24/07/2004
في قصص «مفازات».. مكابدات المرء لوطأة المشكلات الاجتماعية الضاغطة
د. عبد الله أبو هيف
صار المبنى الاستعاري في مجموعة قصص غسان كامل ونوس «مفازات» (2003) شاملاً لبنية القصص برمتها، فثمة تعبير سردي لماح عن أسئلة الوجود الضاغطة على الوجدان والفعالية الإنسانية وعلائقها المتشابكة والمعقدة، وقد وسّع المجاز إلى استيعاب الترميز والاستعارة في رؤية مكابدة المرء لوطأة المشكلات الاجتماعية والأخلاقية وإلى الاستفادة من قابليات النص المفتوح على التجربة البشرية بالتأويل الدلالي المندغم بأفق استجابة المتلقي لمضاعفات المعنى وتبدلاته تطويراً لتوظيف فضاء التحولات بين الرذيلة والفضيلة، بين العدل والظلم، بين الاستقامة والفساد، بين الاحتباس والانفراج.. الخ، مقاربة لآفاق الخلاص.
ظهر الترميز في قصص عديدة مثل «الصوت» على أنه ساعف لحياة المرء على مجاوزة أن يكون صاحبه مطية.. فالصوت إهابه المعبّر عن وجوده والناظم لأشكال ممارسته في قوتها وضعفها، والإنسان في تحققه الذاتي لا يخرج عن ظاهرة صوته في تباينات المواقف الإيجابية أو السلبية، وما يصدر عنه محمول في صوته، وقد أورد الراوي المتكلم تماهياً مع سيرورة الذات علامات وإشارات منضبطة مع الخطاب القصصي وعدداً من الاستعارات التي سرعان ما تندغم في عملية الترميز الأشمل لما وراء المعنى مثل:
« لو كان لي صوت، لصرخت في وجهه!» (ص21).
«لماذا لم يصرخ في وجهه أحد؟!» (ص21).
«وحدت بقيت صامتاً» (ص22).
«لم يسألني أحد عن رأيي، لم أطالب بحقي في الكلام» (ص22).
«هناك من يكون صوته في بطنه!» (ص22).
«لا تزعل! لست وحدك.. أنا أيضاً ليس لدي صوت؛ لا أحد يسألني عنه!»(ص23).
«صوت أبي واسع حاد» (ص23).
«تباهى أمامنا مرات، بأن لصوته الفضل في استمالة قلب أمي» (ص23).
«هل يبيع صوته؟!» (ص23).
«نحن من نستحق أصوات الكادحين! لن تضيعوا أصواتكم هنا وهناك» (ص24).
«كان أنين أمي المكتوم وضحكها المشتت يتناوبان من الركن المظلم في بيتنا الوسيع» (ص26).
«وفتشت عن صوتي طويلاً!» (ص28).
«بدأت الكلمات متآكلة متداخلة؛ الصوت متواتر متلجلج» (ص29).
«حتى إن صوتي لم يعد بإمكاني تمييزه!» (ص30).
«كنا نشرّع أصواتنا، نتبارى بالصدى» (ص30).
«تواصل الصدى مديداً» (ص30).. الخ.
ومن الواضح أن الصوت ومشتقاته ومردداته متضمنة المعاني التي لا يظهرها سطح الكلام، بل تضمر دلالات خافية تشير إلى نص غائب يستحضر بالتأويل من جهة، وباستجابة المتلقي بما يندغم في أفق التوقعات من جهة أخرى.
لقد بنى ونوس خطابه القصصي وفق التحفيز التأليفي أو التركيبي الذي يوحّده مسار الوحدات القصصية على سبيل التوالي جامعاً بين مدلولاتها وهي تتراكم في المتن الحكائي علامات على تزاوج مكونات الفضاء القصصي من تعدد الأمكنة إلى تشظية الزمان واستدعاء شظايا السرد في علاقات الراوي مع الشخصيات الأخرى وتنامي الفعلية، ولعلنا نفرّد بعض مكونات الخطاب القصصي للتعريف بالمبنى الاستعاري.
1 علامة أن صوت المرء هو شخصيته وطلبه أن يكون له صوت أو حضور إنساني أو حق في الحضور الإنساني إزاء مرارة التجربة ومعضلاتها.
2 استعراض مكانة الصوت أو الشخصية علامةً على المجاهرة ونبذ الضعف والاستكانة. واستحضار قيمة الصوت من خلال قوة شخصية والده التي آلت إلى الخمول والاستلاب وأهمية سلامة الصوت في ضبط المواقف الوجودية، وهو علامة ارتهان الصوت لاستطاعة صاحبه.
