في طهران ثانية
• صدقت توقعات النشرة الجوية ومنبهات الأصدقاء؛
• تبادر إلى ذهني ذلك حن فاجأتنا نسائم الفجر، آن خروجنا من باب الطائرة في مطار الخميني الدولي، وتكرر الأمر أقسى حين خرجنا من الصالة الضخمة، فانكفانا لالتقاط الأنفاس، ريثما يُحضر المستقبلون السيارة التي ستنقلنا، نحن الثلاثة القادمين من سورية: نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب، والدكتور علي أبو الخير صاحب دار أبو الخير، والأستاذ هيثم الحافظ أمين سرّ اتحاد الناشرين وصاحب دار الحافظ؛ إضافة إلى الأستاذ حسين خليفة القادم من لبنان عبر عمان.. وتعزز ذلك الشعور طوال عبورنا الفجري المنكمش رغم الطريق المضاءة طوال ما يزيد على ستين كيلومتراً، المسافة التي تفصل المطار الحديث عن العاصمة طهران، التي استيقظت باكراً كما يبدو من أضوائها المتلألئة، وآلياتها المتحركة، وجسورها الناهضة، وطرقها المتشابكة وعقدها المحلولة، وبرجها المتعالي، والنفق المتطاول.. لكن النصاعة التي نثرها الثلج المتراكم بسماكات متفاوتة، كانت أهمّ ترحيب أمام فندق الاستقلال، وقبل ذلك في أرصفة الشوارع والمدرجات العشبية المشغولة بأناقة ولباقة.. تتماهى مع الملامح التي تبدت على وجوه المستقبلين في المطار والفندق، رغم الجهد والإرهاق نتيجة السهر المتواصل والانتظار المديد.. ما كاد ينسينا ما كابدناه في مطار دمشق الدولي لتأخر الطائرة الإيرانية أربع ساعات كاملة عن موعد إقلاعها المقرر في التاسعة مساء، وإذا أضيفت مدة الطيران التي تزيد عن الساعتين، مع فرق التوقيت الساعة والنصف تقدماً في الزمن، يصبح الفارق بين وصولنا إلى الغرف، وافتتاح المؤتمر الدولي للناشرين في العالم الإسلامي في قاعة المؤتمرات للإذاعة والتلفزيون في الثامنة والنصف لا يزيد على الساعتين إلا قليلاً!
ورغم الوقت الضيق الذي سيحول دون استراحة حقيقية، كان مثيراً منظر السفوح الناصعة والذرا المتعالقة مع الغيوم في صباح لن تتأخر شمسه المنسلة في إعادة تشكيل المشاهد وإضاءة الأركان والأطراف والأبنية.. لتلقي عن الأعصاب بعض الاكفهرار الذي تركه التعب وقلة النوم والظلام والبرودة.. في سبيل التحضر للافتتاح الذي يقترب موعده ويعبر، ونحن نعثر بنفثات السيارات المتزاحمة في الإشارات المتثاقلة في الطرق الغاصة، ونتشاغل بالثلج المتشبث بنصاعته فوق العشب والأرصفة، والمعكر في مجرى الإطارات والأرجل وأدوات إزالته.
لم يكن تموضعنا جوار العلم الحبيب عصياً رغم القاعة المكتظة؛ فلألأته جذبتنا مع إشارات دليلنا النبيه، فيما كان المذيع يدعو أول المتحدثين بعد الاستهلال المعهود بالقرآن الكريم الذي فاتنا؛ لكننا سنلقاه في جميع بدايات الكلمات التي تلت في هذا الافتتاح، وفي جميع الندوات الأخرى في مختلف الأوقات.
بعد كلمة الأمين العام للمؤتمر الدولي للناشرين في العالم الإسلامي، جاءت كلمة وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي، ممثل السيد رئيس الجمهورية الذي تعذر أمر حضوره الافتتاح، لكن العوض سرعان ما جاء مساء اليوم التالي استقبالاً في القصر الرئاسي للمشاركين في المؤتمر.
وقد أتاح تواضع السيد الرئيس ورغبته الفرصة للحديث في حضرته عن أهمية اللقاء الثقافي والثقافة للمقاومة، وتقديم الشكر لإيران على وفائها لسورية التي تتعرض لهجمة دولية متعددة الأشكال والأدوات، بهدف النيل من قرارها الحر المستقل ومواقفها الداعمة للمقاومة ضد أي احتلال، وإرغامها على الاستسلام لسياسة التبعية المذلة لأمريكا وحلفائها، وفك تحالفها مع إيران.. ولا سيما أن إيران وسورية في المرمى ذاته من قبل الرامين أنفسهم.
