النداء، ولا تضاريسَ تُرجِعُ الوقعَ، أو تستعيده حين لا منادَى. ليس في خاطري مهرجانٌ للنّدب أو للعويل. يمكن للوقت أن يغتني بالكثير مما نضيّعه في امتهان التأسّف على ما مرّ، أو لم يمرّ بعد.

يمكن أن نرتاد الكثير من المسافات بدل أن ننفيَها، ونتعامل مع الكثير من الكائنات، قبل أن نسفِّهَ ماهياتِها التي لم نختبرها تماماً.‏

ليس معنى الخيبة أن نقعد عن شواردها؛ لأنّ هناك وقتاً آخر، وجهداً آخر، وسمتاً آخر، وكائنات أخرى، أو جوانب أخرى في الكائنات ذاتها.‏

ليس الخلق ملكي، أو تحت أمرتك، أو رغبتي، أو نزوتك.‏

لستُ أنا من يقود اللحظات إلى حتفها، ولستُ من يُنتدَبُ إلى رثائها، ويَستنزف الكثير منها، قبل أن تتلاشى تماماً.‏

لستَ أنت المخوّلَ بتقويمي، ولا يعني إحساسك بالظلم أن تتشفّى بي، أو بأوقاتي، وليس لك أن تخمّن مالي، أو ما بي، وتتصرّف بناء عليه؛ فقد يكون الخصم ذاته، والضحايا- قد نكون نحن- تتشابه!‏

الأشرعة لا تُفتَحُ للفرار، ولا المغامرة مُجلِبة الأشرار. ولا الموج الضّاري حكمة الأقدار أو حُكْمها، ولا الرّحلة خاتمة الأسفار.‏

لكن؛ لستُ من يقرّر ذلك دائماً، وليس البحر معتدياً أو متآمراً، أو مستدرِجاً؛ أنت أو أنا-ربما- من تخلّى عن الكثير من شروط الأمان، أو من اختار الوقت الخطأ، أو المركب الخطأ، أو الغاية القاتلة.‏

أنت لم تمتْ، ما دمتَ تتألّم، ولم أمتْ ما دمتُ أسمعك، أو أحسّ بك؛ ولسنا وحدنا بالضرورة، إذا لم نرَ قربنا كائنات تتحرّك؛ ألا تسمع أنيناً، أو لهاثاً،أو أصداء غائمة، أو إيقاعات مبهمة؟!‏

أنت ستموت، وسوف أنتهي، هل هناك شكّ في ذلك؟! الزمان والمكان غير معروفين؛ ولا بأس في ما تبقّى من حيّز أن نبحث عن خشبة نجاة، بدل أن نستهلك الأشياء،ونبدّد الإمكانيات،ونقزّم الاحتمالات في كتابة وصيّة!‏

أنت متّ، حين أيقنتَ أنّ الخلاص مستحيل، وأنّ المنقذ لن يهتدي إليك؛ لأنّك طأطأتَ رأسك، فامتلأتْ فتحاتك بالماء المملّح، أو الأبخرة العفنة!‏

وأنا أموت حين أعصر الجهد والوقت في استذكار العناصر كلّها، والكائنات التي مرّت، فيما عليّ أن أتصوّر خلاصاً ما، أو أبحث عنه، أو أنتظره بلا أردية سوداء، وأعصاب منهارة.‏

لن تفيد الوصيّة؛ فلستَ وصيّاً على الآخرين، حتّى لو كانوا من لدنْك؛ فبعد أن تغيب، ما الذي تتركه لأقدارهم ولمبادراتهم ومحاولاتهم؟! ولماذا تحكم عليها بالفشل؟!‏

لا تفرض عليهم مكان دفنك، لا تشغلهم بذلك؛ فقد يكون ضروريّاً استنفاد فرص النجاة، أو إبداع حال تُستذكَرُ فيها أكثر.. إن كنت تستحقّ، في نظرهم على الأقلّ!‏

حتّى الجهة التي تولّي بها رأسك، لا تعني الكثير؛ ففي الدّوّار الجهات كلّها متداخلة، والسمات جميعها مسؤولة عن تَوَهانك، الجهات كلّها تصلح أن تكون سمتاً لوجهتك الأخيرة، التي قد لا يكون لك فيها دور أو حضور، ولا يكون لسواك أيضاً!‏

عرشك المهتزّ لا يحقّ له توجيه التّهمة لجهات الأرض كلّها، وكائناتها جميعاً. عرشك الواثق لا يأبه بكلّ ارتدادات الهزّات، ولا بشِدّاتها التي قد تنتقم من عروش أخرى أقلّ ثباتاً.‏

لا تُحمّلني مسؤوليّة إعلان حالتك، لكي لا أُتَّهَمَ بعد حين بأنّني الفاعل.. وعليك أن تقنع الناس حتّى بالانتهاء منك، لتوفّر عليهم بعض حزن،وبعض خيبة، وبعض وقت يحتاجون إليه، لترتيب الأوضاع التي لم تهتمّ بها!‏

الورقة التي أقرؤها ليست لك، وليست لي، وليست منك، وليست منّي؛ مع ذلك قد تُفيد، أو تحضّ، أو تُسعد، أو تُؤمّل..‏

الورقة هذه التي سأقرؤها، ولا أعرف محتواها؛-هل هي ورقة التوت؟!- الورقة التي أرهقتني، وأنا أبحث عنها، أو ربما كانت معي، أو معك، ربما هجستُ بمحتواها، أو قلقتَ مِن توهّمها، أو كنتَ تبحث عنها أيضاً، لتسترشد! وربما سكت عنها الكثيرون، ولم أسكتْ؛ الكلمات فيها أو الغصات قد تقول ما لم نستطع أن نقول، وما يجب أن يقال، وما يجب أن يُقتدى.. حتّى لو أهلك دونه!!‏

اترك رداً