الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي-ليس آخراً
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

لم تكن تقصد!
غسان كامل ونوس

الجسد المثخن بالوجع، المترع بالوخز، الموشى بالأسى..
الجسد المغرورق بأنداء وسوائل حارقة، المكدود من تعب ولطم وتنكيل، وطعنات مارقة.
الجسد المنزرع في الأرض، المشرئبّ إلى السماء، حتى لو كان ينزف، لا يزال يحيا!
أنت لا تقصد، لكن سهامك تصيب الصميم، عن قرب وبعد!
أنت لا تهدف إلى الإساءة، لكن كلامك يصب في المجرى القاتم!
لستَ في صفّ الخصوم ولا في خندق الأعداء، لكنّ الاتجاه الذي يمضي فيه حديثك وغضبك وحدّتك يقود إلى هناك.
لا علاقة لموقفك بمواقف الذين يكيدون للبلد جهاراً، لكنها تناسبهم وتعجبهم ويمتدحون ويدعمون.
نواياك تجاه أبناء جلدتك سليمة صافية، ولا تضمر لهم الأذيّة ولا تتمنّى لهم البلية؛ فماذا عن إشاراتك وتلميحاتك التي تؤدي إلى ما يخالف الخير لهم، لبعضهم، وقد تودي بهم؟!
تريد الهدوء والاستقرار، ولا تترك أبسط الأشياء يمرّ من دون شوشرة وحنق وجلبة..
تتغنّى بالتسامح والترفّع، ولا يكاد أحد ينجو من لومك وعتبك على أوهى سبب.
تدّعي الموضوعية، ولا ترى إلا بعين واحدة وفي اتجاه واحد؛ تفضحك تعليقاتك ومصطلحاتك ورواياتك واتهاماتك.
أنت تكره العنف وتمجّ مشاهده، وتنفر من رواياته، لكنك لا تستنكر القتل المجّاني، وامتهان الحياة، وانتهاك الموت، ولا تُدين المجرمين؛ بل تتجنّب الحديث الذي يذهب في هذا المنحى، وتدين المتحدثين!
تُكثر من التشفّي بالفساد، والتلمّظ بأخباره، ولا تتناول المقرّبين منك، وأولياء نعمتك المستحدثة، وتتناسى مصدرها، وتتغافل عن الطرق التي تعرفها جيداً في هذا الشأن. الجسد المضمخ بالأصالة، مع أنه لا يزال يئنّ، لا يزال حياً؛ سيتعافى، وسيستمر في الحياة بقوّة وأنفة وكرامة.
أنت لم تكن تقصد؛ لم تبالِ بما كان يحدث، ولم تشِر إلى الثغرات، ولم تكترث بالوهن، ولم تمتعض من التسيّب، ولم تنزعج من تجاوز القوانين، ولم تتألّم على من ضاعت حقوقهم، ولم تتأفّف من الهدر، ولم تتحسّر على الوقت المضيّع، ولم تندم على خسارة..
لم تكن في عجلة من أمرك؛ أَهملتَ، وتردّدتَ في الإقدام، واستسلمتَ للأقدار البشرية الشرسة منها واللينة، ورضيت بما فُتَّ لك، أو أُلقي إليك، ويمكن أن تكون شكرت وحمدت!
لم تكن تقصد؛ أَطعمتَ، وأُطعِمتَ، وما تورّعتَ عن انتهاك حصص الآخرين وأحيازهم، ما توقفت عن السعي وراء مصالحك، بكل ما تملك، وما يمكن أن تستغلّه مما لدى من هم تحت سطوتك، ومن تعيش في ظلالهم، وما تستطيع الحصول عليه محايلة أو مناورة أو مداورة أو خداعاً..
الجسد المتحفّز إلى الخلاص الوشيك، المتمسّك بالحياة التي تليق، المتطلّع إلى الآتي الجميل، يأمل، ويهفو، ويرنو..
أنت لا تقصد؛ ولكنك لا تترفّع عن الضحك في جنازات الفاقدين، ولا تعفف في حضرة الحزن، ولا تخفّف اندفاعك المحموم صوب تركات الراحلين، ولا تتراجع تحت وقع الأنات وشكاوى المحرومين، ولا تفوّت فرصة في اقتناص ما يمكن أن تتيحه الظروف الطارئة، وتتركه الحالات العارضة بلا حرّاس..
أنت لا تقصد؛ وتسارع إلى استغلال وضع مختلّ وواقع مرتبك، وافتعال أزمات ومشكلات، وإثارة نعرات وخصومات، واستباحة أوقاتٍ وأقواتٍ وحرمات..
الجسد الواثق يسير في درب الصلاح، وتتضح معالم المعابر السالكة نحو المحطات الآمنة، والفضاءات المأمولة، والآفاق المشرقة..
وها أنت تقصد؛ وتسارع إلى مقدمة الرّكب، وتتسابق لتحمل الراية التي تركتها تسقط، وربما سرقت ساريتها، وأشعلت بها الحرائق، أو ترفع أية راية أخرى، وتتباهى بمفارقة أصحاب الدروب العسيرة، واتهامهم بالمسؤولية عما كان، وكنتَ الأسبق إلى الولائم والمغانم، وما كانت حصصهم أكبر، ولا قدراتهم ورغباتهم..
ها أنت تهدف إلى قطف ثمار أخرى، واغتنام فرص جديدة، واستغلال ظروف مستجدّة..
ها أنت تتلوّن، وتتحوّر، وتدّعي الأبوّة، بعدما تأكّد عقمك، وانفضّ الخصب عنك، وبان هجرانك بينونة كبرى، وانقضت العدّة، والملامح التي تتشكّل لا تشبهك في شيء، وما تزال في البال آثار تخلّفك عن الخطو الرشيد، وقعودك عن طلب المعالي، وولوغك في السبي والغزو، وما تزال الكروم تذكّر ببصمات سارقيها وحوافر مراكبهم وعجلاتها..
أنت تقصد، كنت، ولا تزال..
لكنّ للمروءات فرسانها، وللآفاق جيّابيها، وللمكارم رجالاتها، وتعرف الديار من صانوا وما هانوا، وتعرف الذين صبروا وصابروا، ونذروا أرواحهم وأوقاتهم ومصائرهم، وما أصابهم خوف ولا ضعف ولا قنوط..
منهم من قضى، ومنهم من في آفاق الشهامة والاعتزاز ماضون، وما بدّلوا تبديلا..!!
***

اترك رداً