وتحدث الدكتور محمود أحمدي نجاد بتواضع وبعد نظر عن الأفكار التي سادت وبادت، والأخرى التي تترنح، مقابل أفكار لا تنشغل بالأرض عن السماء، وأهمية نشر الإسلام في العالم، وأشار إلى أن على الشعوب أن تكون حذرة في التعامل مع الدعم الذي يقدمه الناتو لحراك بعضها، والمثال الأقرب إلينا ليبيا؛ حيث المعلومات الموثقة تدل على اجتماعات كثيرة لاقتسام المغانم.
ولم تكد الجلسة الثانية في اليوم الأول تبدأ، واتخذ من تطوع للجلوس على المنصة ممثلين للمناطق الجغرافية المتعددة مواقعهم، حتى بدأت مطالعة لجنة التحضير للنظام الداخلي للاتحاد العالمي للناشرين المسلمين الذي وزع مشروعه قبل وقت قليل، ما استدعى مداخلات تناولت العديد من النقاط، مبتدئين بالتسمية، وغير منتهين بالفقرات الأخرى.. وهذا ما أدى إلى تأجيل البت فيه إلى جلسة مسائية، مع تقديم اقتراحات مكتوبة تم تبني بعض منها، وتعديل في أشياء محدودة من قبل لجنة الصياغة التي خولتها الجمعية العمومية للمؤتمر القيام بذلك، وقد عرضتها في الاجتماع المسائي؛ حيث أقر النظام الداخلي معلناً انطلاق الاتحاد العالمي للناشرين المسلمين، ومقره الدائم طهران، بناء على ما جاء في المؤتمر الدولي الأول الذي عقد في حزيران 2010، وقد أعد المقر والنظام ووثائق هذا المؤتمر الثاني حسبما جاء في ذلك الاجتماع.
ووفق هذا النظام، أجريت انتخابات مطولة بعد ظهر يوم الأحد لاختيار ممثلي المناطق الجغرافية في العالم.. وكان لافتاً تنافس ثلاثة الناشرين المصريين الذين حضروا المؤتمر، والناشريَن الجزائريَّين، والناشرَين اللبنانيَّين!
ولم يترشح ممثل اتحاد الكتاب العرب “كاتب هذه المادة” لأن الاتحادات الوطنية عدت أعضاء مراقبين، ولم يترشح الناشران السوريان الآخران رغم تشجيعنا وتشجيع الكثيرين من أعضاء المؤتمر، وجاءت النتائج على النحو التالي:
ولم تكن الحوارات التي شهدتها الجلسات التخصصية الخمس أقل غنى، وكانت مشاركتنا في الجلسة ذات العنوان: “الاحتياجات الفكرية والثقافية للعالم الإسلامي”، وقدمنا بحثاً موسعاً في هذا المجال، إضافة إلى المداخلات في أفكار أخرى طرحت في الجلسة. وقد شارك صاحب دار “أبو الخير” الدكتور علي أبو الخير في الجلسة ذات العنوان: “نشر القرآن الكريم” والأستاذ هيثم الحافظ صاحب دار الحافظ، وأمين سر اتحاد الناشرين السوريين في المحور الخاص بـ “حقوق المؤلفين والمترجمين والناشرين”؛ المحوران الآخران حملا العنوانين:
الجلسة الأخيرة كانت هامة أيضاً وغنية، بحضور اتحاد ناشري الثورة الإسلامية، وعدد من دور النشر الإيرانية الأخرى، إضافة إلى أعضاء المؤتمر.
وتحدث فيها العديد من أصحاب دور النشر عن تجاربهم المتنوعة في النشر، وإصداراتهم ونشاطاتهم وخططهم، وقدموا أفكارهم في مجال التعاون المثمر على امتداد العالم.
وتحدثنا عن اتحاد الكتاب العرب، وإصداراته الأدبية والفكرية، واهتمامه بالتنوع والتثقيف والترجمة والتوزيع، والدوريات التي يصدرها الاتحاد: “الأسبوع الأدبي” الأسبوعية، و”الموقف الأدبي” الشهرية، والمجلات الفصلية: “التراث العربي” المحكّمة، و”الآداب العالمية”، و”الفكر السياسي”، إضافة إلى مجلتي “الأدب العربي” الفرنسية والانكليزية نصف السنوية.
