الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الفكر السياسي نيسان 2012-العدد 42
تاريخ النشر: 2012-04

المؤتمر الدولي الثاني
لأصحاب دور النشر في العالم الإسلامي
12-13/11/2011
طهران- الجمهورية الإسلامية الإيرانية

في
الاحتياجات الفكرية والثقافية للعالم الإسلامي
غسان كامل ونوس

ليس العالم الإسلامي محدداً تماماً ولا قارّاً، ولا منبتّاً عن العوالم الأخرى، إن صحت التسمية أصلاً، وليست المجتمعات فيه متماثلة، وإن كان التشابه موجوداً في الكثير من الجوانب، مع اختلاف نسبة التشابه، ليس فقط بين بلد وآخر؛ بل بين مجتمع وآخر في البلد عينه، وفي المحافظة ذاتها ربما! كما تختلف مستويات التقدم في الفكر والعلم والعمل، وأساليب تأمين الموارد العامة والخاصة، والتعامل مع المشكلات المستمرة والطارئة؛ وتتشابه الهموم والرغبات والأماني والحاجات إلى هذه الدرجة أو تلك؛ وبالتالي فإن الاحتياجات الفكرية والثقافية تكاد تكون الأكثر تقارباً؛ لأن ضرورات التنمية ورفع مستوى المعيشة، والوصول إلى مجتمعات الكفاية والعدل في دول عصرية حديثة، تكاد تكون واحدة. مع الإشارة اللازمة إلى أن هناك بلداناً بكاملها تقع تحت الاحتلال المباشر: فلسطين العربية مثلاً المحتلة من قبل الكيان الصهيوني؛ وأجزاء محتلة في بلدان أخرى؛ للتمثيل أيضاً: الجولان العربي السوري، وقسم من الجنوب اللبناني.. المحتلان من الكيان الصهيوني الغاصب نفسه؛ وهناك ضغوط وتهديدات متواصلة لدول مستقلة، تشارك فيها بعض دول هذا العالم الإسلامي مباشرة، أو تكون أدوات في مشاريع استعمارية مدمرة مزمنة أومستجدة؛ فلا بدّ من مقاومة قوات الاحتلال بكل الوسائل الممكنة، واسترجاع الأراضي المغتصبة، ومواجهة محاولات الحصار والتضييق، ودعم ذلك رسمياً وشعبياً من خلال ثقافة المقاومة، التي يفترض أن تكون أفكاراً ومعياراً وأسلوباً في أية سياسة تخطيط أو بناء أو ممارسة، داخلياً وخارجياً، وفي مختلف الأوقات والظروف..
ومن أجل النجاح في ذلك وفي سواه من متطلبات، لا بدّ من التحصين الداخلي للنفس والكائن وبالتالي المجتمع، للحماية من أهوائه /النفس أمّارة بالسوء/، وعقد النقص التي تحول دون تفاعله الواثق مع الآخر القريب والبعيد، في الأسرة والمدرسة والقرية والحارة والحي، وفي المجتمعات الأخرى؛ فالواثق من نفسه الواعي لقدراته وظروفه قادر على مواجهة التحديات، والتعامل مع الحالات، وحسن التصرف في الأزمات الداخلية والخارجية. ومن الطبيعي أن يكون التحصين نفسياً ومعنوياً في الأساس، تضاف إليه وتترافق معه العناصر المادية المتعددة، وبالتالي يكون الكلام في الاحتياجات الفكرية والثقافية لأي مجتمع، وللعالم الإسلامي استطراداً وهدفاً، مطلوباً ومفيداً.
والحديث في الفكر والثقافة، ليس حديثاً مختصاً أو محدوداً؛ لأن الثقافة هي العامل المجهول المعلوم في أي موضوع وكل ميدان؛ فهي انبثاث ينفذ إلى كل الأركان وعبر كل الحواجز؛ والثقافة ليست شهادة تعليمية ولا قراءة أو كتابة أو رسماً أو سوى ذلك.. بل هي إمكانية التبصّر والتعرّف والتحليل والربط والاستنتاج.. إنها فراسة وإرهاص وانفعال وأسلوب، وتقويم وتصرف؛ إنها الملاط الذي يجمع المكوّنات والمحفوظات من دون اختلاط ناشز أو امتزاج عكر أو تفاعل مشوّش.. إنها الزيت الذي يؤمن عمل العناصر من دون تصادم، والانتقال السلس لأوامر الحركة في المفاصل الحياتية نظرياً وميدانياً.
