كتاب في الذاكرة
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
ثمّة كتب كثيرة، رافقتني ساعات من التواصل المباشر، لم تبرح أطياف منها مخيّلتي سنين طويلة. ومن الظلم لأكثرها، الحديث عن واحد منها أو قلّة، وإغفال أخرى. ويمكن القول إنّ الكتب الأثيرة لديّ، هي تلك التي فتحت لي كوّة إلى حيّز جديد، لم أكن أعرفه، أو لم أكن أتوقّع وجوده، أو لم أكن أجرؤ على التخويض فيه، والتعامل مع عناصره، أو أتصوّر أنّ أحداً يمكنه ذلك. ولا تقتصر تلك الكتب على منحى محدّد من جوانب المعرفة؛ علميّ، أدبيّ، اجتماعيّ، فلسفيّ، سياسيّ، اعتقاديّ؛ في الكون وانطلاقه ومكوّناته، في الحياة وبداياتها وسيرورتها وإمكانيّاتها، في الموت وما بعده؛ في الفلك والأجرام والمدارات، في الثقوب السوداء الكونيّة، والكوّات الغريزيّة البشريّة، واللذّات السرّيّة والمعلنة، والجنس الآخر؛ في الجزيء والذرّة والنيترون والنانو، في نظريّة الكمّ، والإلكترون، الذي يمكن أن يكون في مكانين في وقت واحد! في الهندسة وأشكالها، وحساباتها وتحليلاتها ومنطقيّة العلاقة بين المدخلات والمخرجات، وأهمّيّة المقاومات والحوامل؛ في الأجناس الأدبيّة وغير المجنّسة منها الشعريّة والنثريّة، العربيّة والمعرّبة، في اللغة ومميّزاتها وخصالها؛ في ألف ليلة وليلة، والسير الشعبيّة والأساطير؛ في الموضوعات الفلسفيّة والحكمة، والوعي، واللاشعور الجمعي، واللاانتماء؛ في المعتقدات والمقدّسات، ومصادرها ومذاهبها، وتأويلاتها، وحلولاتها، وتكهّناتها، في التصوّف والزهد؛ في الفنون وتجلّياتها؛ في السياسة وحبائلها؛ في الصمود والتضحية والدفاع عن النفس والمبادئ والقناعات؛ في التاريخ والفلسفة؛ في الآثار والحضارات القديمة، وأدبيّاتها، في الحضارات الجديدة، وحروبها المعقّدة، والإنجازات المذهلة في السرعة، والمباشر، والتضليل، والتدمير، والعاجل…
ومن عاداتي المتّصلة إلى الآن، أنّني لا أعود إلى كتاب قرأته؛ حتّى إن شاقني؛ إلّا إن كان موضوع دراسة وكتابة ومراجعة، ولا أنشدّ إلى كائن مستثقل، أو مكان مستهلك، أو كينونة مستنفدة؛ لأنّني أسعى إلى إضافة جديد، في أيّة فرصة؛ وما أضيق الفرص على ما يمكن الحصول عليه، وما يُتمنّى الوصول إليه، قبل أن يتلاشى هذا العمر بالغ الضآلة؛ قياساً على ما كان، ويكون، ويمكن أن يكون!
ولهذا؛ ففي هذا الحيّز المتاح، الذي اغتنمته للحديث مطوّلاً عن شأن، قد لا يبتعد عن كثيراً عن الموضوع المطروق، ولا يستغرق فيه، سأتجاوز المشهور من الكتب الكثيرة- وأفضّل غير المشهور- والكتّاب الكثر، والموضوعات المتنوّعة؛ وأنحاز إلى ما كان له السبق الزمنيّ والمعرفيّ التساؤليّ، ولم يكن له الحضور البارز؛ لكنّ له الريادة في الأدب والقصّ؛ ولا سيّما في محافظتنا، التي كانت الأسماء الأدبيّة فيها قليلة حوالي منتصف القرن الماضي.
لقد جذب اهتمامي كتاب مختلف عن الكتب المدرسيّة؛ بالشكل، والخطّ، والفصول، والموضوعات؛ بلا أسئلة ولا رسوم ولا تطبيقات.. وجدته في بيتنا، لدى أخي، الذي يكبرني ببضع سنين، ويسبقني في الاهتمام الأدبيّ والعلميّ؛ كتاب متوسّط الحجم، من دون غلاف خارجيّ، وله عنوان لا أنسى مرتسمه؛ على الرغم من أنّني كنت في أواسط المرحلة الابتدائيّة؛ كان العنوان: “صور من حياتنا”؛ تأليف: محمد المجذوب. بدأت قراءة نصوصه، التي تقترب من الحكايات، ولا تكمل تاليتُها سابقتَها؛ وهذا ما أثارني! ولم أكن أعلم شيئاً عن جنس أدبيّ؛ يدعى: القصّة القصيرة، ولا أعرف مدى قربه أو بعده عنها؛ نعم، كنت أعرف الشعر من محفوظات المدرسة، وأعرف النثر من نصوص القراءة؛ أمّا الحكاية فقد عرّفتني بها جدّتي لأمّي، وأسمعتني عدداً منها، تستعاد، وتستزاد في زياراتها الشهريّة، وربّما الفصليّة؛ أمّا جدّتي الأخرى، فاختصاصاتها مختلفة، ولا “بال فاضياً لديها للحكي”؛ حتّى العاديّ منه؛ لكنّها ملحّة في دعوتي إلى أن أترك اللعب مع لداتي، وآكل “المتبّلة” الجامدة، من تحت “المكبّة” العملاقة!
ما أثارني في نصوص ذلك الكتاب/ اللقيا، أنّه مكتوب بلغة فصيحة؛ كنت وما زلت شغوفاً بها، وبحوارات كتلك التي تدور في الجلسات المديدة في الضيعة الصغيرة، وحوادث ينقلها بعض البائعين الجوّالين، الذين يتكرّمون بها على البيوت الضائعة، وساكنيها المعدودين في تلك السفوح الشجريّة، بأويقات وخردوات؛ كما يعود إليها بعض المسافرين للعمل في مدن ودول مجاورة؛ بكثير من المشاهدات والمرويّات، ويكثر السمّيعة المنتظرون بلا منّة؛ حيث لا تشغلهم كثيراً طقوس معتادة ومواعيد مقسومة.
أعرف أنّني أعطيت حيّزاً مهمّاً للطقس، الذي كانت تستدعيه القصّة/ الواقعة/ الحكاية، أو يستدعيها؛ كما كانت الحال حينئذ، أكثر من محتويات الكتاب؛ تلك التي لا أذكر كثيراً منها، ولا يزال في البال بعض ملامح شخصيّاتها غير الغريبة، وتفاصيل حياة، تكاد لا تفترق عمّا كنّا نلاقي في بيئتنا الريفيّة المنسيّة، سوى من الريح والبرق والرعد والمطر والوكف، والبرد، والوحل، والحشرات والوحوش البرّيّة والأشباح جنّيّة والآدميّة، ومنعكساتها، التي تتشارك قادرين أُخر أرضيّين وسماويّين وما بين بين، في ترتيب المصائر، وتحديد النهايات، التي يبقى بعضها مفتوحاً؛ لا لمشاركة المتلقّي بعضاً من تصوّراته، وإشغاله بها؛ كما بتنا نقول في تناقدنا الأدبيّ المتعالم اليوم؛ بل لأنّ لها تبعات، وأصداء، تبقى في تهيّؤات الخيال، والتحوّلات، التي يمكن للاعتقادات الشعبيّة أن تشكّلها، من دون أن تترك مجالاً واسعاً للتنكّر لها، أو حتّى لمجرّد التفكير في إمكانيّة الاقتناع بها؛ ولهذا؛ ربّما، يغدو الغريب جذّاباً، والجديد مثيراً، والوضّاء مدهشاً وفاتحة للمغامرة الماتعة؛ حتّى إن كانت؛ بشكل من الأشكال، “صوراً من حياتنا”!
بقي أن أقول، قد يكون محمد المجذوب، ليس سوى واحد من المظلومين الكثر في التاريخ الأدبيّ؛ إذ لم يتردّد صداه كثيراً، بين الأسماء، التي تتالت، وتكاثفت، وتقاطعت، وما تزال، وبعضها لا يستحقّ! فلم لا ألوم نفسي قبل سواي؟! وها إنّي أحاول التعويض؛ فهل فات الأوان؟! لكن؛ ربّما على سبيل التأسّي، لم يكن التواصل ميسّراً بشكل عام، ولنا بشكل خاصّ، ولم نكن نتجاسر بتحلّم الوصول إلى من يكتب، ونقرأ اسمه مطبوعاً على الورق؛ تُرى هل كان كائناً يُرى، ويُلتقى، ويُسأل، ويجيب؟! لقد حاولت، وكلّ ما عرفته آنذاك، ولم أستوثق من المعلومة، أنّه كان يدرّس في ثانويّات طرطوس. وحين سألت عنه مجدّداً، في وقت متأخّر، وتساءلت، وتقصّيت، علمت أنّه غادر طويلاً للعمل في السعوديّة، وعاد، قبيل وفاته بقليل، منذ بضع سنين، إلى اللاذقيّة.
***
غسان كامل ونوس