الفئة: دراسات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبيّ العدد 1662
تاريخ النشر: 2019-11-03
رابط النص الأصلي: http://www.awu.sy/PublicFiles/pdf/alsboa/1662.pdf

إذا كانت رحلة “حياة” في الرواية: “جواز سفر” لـ”وِراد خضر” لم تتمّ؛ فإنّ سَفَر “وِراد خضر” المهندسة السوريّة، بروايتها الأولى هذه، في عالم الرواية خاصّة، وعالم الأدب عامّة -فهي تكتب الشعر أيضاً- قد بدأ بثقة وإقناع. وقد كان لافتاً هذا الطلقُ الإبداعيّ، بعد أن حملت به أدبيّاً لسنوات؛ فيما الحمل الأنثويّ يستغرق شهوراً معلومة العدد؛ مع إلحاحه، وإلحاح الأجنّة الإنسانيّة الأخرى أيضاً وايضاً، على الخروج كائناتٍ مستقلّةً بمقدار، أو تمرّدِها على ذلك؛ وقد قاربت ذلك صراحة في مستهلّ روايتها؛ (والرجال تحبل أيضاً وتنجب ما تشاء. ص5)؛ كما شبّهت رغبة الكتابة وأثر القلم على الصفحات، بفعل الحبّ الإنسانيّ ونشوته! وإذا كان إنجاز الطلق يمثّل الخلاص أو الأمل به، أو الإرهاص؛ فإنّ لجنس نتاج الولادة وجيناته وقابليّات تشكّله وارتحاله؛ إضافة إلى ممارسته فعل الحياة، وتعايشه مع الكائنات الأخرى، وانسجامه وتفرّده وخلوده، الأهمّيّة الأكبر والأكثر جدوى؛ وخاصّة في هذا الزمن، الذي نعيش والكاتبة السوريّة، مواجهة شرسة وضارية، ما بين الحرص على الوطن والوشائج، والانفلات واللاانتماء، ما بين البقاء والتبدّد؛ تهجيراً وقتلاً بأشكال معروفة ومبتكرة، وما بين الوفاء والنكول، ما بين الجدوى والعبء على الوطن والحياة، المعنى والعبث، و”الموالاة والمعارضة”، والروح الإيجابيّة والانفعالات السلبيّة.. وكثيراً ما تترافق النقائض في الكائن نفسه، وتُسهم الظروف الخارجيّة الضاغطة، والداخليّة الخانقة، في الإفراز والبتّ، بعد زمنٍ من الكدر والتشوّش والتردّد… لكن.. أن تأتي أخيراً، خيرٌ من ألّا تأتي أبداً!
وإذا كانت وِراد تدخلنا في أحياز روايتها وأحداثها وتبعاتها؛ مستدرَجين مع “حياة”، تفكيراً وقراءة أفكار مبثوثة في رواية داخلَ رواية؛ حيث وجدنا أنفسنا بلا احتساب داخل متونها وشعابها، نمضي معها فصول الكتابة، ونعاني زفراتها؛ وهو استدراج محبّب للروائيّة؛ لعلّه مراودة لنفسها، ولنا؛ فندخل فصول الحرب على سوريّة؛ بعناصرها الشرسة قولاً وممارسة؛ من رصاص اليتم، الذي تعرّضت له “حياة” -ووِراد أيضاً-، إلى رصاص، يتصادى، في تشييع شهداء يَتكاثرون، إلى رصاصٍ في مختلف المناسبات والجبهات؛ ويتواصل التقاطع ما بين الواقعيِّ المعيش من قبل “حياة” وأسرتها، وفصول حياةِ الرواية بواقعيّتها وتهيّؤاتها الافتراضيّة المتمنّاة؛ وهذا أحد تجلّيات الكتابة، أو دوافعها؛ فهي بالنسبة إليها: (… سلاحي المذخّر بالكلمات التي بها أتحدّى الواقع؛ لطالما كان خطّ دفاعي الأجدى، وكثيراً ما كنت أتخطّى الحواجز، التي تقف في طريقي على الورق برصاص الأبجديّة… ص61).
وبالكتابة (… تعفو عمّن تشاء، وتعذّب من تشاء… لطالما كانت الكتابة عندي خطّة للهروب.. وكنت كلّما استعصى عليّ أمر في الحياة، أكتبه.. ص61).
أمّا الزوج سامي الضابط، الذي كانا على خلاف غير هيّن (فلطالما كنّا مختلفين… ص50)، فكانت تحبّه؛ ومع ذلك، عجزت عن أن تكتبه ربّما؛ وكان أن كتبت شخصاً آخر في داخلها كثير الكلام؛ كانت تبحث عنه؛ فيما ضبطته أحلام مستغانمي، صامتاً غامضاً في “فوضى الحواس” روايتها الشهيرة!