والعمل في الفكر والثقافة ليس آنياً أو ظرفياً، وليس إسعافياً أو طارئاً؛ بل عمل متصل متراكم في مختلف الظروف والأوقات، ومن الطبيعي أن يزداد حضوره وتظهر تأثيراته وجدواه في الأزمات والمنعطفات، وما أكثرها في هذه البلدان!
*
ومن مميزات الثقافة أنها روح أكثر منها مادة، واكتناز أكثر من أن تكون تزيينات، وتمثّلٌ لا ادّعاء، وانفتاح على الكائنات والجهات، وسحائب تنتظم البلاد، ومشاركة وأسئلة وحيوية ورحابة..
لكنها تحتاج في كل حين إلى المادة، مواقع وعناصر وأدوات وسلعاً وأرصدة، وتتطلب الهيكل الذي تتلبسه الإكساءات والمعالم، والسواري التي ستنفرش عليها الأشرعة، والهواء الذي يسوق الغمام المشبع بالمطر، وأدوات استمطار ربما، والفرص والمناسبات التي تتيح للأصوات أن تعلو بما يمكنها أن تُسمع، زفرات أو تساؤلات أو تصويبات أو أية إيقاعات أخرى..
وهذه أهم معالم البيئة التي تسمح للثقافة أن تحيا: تنتش وتنمو وتنضج وتشعّ، لتؤمّن للمكوّنات الأخرى والإمكانيات والكفاءات أن تنتعش وتنطلق وتتفاعل وتتمايز..
لا الهيكل وحده قادر على التعبير، حتى لو كان متيناً، ولا المادة يمكنها الإقناع رغم قدرتها على الاستمرار، والرياح وحدها لا تروي ولا تشبع مهما عصفت، أو تغيرت اتجاهاتها..
ولا النية وحدها تكفي، ولا الأحلام تُنجَزُ إلا في شروق اليقظة وضياء الوعي، والأماني لا تتحقق من دون إرادات ومبادرات وتضحيات؛ وقبل ذلك وبعده الاقتناع بأهمية الهدف ونبل الغاية، والخطو المثمر والفعل المجدي.
إنها الرؤيا التي لا تقف عند حاجز، ولا تقتصر على سمت، ولا تتوقف على ملمح، ولا تختص بمرحلة، ولا تنكفئ لدى أول خيبة، ولا تتلهّى بالقشور، ولا تتعثّر بالبثور..
إنها الرغبة قبل البوح، واللهفة قبل الحاجة، والتلويحة قبل اللقاء، والثقة قبل التواصل، والحدس قبل الحدث، والهمّة قبل الإنجاز..
فكيف إذا ما ترافقت الأفكار مع المبادرات، وتعززت الآمال بالخطو نحوها، والرؤى بالسعي إلى تحقيقها أحيازاً وخططاً وبُنىً واحتمالات؟!
*
إذن؛ لكي تتحفز المسألة الثقافية، ويظهر جوهرها، وتتفاعل انبثاثاتها في أي مجتمع، لا بدّ من رؤيا وبيئة وعناصر ووسائل.. تتعهدها الحكومات، وتنهض بها مؤسسات غنية قادرة، وتنطلق بها ومعها مشروعات، وتوزع عصاراتها شرايين وشبكات، وتتشرّبها كائنات.
والعنصر الأهم في أي مشروع ثقافي هو الإنسان في أيّ موقع كان، متلقياً أو مسؤولاً؛ فالمتلقي المثقف قادر على الاستيعاب بسرعة، والتشارك بيسر، والتفاعل المجدي تقويماً للاستمرار أو إعادة النظر.
والمسؤول المثقّف يُفترض أن يكون قادراً على الرؤية البعيدة، والقريبة، وأن يكون صاحب قضية واختصاص وأخلاق؛ فالرؤية البعيدة لوحدها تجعله يتعثر بأصغر حجر «آذن، مستخدم، مراقب دوام.. فني إصلاح..»…
والرؤية القريبة لوحدها لا تنجيه من ضلال التوجّه، أو الوقوع بمن معه في حفرة كبيرة، أو حوض آسن!