كما جاء في حديثنا ضرورة الاهتمام بالفحوى والمعنى والغاية أكثر من التطلع إلى القشور والمظاهر الخارجية التي يمكن أن تكون مضللة، كما هي الحال في الحديث عن الوضع في سورية، الذي يغلف بالمطالب المشروعة والشعارات البراقة التي لا يختلف على ضرورة إنجازها أحد، فيما الواقع يشهد هجوماً منظماً من عصابات مسلحة ظلامية، تحاول إثارة الفتنة بين أبناء الشعب الواحد والحي الواحد بأوامر خارجية، وتمويل سخي ودعم مادي ومعنوي وإعلامي فاجر.. وبالتالي يجب اتخاذ الحذر في النظر إلى الحراك الشعبي، والتمييز بين حال وأخرى، وبلد وسواه. وإن تجيير الظواهر في نظرة أحادية، لا يتيح دراستها بموضوعية..
وتحدث الدكتور علي أبو الخير عن تجربته في نشر القرآن الكريم في عشرات النماذج، مع ترجمته إلى أكثر من لغة، مع التركيز على جوهر الإسلام الصحيح الذي لا يثير أية إشكالات أو تفرقة.
ولم تتأخر مغادرتنا نحن الاثنين-كان الأستاذ هيثم قد غادرنا فجراً إلى الشارقة لحضور معرض الكتاب- بعد ذلك، لأن في انتظارنا ازدحاماً وعشرات الكيلومترات، كان لا بد من العبور خلالها في شوارع طهران التي أضاءتها شمس لطيفة، أذابت ما تبقى من ثلوج، وأشرقت الخضرة التي تنفرش في كل مكان، وتتسلق أيّ منحدر، كما ظهر من جديد برج الميلاد محلقاً بارتفاع يصل إلى (435) متراً، وهو خامس أعلى برج في العالم، وهو من المعالم الجديدة في طهران دشن عام 2008 وسيغيب كما تغيب المشاهد الأخرى زمن توغلنا في النفق الطويل الذي يصل طوله إلى 2135م، وينخفض حتى خمسة وأربعين متراً تحت خط المترو، وهو منشأة حديثة أيضاً.
كانت المشاهد أكثر حضوراً وحبوراً وأبعد أثراً.. ربما لأننا كنا في كنف المغادرة السريعة التي لم تسمح لنا بزيارات سياحية أو اطلاعية أو تسوقية سوى تلك الساعة والنصف التي عرضت قبل ظهر يوم الأحد الماطر في سوق شعبية مزدحمة، فيكاد يختنق بنا الممر ذو الأمتار القليلة عرضاً الممتد بين صفين متطاولين لعشرات المحلات والفجوات التي تأتلق فيها الموجودات، وتتكاثر فوقها الأصفار التي يستوجبها التسعير بالريال فيما الحديث عن الـ “تومان” الذي يساوي عشر ريالات. وليس الخوف من الأصفار على يمين الأعداد هو الذي حال دون تبضعنا؛ بل الوقت الضيق، والتزاحم الرطب، والانشغال بالمشاهدة والتنوع والجدية التي تسم الكائنات التي تتحرك بنشاط أو تنتظر بلا كبير تلهف، والحذر من آثار الأمطار التي هدأت قليلاً قبل أوبتنا، ما أتاح لبعض المشاهد أن تأتلق قريباً من سطوح الجبل المبيض السامي تواصلاً مع الغيوم.
لقد غاب الجبل وثلجه الذي بقي في الشمال، وهاهي بضع هضاب متواضعة تنحدر على جانبي الطريق الدولية المتجهة إلى مدينة “قم”، فيما تظهر على البعد نتوءات تضاريسية تتنافر وتتفاوت، وهي على استعداد لمرافقتنا، لو كنا سنتابع إلى المدينة المقدسة، كما فعلنا منذ ما يزيد عن خمس سنوات، وقيل لنا حينئذ ونحن نعبر المكان هذا: هاهو المطار الدولي الجديد قيد الإنجاز.
وقبل أن ننحرف يميناً، كان علينا أن نعبر المقام المميز للإمام الخميني، بقببه ومآذنه ورحابة خدماته البادية من على هذه الطريق، وكما عهدناها في زيارتنا تلك.
كانت السماء بديعة ونحن نقترب من المطار الدولي، كذلك كانت الأوقات أقل عبئاً في انتظار إقلاع الطائرة الإيرانية الأكثر رحابة، الذي تأخر قليلاً لتأمين جلوس آمن لمُقعَد، ولم يكن الوحيد من ذوي الاحتياجات الخاصة والأعمار المختلفة، والمتعة البادية التي لم تتوقف طوال ساعات الطيران التي زادت أكثر من نصف ساعة عن طيران الذهاب بلا مسوغ معروف، ولم يخفف هذا من الهبوط الآمن والعودة إلى أرض الوطن الحبيب الذي لم نغادره سوى منذ ثلاثة أيام، مع ذلك فإن الإحساس يجعل قلبك يتلفت إليه وأنت بين ظهرانيه!
***