شهادة
في
الشاعر محمد عمران
كأنه الشعر..
يعاود الصبح طلاته من ضنى الأسئلة المعتمة..
كأنه الشعر..
ينحدر الينبوع من غفلة الصخر، وينسرح النسيم الملون في السفوح المعلقة..
كأنه الشعر.. يلوح طيف القادمين من رحلة عاتية، ويعرش الهسيس في الأويقات الحانية..
كأنه الشعر..
يكفكف الزفرات، ويكثف الأصداء، ويلملم الآثار من عرى الدروب، ويراود البوح عن احتراقه، والأمل عن تناذره، وينفض الآثام عن كائنات متورطة بالحياة، مفتونة بيومها، فتعيشه حتى منتهاه..
لأنه الشعر..
تستفيق المآقي المتعبة بإشراقة وأسئلة..
لأنه الشعر..
تنهض القامات من بين الهياكل المترنحة..
لأنه الشعر..
تنبثق الخطا، فترتسم الدروب في ازدحام التضاريس ومنعرجات الضياع..
لأنه الشعر.. والشاعر..
تنتثر الأشعة في السموت.. وتتوالد..
لأنه الشعر.. والشاعر..
تتخلق البراعم، ويطوّف غبار الطلع، وتتوشى الورود بالشذا، والمواسم لا تمل، والسفوح سلالم اللهفة للذرا المتعالية..
والحنين زاد العابرين، والرضى ثواب..
لأنه الشعر.. إنه الشاعر محمد عمران من طلع من ثنايا الوعورة والفقد، يوزع جوازات عبور للإبداع في الجهات..
محمد عمران.. الواقف كجذع سنديان في معبر الريح العنيدة، شاهدة صلابة وإصرار.. وعنوان قيامة!
كأن روح الشاعر عمران خفق ألوان فوق بساط أخضر: يمشي فلا يبرح، يحلق فلا يحط، يغادر فلا يغيب، يحضر فلا يطال..
لعل في مسيرته مغامرتنا صوب الضوء، وفي مغامرته سبيلاً لخطونا المتردد، وفي سبيله روافع لأيدينا المتلهفة..
لعل في يديه دفة العبور بأقل قدر من الوجع والخسارة، وفي عبوره حكاية الثمرة التي تتماهى في بذرة، وفي حكايته رسالة وحافزاً ودعوة وبسالة وتضحية وخلوداً..
حمل محمد عمران وشماً من طين الخلق، وزوادة مما كان في البدء، وقلادة من أماني كائن مسكون بالفصول المتقلبة.. ولا أمان! وتعويذة عائذ بالألم من الضيق، وبالخطو من الألم، وبالطريق من الخطو، وبالقول من الطريق، وبالخيال من القول.. مستجيراً بالسفر من الغربة، باللذة من الخطيئة، وبالشعر من الخيبة..
لمحمد عمران ريادة شعرية نوعية شكلاً وبناء ومفردات وصيغاً ومعاني واجتراحات، وخطا مدفوعة باكتناز الذات، وحيوية الأفكار، وتوق الروح، وفيض المشاعر، والثراء الثقافي.. ومساره موسوم باندفاعة الشاعر، وتمرد الشعر، وامتداد الرؤى، وبعد المرامي، وسلال الجنى..
ويحسب لمحمد عمران احترامه لبيئته، رغم ابتعاده عنها زمناً، فتداخلت تفاصيلها في نصوصه عناصر مادية، وكائنات حية: أسماء وأوصافاً وألواناً ومشاهد وإيقاعات، موجات ألفة ودفء، وأصداء حاجات ورغبات وأحلام وانكسارات.. وقبل ذلك وبعده: رموزاً تتخلق تاريخاً وأساطير وطقوساً وإيحاءات مترامية في البعد الزماني والمكاني، ومتماهية في سريان الحياة المستمرة ووقعها في الوجدان..
إنه الوفاء والإخلاص والانتماء..
ورغم هذا الحضور المميز للبيئة التي انطلق منها الشاعر حاراً، وعاد إليها قانعاً، وتوسدها قريراً، فإن شاعرنا لم ينبتّ عن البيئات الأخرى، ولم تغب همومها ومعاناة أبنائها وانفعالات الحياة فيها بحلوها ومرها عن إبداعاته. وليس هذا غريباً على الشاعر الذي يوزع الحب في الاتجاهات الستة، ويتحسس الآه أنّى خرجت، والقهر والظلم حيثما حلّا، والمرارة واليأس وفقدان الأمان والاطمئنان..
ليس غريباً على محمد عمران الشاعر الإنسان..
أيها الأصدقاء:
ليس تكريم الشاعر منّة، ولا الاحتفاء بنتاجه عطاء له، ولا سيما إذا ما كان بجسده قد غاب؛ فهو لا ينتظر ذلك، لم يكن ينتظر، ولم يعط ليُعطى، ولا احترق لينفخ في رماده؛ إنه خارج الموقد، داخل الوجدان..
إن في وقوفنا في محرابه اليوم وكل يوم مكرمة لنا نحن الذين قد نضل عن شعلته، ونبتعد عن إشعاعه، وندمي الوقت في الحديث عن هفواته الآدمية، فيغض الحواس، ويغيب منكسراً.. فهل أقل من أن نحاول التكفير عن ذلك بالحديث عن جناه؟! هو الذي حاول أن يكفر عن خطايانا التي تحتاج إلى الكثيرين من أمثاله.. بعضهم موجود ما يزال، وبعضهم قد قضى.. وقد نمارس بحقهم ما كان من نكران، لنعيد الكرّة، أو يعيدها سوانا من أبناء الخطيئة المتواترة!!
إن في استنهاض قامته الإبداعية من جديد، نهوضاً لنا نحتاج إليه، واعتزازاً لا غنى عنه،
وفي استثارة أصدائه الحية إحياء من مواتنا المطرد. وإن في النظر مجدداً إلى ظله الفسيح، والتملي بأمدائه الشاسعة تجديداً لملكات الاستشعار، وتأكيداً على استمرار الحياة وجدواها..
وإن مقاربة أحاسيسه المبثوثة في رصيده الثر، ومتابعة إرهاصات روحه الفياضة، استثارة للمشاعر الإنسانية، وإزكاء لشعلة الحب التي يجب ألا تنوس..
إن في الاحتفاء بإبداع محمد عمران تحريضاً لجذوة الإبداع فينا، وإكراماً لملامحها المتعددة، وتحفيزاً للكثيرين كي يصونوا جمرتها، وتقديراً لحامليها ممن ما يزالون بيننا.. ودعوة لاستذكار الذين مضوا وتركوا لنا أرصدة من العبير الإنساني.. ما يؤكد قيمة المبدعين وأدوارهم في حياة لا تنقصها المواجع، ولا تعوزها الخيبات.. فالمبدعون نسغ الحياة، ونبراس العبور، وزاد الرحلة.. والعنوان..
الشاعر العربي المبدع محمد عمران.. شكراً لروحك الوثابة، ولعطائك الخالد، الدافع على الاستمرار في طريق الإبداع الإنساني، مهما وعرت المسارات، وضاقت المنافذ، وقصّر العابرون..
***
غسان كامل ونوس