فالمسؤول المثقف في أي قطاع قادر على أن يتفهّم أو يفهم ويقتنع ويقرّر ويُقنع.. بالسلوك المقتدى والموعظة الحسنة.. قبل الفرض المشروع وغلظة القوانين.
والمسؤول المثقّف يمكن اختياره أو تحضيره واختبار قابليته، ومن ثمّ تحميله مسؤولية متدرجة..
وهناك الكثير من برامج التدريب والتأهيل والدورات التي يفترض أن تتوالى للتعرف إلى المنجزات الجديدة، والأساليب المستجدّة في التواصل والعمل..
ومن الضروري التفريق بين المسؤول المثقّف في أي مجال، والمسؤول الثقافي؛ أي العامل في المجال الثقافي؛ فمن أولى البدهيات أن يكون هذا الأخير ذا هاجس ثقافي، وتطلّب معرفي، وحيوية وخصوبة، وإن لم يكن كذلك، فالخسارة مضاعفة فكراً وممارسة.
ومن المؤسف أن كثيراً من المسؤولين الثقافيين، حتى لو كانوا مثقفين، يتحولون إلى مسؤولين.. فقط، ويضعون القضية الثقافية جانباً، وهذا أخطر؛ لأنهم يعرفون المثقفين الحقيقيين فيبعدونهم، أو يهمشونهم أو يحبطونهم.. لأنهم خطر قائم!
وقد شهدت الثقافة في بعض البلدان تطوراً مؤثراً.. حين اندفع أصحاب رؤوس الأموال إلى رعايات ثقافية مختلفة الأشكال والموضوعات، وأطلقت جوائز مغرية.. ومع اهتمامنا بأي عمل يسهم في البناء الثقافي، يمكن اشتمام ملامح غسيل أموال ثقافي! قد يؤدي مرة أخرى إلى مفاقمة ظاهرة الإفساد في المجتمع، تلك التي تشكل المغريات المادية والإعلامية متنها الأساس؛ ولاسيما في المجال الثقافي؛ إذ إن في فساده فساد كل شيء!
*
ليس هذا توصيفاً فقط؛ بل هو دليل –ربما- على ضرورة التثقيف المتواصل؛ لأن فيه وعياً مكتسباً يضاف إلى ما في الرصيد الإنساني لأبناء هذا العالم الغني بثرواته الروحية والمعرفية المشعة من تراثه وعراقته وآثاره وعلومه وإنجازاته وريادته وسيادته أحقابأ مهمة من التاريخ..
ويجب ألا يغرب عنا ما يعتري هذا الرصيد من تآكل أو تشويه أو تعفن، ما أدى إلى نظرات عرقية، وفتن طائفية ومذهبية، وازدواج في المعايير، أو حتى انقلاب في المفاهيم، مما قد يجعل الضحية إرهابية لأنها تستشرس في الدفاع عن النفس، والقاتل حملاً بريئاً حتى وهو يتّهم ويدين ويحكم وينفذ.. مستعيناً أحياناً بالمنظمات الدولية ذات الهيمنة الغاشمة والقوة المتوحشة لدول الاستكبار والغطرسة والقتل المشرع والنهب المشروع بقرارات ظالمة ومبادئ مشوهة!
وعليه فإن هذا الرصيد الإنساني الثرّ والهام يُفترض أن لا يُطمأن إلى دوامه بلا تشذيب وترميم وصون، وحماية من انتهاك الآخرين وعبثهم وغزوهم. ومع كل هذا فإنه لا يكفي وحده؛ بل لا بد من البناء عليه وإغنائه، وذلك من خلال إجراءات ومشروعات وأفكار كثيرة ومتنوعة منها ما يلي:
*تعميم الثقافة بمختلف المجالات، مع توافر إمكانية التزود بها، وممارسة نشاطاتها، وتوافر متطلباتها مواقعَ ووسائل وأدوات ومؤهلين.. وتأمين طرح الأفكار بجرأة ومسؤولية وحرية، ومناقشتها مع مشاركة مختلف الشرائح.
