الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: --
الناشر: مجلة الموقف الادبي العدد 361 ايار 2001
تاريخ النشر: 2011-05-01
رابط النص الأصلي: 

ثانياً: عدوٌّ حيويّ. قصة: غسان كامل ونوس:‏
تحمل هذه القصة إلى القارئ موقف الكاتب الشعوري في صورةٍ رمزية حين يرسم عالمه الداخلي من خلال عمله كمهندس زراعي أو ما يشبه هذا الاختصاص، ويُظهر المستوى التعبيري مقدارَ ما عانته شخصية السارد في ماضي أيامها من فقرٍ في الريف وجهدٍ في الدراسة، ومن ثم الحياء الفطري الذي يدخل عملية صراعٍ نفسيّ مع الآمال العريضة التي يبنيها شابّ مثقف وصل أخيراً إلى العمل في مزرعةٍ لواحد من الموسرين. حيث يقف على جانب من حياة الطبقة الأخرى، فالسيد (القادر) والسيدة المترفة تبوح للشاب “إنني غير سعيدةٍ يا توفيق. أحسّ بالملل والتعاسة.‏
هناك في المدينة لا أحسّ بالحياة. هواتف ومراجعات ومسؤوليات وواجبات أغرق كآلةٍ دون وقتٍ للمشاعر والعواطف. فأهرب إلى هنا”.‏
“وهنا” ظرف مكاني، لا يعني المزرعة فحسب، وإنما يُشير في المستوى الترميزي إلى “الشابّ” والترميز في القصة كما يتضح في المذهب الرمزي. لونٌ من ألوان الهروب من دنيا الحقيقة إلى دنيا الأوهام والأحلام قد يُلغي العقل والفهم السليم لحقائق الوجود، ويُعبّر عن المشاعر المنطلقة من العقل الباطن دون تحليلٍ أو تفسيرٍ، ولفظة “هنا” التي تنبثق من قلب المرأة تبدو تعبيراً عن تراكماتٍ وتجاربَ ذاتيةٍ وموضوعيةٍ استطاع القاصّ أن يجسّدها، ويرسم أبعادها النفسية حيث يغدو الترميز هنا ذا دلالاتٍ إيحائيةٍ تنمّ عن الرغبات والأمنيات التي تتمناها المرأة في مجتمعٍ استهلاكي اقتصادي وصناعي وفكري انهزمت من صخبه، وضجيجه إلى “هنا” حيث المزرعة بخضرتها ومائها وجوّها الطبيعي الذي يتحرّك خلاله الشابّ محطّ الأمل ومفجر الرغبة والملاذ الآمن الذي يوصلها إلى السكينة والهدوء، ولم يكن هو بدوره سوى إنسان نظيفٍ بسيطٍ أو أنه يدّعي البساطة وهو أمام هذه الرغبات اللاهفة.‏
“فأنا ما زلت لا أعرف ما خفي من المرأة، وما زلت لا أعرف كم يختلف ذلك عما ظهر من الحيوانات التي كنتُ أرعاها. مشرعة الأذناب، أو تلك التي من السهل إشراعها”…‏
إن المستوى الترميزي في القصة يتفوّق على المستويين التعبيري واللغوي إذْ عمد القاص إلى طبعه بطابع الذاتية الشخصية، ولكنه أسقطه بصورةٍ فنية على بعض المشكلات الواقعية واستلهام المنطق الإيحائي من خلال الواقع نفسه ومن ثم فإن الرمز يتخذ مساراً جديداً يمكن أن نسميه (الرمز الواقعي)، ولعل هذا المسار الذي عرفناه في الشعر يجسّد ما ترمي إليه القصة أصدق تمثيلٍ في الترميز للرغبات العاطفية التي تمور في النفس الإنسانية بالمزرعة والظلال والثمار والبركة والنسر، والتعبير في هذا كله يأخذ جانب التلميح و (الإسقاط) النفسي الذي يحمل في مدلولاته رؤيةً واقعيةً يطرحها من خلال التعامل مع المزرعة ونباتها وهوامها من دون أن يغرق في عالم الخيال والحلم مع أنه استرجع كثيراً من ذكرياته الشجية “يحظّر قطعياً تطعيم التفاح في مثل هذا الوقت.‏
أخفض رأسه. كان عليه أن يحدد فترة غيابه عن القرية أطول ما يمكن كي لا يرى التفاح الذي نصح بتطعيمه منذ أيام بلا أغصان…”‏
إن للتفاح في الموروث الشعبي بُعداً جنسياً فهو الثمرة المحرمة التي ما إن ذاقتها المرأة حتى كان ضياع الفردوس من البشر.‏
وكذلك المزرعة والبركة والبطّات رمز الأنوثة التي تُغري الذكورة بالاقتراب فيتجلّى النسر في عليائه رمز الأنفة والكبرياء متسامياً عن الجيف، والصغائر، وقد التزم القاصّ بالتعبير عن الرغبات المكبوتة فأخضع القصة لما يقتضيه الموقف ويعبّر عن الحقيقة الأزلية في انجذاب الذكورة إلى الأنوثة حيث يعمد إلى الانحدار برمزه وإسقاطه من علياء عنفوانه ويجعله يعيش لعبة الجسد، كل ذلك من دون أن يصرّح الكاتب بعبارةٍ واحدة مكتفياً بالتلميح دون التصريح:‏
“كان ينظر من علٍ، الأرضُ ملوّنةٌ، مقسّمة إلى مساكب واسعة بما لا يحدّ، والماء يتدفق عبر حدودها، وهو يحلّق فوقها. الماءُ يأتي من بحيرةٍ واسعةٍ. طار إليها. وقف فوقها. كانت الزرقة والكائنات الملونة تتحرك عبرها. صارت تضيق والكائنات تتصاغر. صارت نقطة زرقاء. ضاعت فيها التفاصيل‏
الملونة. زرقاء قاتمة. نقطة سوداء.‏
كان في الأعلى فارداً يديه يحركهما. ويحرك رجليه للأعلى وللأسفل ثم يتبعهما ضحك وهو معلّق في الفضاء. ما بين الأرض والسماء. تضاحك حين غابت البحيرة والأرض، وتذكر كيف كانوا يقهقهون. حين يلاحظون النسر واقفاً. إنه يضاجع الهواء. وتراخت الضحكة حين لم يكونوا يجيبون على التساؤل الذي يلي… الذي يمكن أن يلي والذي لم يسأل.‏
لماذا كان النسر بعد وقوفه ذاك يتهاوى بسرعة باتجاه الأرض”.‏
لقد استطاعت القصة أن تركز على شخصيتها المفردة، بإسقاطاتها المتعددة التي تجمعت في بؤرة واحدة -محرقها العاطفة- برزت من خلالها مجموعة أفكارٍ عبّرت عن الواقع النفسي والاجتماعي والاقتصادي في فترتين متباعدتين من حياة الشخصية حياة الفقر والمعاناة والحرمان التي تُمثّلها الطفولة في القرية، وحياة العمل وطغيان العاطفة في مزرعة (السيد القادر) والعدوّ الحيويّ، زوجته التي عبّرت عن رغباتها بالرمز وعندما لم تفلح في جذبه إليها. كانت الدعوة الصريحة الصارخة.‏
والتي انتهت بتهاوي النسر أمام تشظي الشهوة وجاذبية الأنثى…‏

اترك رداً