الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: رمضان إبراهيم
الناشر: صحيفة البعث
تاريخ النشر: 2010-03-19
رابط النص الأصلي: http://www.albaath.news.sy/user/?id=796&a=72889

في الزمن الراجع
غسان كامل ونوس يستعيد بعض تفاصيل حياته

في ” الزمن الراجع “، يحاول الأديب غسان كامل ونوس أن يستعيد التفاصيل التي كان لها الأثر العميق في حياته، بدءاً من لحظة شروق الشمس.. الشمس الوئيدة كما يسميها، التي كانت تبكّر لتلقي التحية على قريته.. الشمس التي استيقظ قبلها وانتظرها ليبوح لها بما رآه بالأمس. كان ذلك حلماً، بل كانت رؤيا، والرؤيا كالزمن لا يمكن التأثير بكينونته والتحكم بتفاصيله… يستيقظ ليتساءل :
” هل بدأت الحياة تدب في أطرافي ؟ ها أنا أحرك عينيّ.. ها أنا أرى.. أعي.. أتذكّر.. ويتمنى لو أن ذلك الحلم أو تلك الرؤيا التي تعبر عن أمنيات خائبة، تكفّ عن مطاردته في ذلك النوم القلق».
هذا ما يجده المتتبع لأقاصيص الأديب غسان كامل ونوس في كتابه الصادر عن دار عروة للطباعة والنشر. بعدد صفحات يربو على / 160 / صفحة من القطع المتوسط والذي يحوي بين جناحيه قصصاً كان لها عظيم التأثير في نفس الكاتب. ولئن لم يكن للقصص أبطال بأسماءٍ واضحة وجليّة، إذ تارة يحدثنا الكاتب عن نفسه، وتارة عن أناس يختبئون بين الحروف والكلمات، فتتحول الجمل إلى أبطال يملأ ضجيجهم الصفحات.

لقد اعتمد الكاتب على أسلوب التحدث بلسانه تارة، وتارة أخرى كان الأبطال المستترون خلف الحدث يروون تفاصيل ما جرى لهم دون أيّ تكلّف، ما أظهر الأسلوب سلساً، يعتمد الدقة في الوصف، والبساطة في الكلمة، والصدق في المشاعر والأحاسيس… وقد لا تحتاج إلاّ لأن تفتح الكتاب أنّى شئت لتقف ولو للحظة، لبرهة من الزمن، تفكّرُ في تشابه ما جرى له مع ما يجري لك من تفاصيل وأحداث يوميّة :
” في الزمن الراحل، كان في اقتفاء العناصر الهاربة متعة ولهفة ،لم تكن المشاهد تمكث طويلاً، على الرغم من بطء الحافلة المكتظة ولا أعلم إن كان يرمز بالحافلة المكتظة إلى هذه الحياة التي نتخبّط فيها لكنّ المناظر التالية المأمولة تغري، أو أن ترقّبها هو ما يجعل الوقت يمضي سلساً عذباً مأسوفاً على عبوره الذي لا يعود ” ص16.
لم يكن متعالياً على وصف أدق التفاصيل، من الحارة التي كان يسكنها إلى المنزل.. إلى الأزقة ومواطن اللعب، إلى الشوارع.. والأعمال اليومية.. والمدرسة، وحتى العصا التي كان الشيخ يستخدمها ليجعله يحفظ ( جزو عمّ ) حيث يوضح الكاتب عدم استساغته لاستخدام العصا في التعليم، على الرغم مما للعصا من مكانة، فقد استخدمها سيدنا موسى مرتين، ففي الأولى شقّ البحر حتى عبر، وفي الثانية تحولتْ إلى ثعبان ابتلع ما صنعه السحرة. لم يستهوها.. لم يقتنع بجدواها، لا بل ويعتبرها من الوسائل المتخلفة في هذا الزمن، إذ لا قيمة لها في زمن الحروب الحديثة:
” في زمن الصواريخ العابرة للقارات والقذائف الموجهة بالأشعة، ما فائدة العصا..!”
ولئن يسترجع الأديب أيام الدراسة والشباب والتفاصيل الدقيقة التي مرّ بها فإنه لا يتنكر للصداقة، حتى ولو بلغ من الموقع المهم ما بلغ، فالصداقة لا تعترف بالشهادات التي يحملها الفرد، وهنا ينطلق الكاتب من نظرة إنسانية بحته قد نفتقدها اليوم فيمن وصل إلى مواقع هامة… يقول في قصة التابع:
« كنتُ أتساءل : لماذا يفترض في من يتودد إليّ، يحترمني، يعايشني، أن يكون حاملاً لشهادة تماثل شهادتي، أو ينتمي إلى عائلةٍ عريقة النسب كعائلتي، أو وسيماً متأنقاً كما هي حالي». ويضيف في الصفحة 66 : «كل ما في الأمر أنني أريد شخصاً أقل حضوراً وأكثر فاعلية.. أقل كلاماً وأكثر تكثيفاً ودقة».
ولعل مرحلة المراهقة والدراسة والشباب التي يعبر جمرها الإنسان يبقى لها الأثر الكبير في ذاكرتنا، فالحب الذي يولد فجأة من أول شمسٍ مشرقة على عاطفتنا يلفح مشاعرنا.. يجرجرنا بين لحظاتٍ لا تنسى. الجمال.. الأنوثة.. المرأة أخيراً.. النصف الثاني الذي نبحث عنه، لا تكتمل الحياة إلاّ معه.. خيبات العشق والمراهقة الأولى، قد تترك جمرها تحت الرماد دون أن يطفئه التاريخ ولا حتى الغياب، دون أن يخمده الزمن.. الغربة.. الهجرة.. الدراسة والتعرف إلى مجتمعاتٍ أخرى قد تقلل من جذوة تلك الحرارة ولكن إلى متى..؟! فالغائب لابدّ وأن يعود، والقصص التي بدأت منذ زمن وخدّرها التاريخ، لابدّ لها وأن تطلّ برأسها.. وعندها، ماذا نفعل بذلك الجمر..؟! هل نبعد عنه الرماد وندعه يحرق أطرافنا..؟ أم نسكب عليه دموع الأسى والحنين لنطفئه..؟ أم نعيش اللحظة كما مرّت مع تخيّل ما قد يترتب على ذلك:
” ثمّة حين من الدهر يغدو الزمن الراجع فيه قضية، بعدما كان معياراً. متى بدأ هذا الزمن ؟ قبل الخيبات، بعد الشهادات ؟ أم أن في كل مرحلة زمناً راجعاً وفي كل خطوة محاولة لترميمه ”
في حديث الزمن الراجع في استعادة اللحظة المنتهية الصلاحية أو الميتة سريرياً قد لا تنفع الشهادات.. قد لا يفيد المنصب في شيء وقد لا يعوض الخسارة :
” هاهي تقترب، ملامحها واضحة، تضحك، أو تحاول، ضحكتها منفرة، هاهي تتحدث، كلماتها بلا عذوبة، واضحة.. ليتها غير ذلك.. ليتها ظلت غامضة ضائعة ! هل تتعرّف إليّ..!؟ تترك شبيهها وتقصدني، لا أطيق ذلك، لا أستطيع.. تقترب، تضحك، تبكي، تلوّح، تحكي، تقفز، تهوي، تنهض، تقهقه، تشير إليّ.. ألملم أطرافي، وأهرول مبتعداً “. ص136
هكذا في الرجوع إلى الزمن الهارب نقترب من حدود الأمس.. ولكن دون إمكانية أن نصحّح ما تعثرنا به أبداً..!

رمضان إبراهيم

اترك رداً