*إن تعميم الثقافة يقتضي نشرها شفاهة وكتابة، ولا شك في أن العمل الجدي والرئيسي في هذا الاتجاه يأتي من خلال طباعة الكتب ونشرها على نطاق واسع، ولا بد من أن تكون متنوعة بأشكال مرغبة وبتقنيات مناسبة، وتشجيع الكتّاب والمبدعين ودعمهم مادياً ومعنوياً، ودعم دور النشر العامة والخاصة، وتيسير عملها، وتأمين إقامة المعارض والصلات التي تؤدي إلى التكامل في العرض والمنافسة في الجودة، وتأمين عبورها السلس على الحدود.. وأن يكون التفكير في الهمّ الثقافي والوطني والسمعة الثقافية والأدبية أكثر من همّ الربح والثروة المادية، وتأمين طباعة إصدارات مميزة للأطفال، وإصدارات شعبية بقيم رمزية، ووصولها إلى المتلقين مهما بعدوا؛ ولا بدّ من الحدّ من الرقابات بأنواعها وإالغائها إن أمكن..
*ويأتي النشر الإلكتروني ليغني الثقافة ويعممها، ويعطيها إمكانيات أوسع بما لا يقاس، من خلال السرعة في التوزيع والوصول إلى أبعد كائن في أقصى بر أو بحر أو فضاء، والحرية في التنزيل والتحميل والاختيار.. وهذا يفترض الوعي والتحصين والمسؤولية الشخصية والمؤسسية الرسمية والخاصة ليكون استثمار الجهد والوقت أكثر جدوى، ولا بد من إتاحة الفرصة والإمكانية للدخول في هذا العالم الافتراضي بفعالية ومسؤولية وثقة ووعي.
*احترام المفكرين والمثقفين والأعلام والرموز من قضى منهم، ومن ما يزال على قيد الحياة، بما يحفز الآخرين لتقديرهم، وتأمين ميادين حضورهم ونشاطهم، والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم، ودعم مبادراتهم، وتحويل رؤاهم وأفكارهم إلى واقع وإنجازات.
* متابعة الظواهر القديمة والتصدي لتلك التي تؤثر سلباً على الناس، ولا سيما العادات والتقاليد التي تدعو إلى التواكل والاعتماد على الغيبيات والحظوظ والأقدار، ورصد الظواهر المستجدة التي تشيع الأنانية والتهتك والاستهتار واللامبالاة، وضرب القيم الأسروية والمجتمعية والوطنية والدينية.. ومواجهتها بما لا يسبب ردود أفعال أكثر أذى، ومعالجتها بطرق ثقافية وحضارية وإنسانية.
*الانفتاح على العوالم الأخرى، والاستفادة من نظرياتها وأفكارها وعلومها وتقدمها، بصرف النظر عن موقفنا الأخلاقي من سلوك حكوماتها وقادتها، وذلك عن طريق البعثات والرحلات والاتفاقيات.. شرط عدم المساس بالسيادة والاستقلال.
*ولكي لا يربح المرء العالم ويخسر نفسه، فإن بناء الإنسان هو الأساس في أيّ مشاريع حقيقية، وهذا البناء يبدأ من الصغر، ويستمر خلال مرحلة العطاء تأهيلاً وتدريباً وغذاء روحياً وإنسانياً وفكرياً.. وبالتالي يكون أكثرَ جدوى استقدامُ الأفكار والتكنولوجيا لاستخدامها من خلال أناس مؤهلين، يستفيدون منها ويفيدون.. من خلال بيان الحاجيات الضرورية، وتطوير القدرات الذاتية.. بحيث يكون المرء فاعلاً لا منفعلاً مؤثراً ومتأثراً.
*الإضاءة على النماذج الناجحة والاستفادة من التجارب في المجتمعات التي تتشابه، مع الحفاظ على الخصوصية التي يتميز بها كل بلد، من دون أن يعني ذلك انغلاقاً على تجارب أخرى مفيدة.
*تأمين ترجمة وافرة لمختلف الكتب والنظريات والأفكار القديمة والمفيدة، وتلك المستجدة بأسرع ما يمكن، وبما يؤمن وصول جوهرها إلى مختلف الشرائح. ويفترض أن تقوم بهذا جهات مختصة في مختلف المجالات، وبرؤية منفتحة واثقة جريئة، وبصلاحيات مناسبة.
*الأفكار النظرية وحدها لا تكفي، رغم أهميتها؛ فلا بد أن تنعكس على العلاقات والأساليب والتعامل مع الأدوات والظروف والشروط والخواص؛ فما الفائدة من حفظي كلَّ الكتب المقدسة والأقوال الشريفة والمأثورة، وإقامتي الشعائرَ كلها، مع ظلمي لأفراد أسرتي أو دائرتي أو حارتي؟! وما معنى ترديدي للشعارات الديمقراطية والحرية والانفتاح الأرضي والفضائي، والدعوات المشرعة للعدالة والمواساة وتكافؤ الفرص، فيما أسعى بكل ما أستطيع إلى التحايل والاستئثار والسيطرة والغش؟!
