الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ملحق الثورة الثقافيّ
تاريخ النشر: 21-2-2023م
رابط النص الأصلي: http://thawra.sy/?p=443511

فليكفكف من يستطيع!

ملحق الثورة الثقافيّ (21-2-2023م)-

غسان كامل ونوس-

ذات يوم، ما يزال مستقرّاً في الذاكرة، منذ ما ينوف على نصف قرن، وصلت لجنة لجمع التبرّعات من أجل السودان (جنوبه؛ ربّما)، إلى ذلك البيت الترابيّ المدخّن، في تلك الحارة المنعزلة عن القرية، التي تكاد لا تفترق بيوتها، عن بيتنا، ولا تتمايز أحوال ساكنيها عن حالنا، التي لم يستطع والدي إخفاءها عن ملاحظتنا؛ من شحّ وضيق نعرفهما، وخجل ربّما من قلّة ما يستطيع تقديمه، مع رغبة أكيدة بالتبرّع من أجل أشقّائنا، وإيمان بمشروعيّته ووجوبه، واندفاع مشهود إلى ممارسته؛ ندرك هذا من اهتمامه بأخبارهم، وانفعاله بمناسباتهم، وشعوره الوجيع تجاه أيّ مصاب يُبتلى به عضو من الجسد، الذي ننتمي إليه، ونحرص على ترسيخ هذا الانتماء، بكلّ ما نستطيع؛ فقد تكرّر المشهد من أجل الجزائر وفلسطين وسواهما من البلدان الشقيقة والأشقّاء المتضرّرين فيها.

ما أعادني إلى تلك اللحظات المثيرة، وبمشاعر فيّاضة، هذه المبادرات الشعبيّة الفطريّة، التي انبرى إليها الجميع؛ بحماسة وحيويّة وانفعال؛ وهذه الاستجابة الغريزيّة من قبل مختلف المواطنين وشرائحهم وأماكن إقامتهم؛ لتقديم ما يستطيعون؛ في مساع صادقة ونبيلة للتخفيف عن منكوبي الزلزال الأخير؛ حيثما كانوا في أركان الوطن العزيز؛ ونحن جميعاً في حال لا تخفى من المعاناة الاقتصاديّة، بعد أكثر من عقد من السنين القارسة؛ في مواجهة شرسة متعدّدة الأشكال والأدوات والمواقع والجهات، للعدوان والإرهاب والعقوق؛ من أجل البقاء والنقاء والنماء والعيش الكريم؛ ومع أعوام من الحصار اللئيم، الذي أثّر على مختلف مظاهر العمل والنشاط، ومحاولات العودة إلى المضيّ الفعّال في مسارات البناء المادّيّ والمعنويّ، المطلوب والمأمول…

لقد ظهرت الحَميّة والغيريّة والأثرة جليّة واضحة لدى المواطنين، حتّى إنّك لتتساءل بغبطة وإعجاب: كيف يجترح إنساننا المعنّى كلّ هذا العطاء، من قلب الشقاء؟! ولن توغل في التساؤل؛ فعوامل القوّة، ومشاهد التكافل الاجتماعيّ، وأشكال المقاومة، وعناصر الوعي، وإرادة الحياة؛ تلك التي استطاع بلدنا؛ معها وبسببها، تجاوز الأزمات، التي لم تكن قليلة، ولا عارضة؛ ولا سيّما خلال الحرب العدوانيّة على سوريّة، ما تزال حاضرة في الوجدان؛ إنّها المواطنة الحقّة، والإنسانيّة الغريزيّة، والمسؤوليّة، التي يشعر بها كلّ منّا، تجاه الإخوة، تفرض علينا واجب الإسهام المباشر في مساعدة الناجين في مراكز الإيواء، من دون تجييش ولا تظاهر ولا إلزام؛ بل بمبادرات طوعيّة، ودعوات من القلب، وخطوات ومساع للتيسير والتسهيل، وتأمين إيصال المعونات المادّيّة والعينيّة إلى مستحقّيها. ولكلّ شيء قيمة؛ مهما صغر أو كبر، قلّ أو كثر، تحدّدها الحاجة، ويفرضها الظرف، ويؤمّنها الشرط اللازم والشعور فيّاض، ولا بأس- ولا بدّ-  من تقاسم مونة الزيت والزيتون، إذا لم يكن سواهما، ولا حرج من اقتسام ما يحدّ من البرد؛ حتّى إن كان قطعة من القماش!

عديدون أعلنوا عن مواعيد وأماكن لجمع التبرّعات؛ أفراداً ومجموعات شعبيّة ورسميّة، ومن مختلف الشرائح والقطاعات، وكثيرون من تقدّموا بما لديهم، وآخرون أسهموا في الفرز والتوضيب، والترحيل والتسليم والتوزيع؛ بحماسة ولهفة؛ وأناس استقبلوا أناساً في بيوتهم، وقاسموهم الزاد القليل، والموئل الضيّق، والضوء الشحيح، والأوقات الصعبة؛ لعلّ الاطمئنان يحلّ، والأمان يسود؛ أملاً وإيماناً ومآلاً.   

وما يزيد من مشاعر الاعتزاز ما أبداه المقيمون خارج الوطن، من مواقف ومشاعر وأحاسيس، وما بادروا إلى تقديمه؛ كلّ من موقعه وإمكانيّاته؛

والأهمّ من كلّ هذا، وفي كلّ هذا، انتفاء أيّ تفريق أو انتقاء أو تمييز؛ فالجسد واحد، والوجع واحد، والهمّ واحد، والنبل والصدق والشعور، والمصير؛ “فلا نزلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا!”

كما أعادني إلى ذلك الزمن، وذاك الموقف، ولكي يغتني المشهد حيويّة ونبلاً؛ وقد اعتدنا عليه في مناسبات عديدة، ولم يكن فيه منّة؛ كما ليس في هذا منّة، وصول عشرات الطائرات ومئات الشاحنات المحمّلة بالمساعدات من مختلف الأقطار العربيّة، وقد كان للإسراع بفرق الإنقاذ، والإسعاف، وللإمداد بالمعدّات والمعونات المتنوّعة، التي ما تزال تصل جوّاً وبرّاً، آثار إيجابيّة مهمّة داعمة لإجراءات استيعاب الحدث الفاجع، والسعي للتخفيف من تردّدات وقعه على مختلف الصعد، وفي مختلف السبل.  

ولم يكن الأصدقاء الخلّص أقلّ نبلاً ونخوة؛ بتقدماتهم وإمداداتهم ومواقفهم المعلنة ومواساتهم ومشاعرهم الإنسانيّة.

وليس هذا غريباً على أبناء الجسد الواحد والبلد الواحد والعالم الواحد؛ الإخوة، والجيران، والشركاء في النور والهواء والكلأ والماء والفصول، ممّن يستشعرون آلام الآخرين، ويحرصون على الإسهام في تخفيفها ومداواتها؛ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا..

فما تزال الكوارث تتوالى، وستبقى؛ بشريّة وطبيعيّة، وليست الإحصاءات الناتجة عنها مجرّد أرقام؛ إنّها غصّات ومواجع وآهات، حاجات ومتطلّبات وآمال؛ فليكفكف من يستطيع، وليهدهد من يقدر.

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً