ألأنه يشبهنا؟! كان الأمر كذلك؛ فهل ما يزال؟!
أوّل نسخة من كتاب ألف ليلة وليلة، باشرتُ القراءة فيها بعد مرور مئات الليالي، من دون أن أعلم العنوان؛ لأنّ صفحات عديدة كانت قد فقدت، وهذا لم يؤثّر على جاذبيّتها وفتنتها، ولا على اهتمامي بما قرأت؛ كما لم يؤثّر في ذلك بعض هيئات كتب كثيرة تهرّأت بعض أوراقها، أو تهتّكت أغلفتها؛ ألأنّ ذلك كان يتساوق مع هيئاتنا وأرديتنا؟! لم يكن الكتاب زاهياً متلألئاً مصقولاً منوّعاً؛ وكان أليفاً؛ كذلك كانت موائلنا وأركاننا ودروبنا وموائدنا.. شهيّة! لكنّه لم يتحدّث كثيراً عن الفرح، ولا عن الراحة، ولا السعادة، ولم يغب الحبّ وخيباته، ولا الأمل وأطيافه، ولم ترخص الأرواح فيه، ولا النفوس تذلّ، ولم يُفتقد الانتماء. وكان هذا معادلاً في المشاعر والتطلّع والإيمان؛ دُهشنا حين قرأنا أفكارنا، وخجلنا من غرائزنا المكتوبة، وانشددنا إلى أفعالنا المستورة، وأحلامنا وأوهامنا المصوّرة.. بمبالغة ربّما! إذن يعلم بها من كتبَ، ومن قرأ قبلنا، ووصل الكتاب عن طريقه، قريباً أو صديقاً أو.. بعيداً؛ وما تزال أصداء انفعالاتهم، وبقايا إثارتهم، وآثار لمساتهم ما بين أسطره المحتشدة، وصفحاته المكتظّة، وألوانه الباهتة؟! فما الفائدة من التخفّي والسرّية والتحايل والمشاكسة… وما الجدوى؟!
لم يكن للكتاب –مثلنا- حدود حادّة، تساعده على الوقوف أو الجلوس، ولا مكان يستقرّ فيه مترسّماً منتظراً مواعيد أو استئذاناً، أو مطالباً بطقوس خاصّة وجلوس يليق؛ الحضن أدفأ، ورفقة الطريق والبيادر آنسُ، وأوقات تحين آلفُ، طيّاتِ الليل ومدياتِ النهار، لا يعصو ولا يتذمّر من كثرة (الخلّان)؛ فهو خير جليس، ولا يقصّر، مشاغلاً ومواسياً ومحمّساً ومدارياً.. ومسلياً ومُلهياً، حتّى عن وظائف مدرسيّة، وإن كمّل منهاجاً، وأغنى معارف؛ ومؤجِّلاً مهمّاتٍ معروفة، ومواعيد عارضة، ومسؤوليّاتٍ ليست ضاغطة؛ ما يؤخّر أعمالاً، أو يسرّع في أخرى، ويغيّب انتباه الراعي عن دوابّ تُغافلنا، فتجور على مزروعات تتناهض، وتتجاوز إلى أرزاق الجيران!
وهو حمّال (الأسيّة)، يتحمّل بعضاً من تبعات سلوكاتنا ومعاركنا، التي أسهم في بعض تفاصيلها، من خلال سِيَرٍ وأساطير، تخرج بعض عباراتها من أفواهنا، ونحن نترامح بالقضبان ونتطاعن بالعصيّ، “نتبارز ونتناجز”، ولا يقصّر في ذلك سوى “الكسلان والعاجز”!!
لم تختلف الحال كثيراً، حين التقينا بلا تخطيط؛ بل في حاجة وتشوّف، في رفوف المركز الثقافيّ، فلا هيئة الكتاب تبدّلت كثيراً، ولا مظهره تغيّر، ولا لونه ولا ما فيه.. لكنّه الترتيب والتوضيب، والاهتمام البادي بنظافته وتصنيفه؛ وما كان لنا –مثله- سوى تحمّل الظروف والصروف، ومحاولةَ تعقّبٍ للسمت، وتبيّنٍ للطريق، وتأمّلٍ للغاية.. وكان لنا المزيد من الحرص على متابعة الرفقة، وتواصل الجهد، واتّصال العهد.
حين صار للكِتاب مستقَرٌّ مستو،ٍ ومتّكأٌ إلى قرائن وحيطان، بعد زمان التشرذم والتكوّم، تأنّقَ وتلوّنَ، وازدهى وتَسَلفَن، وتصلّبت جلدته، واستوى قوامه في مجلسه، وأطال المكوث بلا أيدٍ تداعب متلهّفة، ولا أعين تلاحق توّاقة.. حتّى النسخة المدعّمة المحمرّة من الليالي الألف والليلة الأخيرة، التي أُهدِيتُها من قبل مؤسّسة معنيّة لقاء نشاط أدبيّ تحكيميّ، بأجزائها العشرة، لم تُفتَحْ!! كما الكثير سواها يشابهها، قد يقلّ حجماً أو يزيد بهاء!
كتاب آخر كنت قد تابعتُه بشغف، من دون أن أعلم بأنّه مجموعة قصصيّة، أو أعرف مؤلّفها الرائد في الأدب “محمد المجذوب”، وعنوانها “صور من حياتنا”، إلّا بعد حين… وها هي مئات المجموعات الإبداعيّة في القصّة والشعر، مرتّبة ومنتظمة، ملوّنة ومصقولة في معظمها؛ مع أسماء ظاهرة ترسّخت، وأخرى مستجدّة، وكتب أخرى في النقد والدراسات والبحوث، وأعداد وافرة من دوريّات أدبيّة وثقافيّة وسياسيّة متعدّدة، لا تقلّ اهتماماً شكليّاً، وتنوّعت مضامينها- تلفت النظر، جُمعت بلهفة، وتكاثرت بلذّة وإيلام؛ ما الذي ينتظرها؟! لا أحد يقاربها استعارة أو اهتداء، لا أحد يسرقها؛ ليس لأنّها في غرفة جوّانيّة؛ بل حتّى لو كانت على قارعة الطريق!!
نعم؛ خزائن العرش متاحة في الشابكة، هناك كتب الكترونيّة، وإصدارات مفتوحة على الملأ؛ هل هذا هو السبب؟! هل ما تزال اللهفة محمومة لدى إصدار جديد أو طبعة متجدّدة، والإثارة نابضة في إيجاد كتاب منتظر، أو طال البحث عنه، وهل الرعشة تحضر في مقابلة مؤلِّف؟!
هل ما يزال الكتاب خيرَ جليس، أم أنّه، مكتفياً بأناقته النافرة وإطاراته الحابسة، ينتظر– وحيداً- بالرغم من وجوده مع الكثيرين من أقرانه، جلساءَ خيّرين، يمنّون عليه باهتمام واحترام!!
كأنّه يشبهنا!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: فارس العرب ع 204
تاريخ النشر: 2016-04-15