فلا بد إذن من الإحساس بالمسؤولية، والممارسة الحقيقية للفحاوى المرفوعة والأفكار المطروحة والمعتقدات السائدة. ولا بد من مبدأ المحاسبة التي لا تستثني صاحب موقع أو نفوذ أو مال أو نسب..!
*الفساد آفة سرطانية لأنها تنال من العقول والنفوس قبل المال والسلع، وبالتالي هي فيروس قاتل لأي مشروع منذ الإعلان عنه وحتى آناء استثماره الذي لن يكون مجدياً، فأشداق الفاسدين وجيوبهم أوسع.
*الاهتمام الخاص والجدي بالجيل الشاب ذكوراً وأناساً بمراحله المختلفة إعداداً وتعليماً وتعبيراً عن النفس والآراء، ومن ثم تأمين مجالات النشاط الحيوي الفكري والثقافي، ومشاركتهم في رسم مستقبل البلدان وتنفيذه. مع التخفيف من تأثير ظاهرة صراع الأجيال، والوصاية وهيمنة الأبوة ذات المرجعية التاريخية والدينية!
*تتعرض المرأة في كثير من أركان العالم الإسلامي إلى ظلم فاضح واضح وخفي، يبدأ من التضييق على ملكاتها وإمكانياتها وأحاسيسها.. ولا ينتهي بعدم تعليمها وتوظيفها وتوريثها، وتركها في مهب الرغبات والظلمات والنكران، وبالتالي فإن من أهم متطلبات هذه المجتمعات أن يكون للمرأة الحقوق والواجبات التي يتمتع بها الرجل.. أو يفترض أن يحظى بها، لأن هناك مجتمعات تقسو على الرجل أيضاً، وتضيّق عليه بمختلف الحجج والذرائع ما ينسحب هذا مضاعَفاً على المرأة تعويضاً وتعقيداً؛ وهذا إن كان يدخل في مبدأ الحق والواجب، فإنه في النتيجة يجعل نصف المجتمع فاعلاً مشاركاً بدل أن يكون عبئاً على كامل النصف الآخر؛ بل على المجتمع بكامله.
*ولا شك أن روح الديمقراطية تسمح بكل ما تقدم أن يجري بسلاسة ويسر، وهو ما يفترض أن يسود في مختلف جوانب الحياة، مع التأكيد أن من المهم التعوّد على إبداء الرأي والاستماع إلى الرأي الآخر، والأريحية في التعامل مع الخسارة أو الربح الشخصيين أمام الربح المجتمعي والوطني العام.
*إشاعة ثقافة الحوار وتبادل الأفكار.. وليس الحوار أن تقول كلمتك وتمشي، رغم أهمية ذلك، لأن هناك من لا يتاح له مثل هذا، لكن الحوار هو مناقشة الأفكار والآراء بجدية وحرص مع الاستعداد للاستماع إلى الآخر والوصول إلى خلاصات مفيدة مقنعة، تفيد هذا الجانب من الحياة أو ذاك، مع الأخذ بالاهتمام أن هناك خصوصية ونسبية في كل الأشياء؛ فما يمكن أن يكون صحيحاً هنا وفي هذا الوقت، قد لا يكون كذلك في مكان مغاير، ووقت آخر؛ إلا ما يتعلق بالمبادئ الأخلاقية والإنسانية العامة..
*التمسك بالخصوصيات الإيجابية والروابط الإنسانية والمجتمعية، في مواجهة التهديد الذي تتعرض له الهوية الوطنية والقومية والشخصية، من خلال الاحتلال المباشر أو غير المباشر، والأفخاخ الموقوتة أو المثارة فتنة ورغبات ونزوات، وفي مواجهة العولمة وفوضى التواصل والتحكّم عن بعد، ولا سيما بعد ثورة الاتصالات التي تجاوزت الحدود والحواجز الرقابية الرسمية والبيتية والمؤسساتية..