3 تعبير الصوت عن مرارة الوجود منذ الطفولة واليفاعة في صورة رفيقة الرعي وصورة رفيق الصبا وصورة الحاجة لمضاء الصوت علامة على تماهيه مع الشخصية وممارستها من خلال هيمنة الكابوس على نفسه المتوجعة.
4 تعبير الصوت المطلق عن التعبير الذاتي المطلق علامة على ملازمته لأحوال الشخصية في ثوابتها ومتغيراتها، فقد غدا المرء مسكوناً بالصوت وصداه على تباعد الأمكنة والأزمنة.
وأشير إلى استعارية المبنى وما ينجم عنه من دلالات ومعان في عرضه لتنويعات الصوت وهو يستحضر قيمته، ثم بدت الحاجة إلى الصوت بمدى ارتهانه لاستطاعة صاحبه. وختم القصة بتغطية الصوت للفضاء القصصي برمته من خلال استذكار الماضي وتجاذباته مع الراهن واقعياً أو صياغة مثالية لدى الخروج من الكابوس أو الدخول في الحلم.
وجاءت قصة «ملاحقة» مماثلة استعارياً أيضاً في معاينة معنى الملاحقة في تنويعات متعددة ينهض بها الحرص والعناية في مواجهة الممارسات الأخرى، ولا يخفى أن المرء معرض للملاحقة على الدوام بأشكال مختلفة.
وبنيت القصة وفق الترميز إياه في أن الملاحقة تبدأ من السؤال والتساؤل إلى نفي الضياع والحيرة والتمزق، ويرتبط ذلك بعناصر الفضاء القصصي من الأمكنة والأزمنة إلى دواعيها في لغز العذابات الكثيرة التي يواجهها المرء، حتى يصبح الحال كله أسير التفكير بالملاحقة:
«يبرز في شتات الحالة التي أعيش، وشريط الأفكار الذي يعبر طوعاً أو كرهاً في لحظاتي المسمومة هذه، أسئلة وتساؤلات وعلامات دهشة واستغراب تكاد تجعل كل ما مضى من عذاب لا معنى له؛ فما الذي يخيفني منه كائناً من يكون؟! وماذا ارتكبت من جرائم، واقترفت من آثام تجعلني غاية سهلة وصيداً قريباً؟! ومن الذي سلطه علي وسلمه المسؤولية عن ذلك؟!
وأعقد العزم على مواجهته، والوقوف في وجهه، وإبراز براءتي وحسن سلوكي وسمعتي..» (ص42).
ونهضت قصة «استقامة» على امتداد النجوى المؤرقة عن التزام الاستقامة إلى الخوض في زمن الفساد، وهي معاناة شديدة القسوة على الإنسان لدى تعرّضه لدفق العذابات:
«هنا في وحدتي وغربتي وبطالتي، تحاصرني أمداء مقطعة باستقامات مرئية وأخرى غامضة، وتخترقني إشعاعات من نوع مختلف، لكنها قادرة على الوصول إلي من كل الاتجاهات، وتتركني خرقة متكومة مثقوبة ومشروخة بعدد لا يحصى من الاستقامات..!!» (ص36).
وتناولت قصة «قناعة» تفريد الخطاب القصصي عن محاصرة الفكرة لصاحبها، وعاينت قصة «الجدار» مراودة القيود التي تزداد ضغطاً على الإنسان، وأفاضت قصة «الكوة» القول في مدى الانفراج عن كوة ما تلبث أن تتلاشى في اشتداد الحال، وأبانت قصة «المفتاح» الغبش الذي يتضاعف أمام منافذ الرؤية لتظل الآفاق موصدة، وتأملت قصة «الوليمة» شجن التباين بين الداخل والخارج في الذات، ووسع ونوس مبناه الاستعاري الشامل في قصتيه «تلك الرحلة» و«مفازات»، وعالجت الأولى ملامسة أشكال الخوض في تجربة الحياة ومدى عنائها، وقد عمّق هذه الرؤية في القصة الثانية عندما كشف عناء التجربة في مضاء النفس وهي تمضي إلى الفرح المنتظر.
بنى ونوس قصصه بإحكام مستفيداً من غنى المبنى الاستعاري، وأفلح إلى حدّ كبير في ضبط أنساق السرد تدعيماً لإثراء وجهة النظر.
اسم الكتاب: مفازات
اسم المؤلف: غسان كامل ونوس
الناشر: اتحاد الكتّاب العرب.
دمشق ـ 2003
عودة إلى الصفحة الرئيسية