الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2013-09-11

في الطريق عرجٌ وعسرٌ وضيق، ومحطاتٌ مختارة ومحتارة، وأوقات ثقيلة وبخيلة، ومعالمُ تَدُلّ، وأخرى تُضِلّ؛

في الطريق الطويلة قد يتعب رفاق، ويملّ أصدقاء، ويَقنطُ مناصرون، وهناك من ينفّر ويثبّط ويراود عن الهدف والغاية، من يغدر وينقلب ويخون..‏

ليس كلّ المنطلقين في المسير يَصِلون، وهذا طبيعي، ولا بأس في ذلك.. ليس كلّ المندفعين صادقين؛ ولا وهمَ في ذلك؛ والحماسة بعضها مفتعل، وبعض الحبّ ادّعاء!‏

وأنت تتربّص، وتستميل، تُرغِّب وتشجّع وتزهّد وتفرّغ، تزوّد وتشحذ، وتتلمّظ!‏

يُشقيك أنّني لمْ أَمُتْ؛‏

يُضنيك أنّني لم أتفجّع، ولم أتبرّمْ، ولم أتوسّل، ولم أَهُنْ..‏

يغويك أنّ النار في يديك، والقتام قادر أن تُلقيه في الرؤى؛ ويُقلقك الحقد في داخلك، والضغينة، والشرور؛‏

يرضيك أنّ بعض «الطاعمين الكاسين» يسمعون ويطيعون، وقد يُسَرّون ويَشمتون؛‏

ويشجّعك أنّ كثيراً من الذين في آذانهم وقرٌ يُصدِّقون التهمة التي لا تحتاج إلى دليل غير موجود؛ بل يساعدونك في اختراعها وتسويقها؛ لأنّ لهم حصة في استغلالها، والذين في آرائهم شطط يسارعون، وفي بالهم انتقام يهرعون..‏

ويحرّضك من لا يستطيع إلّا في الفوضى أن يسود، وتحت ستار الغبار الكثيف يُغير، وفي سوق النخاسة ينشط، وبرائحة الدم يستشري.‏

لعلّ فوزك السهل في ميادين أخرى، يجعلك تتورّط، وشرهك إلى اقتناص المزيد من الكائنات المنذورة للحياة، يدفعك إلى التهوّر.‏

الضجيج المفتعل لا يغيّر من حقيقة الأمر، ولا الصراخ والتهويل، ولا قدرتك على التشويش والتشويه والتسفيه..‏

أنا لستُ في حال مثالية، ولم أكن يوماً، وأعرف مواضع ضعفي التي فاقمتَها، ولا أتغافل عن ثغراتي التي لا أستهين بها، وقد وسّعتَها، ولا عن مواجعي التي لا أساوم عليها، وخيباتي التي لا أنكرها، ولا تثنيني عن القيام بما يمليه عليّ الواجب، وتفرضه الكرامة، وتستدعيه الأنفة..‏

هل تعلم أنّك باندفاعتك الشائنة قد رمّمت الكثير في أديمي، وجعلت بعض الجراح يندمل، وبعض الافتراقات تتقارب، والكثير من المتطلّبات يؤجّل؛ لأنّك الأخطر، والأَولى بالمجابهة.‏

ربما تكون قد خدعتْك عظمتك، وليست العظمة بلا حدود، أو أغرتْك الحسابات المفتوحة، ولسواك حسابات أيضاً؛ وقد تكون عائماً في أزمنة ومالكاً لأمكنة، وقابضاً على رقاب الكثيرين ومصائرهم؛ لكنك لستَ بلا مفاصل يمكن التعرّف إليها، ولست بلا تخوم يمكن الوصول إليها، ولستَ من دون هشاشة يمكن تقرّيها، ولا عناصرك مصونة، أو مغامرتك مضمونة..‏

لقد فاتك أن القوّة مهما بلغتْ من العتيّ لا تشرعنُ الباطل، وأنّ العربدة ليست سبيلاً للإقناع، ولاالبطش والشر والعدوان، وأن ألوان الشهود الحاضرين للإبلاغ في كلّ آن، لا تستطيع مواجهة الشهادة الحمراء؛ سرابك طيش لا يدوم، وظلّك صقيع غاصّ، وطاعتك عقوق.. وسبيلك درب المهانة والمروق.. وما أعجبُ إلا من راغب أو طامع أو مستهان!‏

في الطريق إلى الجلّى قلقٌ وتضحيات، ألمٌ وغصّات، إشراقة وإشعاع، أملٌ وإقدام، ثقة وإصرار؛ في آخر الدرب قامة بهيّة، ورأس مرفوع، وراية ترفرف..‏

يشقيك أنني لم أمت؛ تلك مشكلتك؛ لم أمتْ، ولن أموت!‏

اترك رداً