*إن ما يدمّر بنيان المجتمع ويفتته التناحر والبغضاء بين القوميات والطوائف، والنظر إلى الآخر بعدوانية مؤذية محطمة أو منفرة.. ولا يقتصر الأمر على ذلك؛ بل يتعداه إلى إشاعة الخلافات المذهبية والعشائرية وحتى العائلية؛ كما أن هناك توجسات ما بين الشرائح المتنوعة بين الأرياف والمدن، ولا سيما حين يكون الفارق التعليمي والمعيشي واسعاً، وهذا يتطلب توعية مستمرة وجدية، وعملاً دؤوباً لتبديد تمظهراته والحدّ من تبعات نفثاته..
*في الوقت الذي ما زال فيه الكثير من أركان العالم الإسلامي يعاني من الأمّية التعليمية التي تعدّ فضيحة في هذا العصر، فإن هناك أمّية أخرى لا بد من مواجهتها؛ إنها الأمية المعلوماتية. وإذا ما كنا نريد الحضور المتنامي والفعال، فلا بد من أن تتنامى قدراتنا النفسية والتقنية على تأمين فرص التواصل المجدي، وأن تكون لنا قدرة على استقبال التدفّق في المعلومات، والاستفادة منه، وتنظيم ذلك، وأن يكون لنا ما نقوله ونفعله ونقدمه من لدننا خدمة للثقافة العالمية، وللمجتمع البشري، ولا يكفي أن نظل متلقّين سلبيين فاغرين الأفواه والأسماع والرغبات والنوازع!
*للإعلام دور هام وأساسي في أي تخطيط أو مشروع أو فعل أو نشاط، وهذا يشمل التوسّع في المنابر الإعلامية التي تشيع الفائدة والراحة والأمان من خلال المعلومات والأفكار والندوات والحوارات والآراء المتاحة لجميع من لديه القدرة والرغبة، وتشجيع من يتردد أو يحجم.. وأن تكون المنابر بعيدة عن التطرف وإثارة الفتن، مع التركيز على ما يجمع ويوائم ويطور ويطمئن.
*والتعليم بمختلف مراحله ميدان هام وواسع ودائم ومتاح للعمل الفكري والثقافي المجدي، وفيه الفاعلون والمتلقون المباشرون واللاحقون، وبالتالي تغدو إمكانية طرح المعلومات والأفكار والنظريات والمناقشة فيها وحولها بمشاركة العاملين في هذا المجال مع المتعلمين أنفسهم، وإجراء إحصائيات وتجارب وندوات وحوارات متخصصة وعامة.. كل ذلك يفيد في الاستناج المتدرج عن المحصلة المتوافرة نتيجة المناهج والمقررات وأساليب التعليم والتعلم؛ ولا شك في أن الاعتماد على قدرات المتعلمين واستثمارها وإشراكهم في العملية التربوية التعليمية التثقيفية ضروري وهام؛ إضافة إلى دعم مبادراتهم وتطوير رؤاهم وتثميرها.. وأن يكون الفهم والتفهم هما الأساس لا التفهيم والإفهام والتلقين في جميع مفاصل العملية التعليمية.. ولا بد من ربط هذه العملية فكرياً وثقافياً وعلمياً وتربوياً بمختلف القطاعات في المجتمع.
*إن لنفسك عليك حقاً؛ فلا بد أن تكون للنفس فسحات تأملية، واجتماعية متاحة من خلال الرياضات والهوايات وتشجيعها، ورعاية المواهب ودعمها وإفساح المجال لها لاستكمال مشاريعها واستثمارها، وأن تكون هذه ثقافة وسياسة لا وقائع عرضية ونشاطات مرتجلة..
*إن اهتماماً جدياً وشاملاً بالعالم الإسلامي يتطلب التعاون بين جميع فعالياته الرسمية والأهلية والمدنيّة المختصة والعاملة في الشأن العام، لتحقيق التواصل المثمر، والعمل على تأمين إمكانية أن يكون تكامل بين مختلف قطاعاته، بحيث لا يؤدي التنافس اللئيم إلى إقامة مشروعات متماثلة متجاورة، أو التسويق الرخيص في الأماكن ذاتها، وأن لا تؤدي الحساسيات المزمنة أو الخصومات المستجدّة إلى تفضيل الآخرين المتخمين على الأقربين المعوزين، وأن تتميز النظرة العامة بالكثير من الأريحية والرضا والتسامح.
***
غسان كامل ونوس
نائب رشيس اتحاد الكتاب العرب في سورية

اترك رداً