هل “قرأتْ” حياة تلك الرواية التي يردُ عنوانها في نصّها مرّات: “يا دمشق وداعاً”، لـلكاتبة السوريّة أيضاً “غادة السمّان”، ذات زمن مضى؛ فكانت دافعاً لها للكتابة؟! لا تذكر تماماً؛ لكنّها تذكر روايات أخرى وكتباً عديدة عربيّة وأجنبيّة… وهذا ليس غريباً؛ فهي ابنة المثقّف الكبير “يوسف ابراهيم” المناضل مع الرجالات الوطنيّة (التي غابت جسداً، وما زالت حاضرة في ذكريات من بقي منهم… ص24)، المنتمين إلى (جيل من المثقّفين المتجذّرين كأشجار السنديان في أرض طاهرة اسمها سوريّة، لن تزلزلها عواصف الكون كلّه؛ لأنّهم جزء من هذه القطعة المقدّسة من العالم… ص48)؛ ومنه العمّ “إبراهيم ناصر”، الذي (كان من عادته أن يمضي نهاره في القهوة القريبة من المنزل، كبقيّة مثقّفي عصره، الذين اعتادوا على رشف الأدب والسياسة من دون هيل التصنّع.. ص21). هو الذي رافقها إلى “أبي المعتزّ” صاحب مكتبة “الحقيقة”؛ لتعمل فيها بائعة كتب؛ بل ميسّرةَ بيع للمشترين القلّة من بين الروّاد الكثر! هذا ما قاله الرجل الودود الرؤوم؛ موصّفاً حال القراءة والقرّاء، بعد أن رحّب بها بأبوّة بادية؛ ولا سيّما أنّها حلّت تعويضاً عن ابنته، التي لحقت بزوجها في المانيا. وستباشر عملها في اليوم التالي/الأوّل من نيسان! يا للمصادفات الغريبة؛ في مثل هذا اليوم تعرّفت إلى “سامي”، ولهذا اليوم أكثر من قصّة تُتداول عن معناه ما بين السلام والحماقة والجنون؛ فهل تضاف مصادفاتها إلى قصصه؟! وأيّها توافق؟! ها هو “سامي” يَحضُر أيضاً للاحتفال القدريّ بهذا اليوم بلا موعد، ويلتقيان بشوق يُكاثف مشاعر ثلاث سنين قلقاً وغياباً في مهمّاته التي تعدّدت، وتعقّدت خلال الحرب التي تتنقّل وتتّسع وتتشارس! وعلى الرغم من أهمّيّة هذا الحضور الطارئ، تصرّ “حياة” على مباشرة العمل في المكتبة، وتسوّغ لوالدتها اللائمة، التي ستترك لديها الطفلين؛ ذلك بأنّه اليوم الأوّل للعمل، ومن غير المنطقيّ أن تغيب قبل أن تبدأ؛ كما أنّ “سامي” سيقوم بطقوسه، التي ما تخلّف عنها في إجازة: زيارة قبر أمّه، والتعريج على والده. ذلك هو “سامي” الضابط الوطنيّ الملتزم: (أنا لم أقتل حرّيّتي يا حياة يوم التحاقي بالكلّيّة الحربيّة.. لكنّني قد أقتلها، إذا فكّرت بإنكار هويّتي السوريّة، وانسحبت من الجبهة، وأنا ما زلت قادراً على الدفاع عن أيّ شبر من الأرض الطاهرة. ص53)؛ “سامي” الذي تقلّصت إجازاته، وتضاغطت أوقاتها، حتّى كانت تلك الإجازة الأخيرة، التي كان لأقواله وسلوكه فيها وقع مختلف؛ أحضر جوازيَ سفر للولدين، وأذنَي سفر موقّعَين منه لعام، وقال: (إذا لم أرجع… لا بأس أن تسافري إلى أختك في الخليج، ومن هناك إلى أيّ بلد، يُسمح للسورييّن بالهجرة إليه. ص64)، وترك لها مبلغاً من المال، بعد أن باع ما تبقّى من ذهب والدته، وألمح بأنّ لها حرّيّة التصرّف، من بعده؛ فهو منقول إلى دير الزور؛ حيث الجبهة مستعرة؛ كما اتّقدت مشاعرها واضطربت إزاء سلوك العارف هذا من زوجها.
(هناك إشارات دائماً.. إشارات عن المستقبل، وعمّا سيحدث. ص72)
وليس هذا غريباً؛ فقد كان لوالدها ذلك الحدْس مبكّراً، وحاول إقناع والدتها بالعدول عن الزواج به؛ لكنّها أصرّت، وقلقت، وصار ما صار! هذا وجه شبه آخر ما بين حالها ووالدتها المرأة الجبّارة/ زنوبيا، التي تصدّت كالرجال لكلّ مصاعب الترمّل الباكر، وربّت ابنتيها بأنفة وشرف، وها هي “حياة” نفسها، تستعدّ لهذه المغامرة القدريّة الصادمة مع ولديها؛ فلم يصل الضابط “سامي” إلى قطعته التي يقصدها، وضاعت أخباره بعد القصف الوحشيّ على مطار دير الزور!
وعن أيّ قصف همجيّ أو هجوم فاجع تتحدّث، وأيّة كوارث تتذكّر؟! التفجيرات الثلاثة في طرطوس، وكانت على مقربة من مركز الانطلاق الجديد؛ حين حدث أوّل انفجار، وشاهدت الهلع لدى الناس، فأشارت إلى أقرب تكسي، وانطلقت بها مبتعدة بسرعة جنونيّة، وحسناً فعلت؛ فقد تتالى دويّ انفجارين آخرين؛ وماذا عن قصف مطار الشعيرات، والعدوان الثلاثيّ على دمشق وسواها، حيث كان الناس يهلّلون للمضادّات الأرضيّة المتكاثفة تتصدّى ببسالة للصواريخ الغازية المتذاكية.. (لا أذكر أنّني أمرّ وإيّاهما بلحظات رائعة، وأشتهي حضورك بيننا.. إلّا أنّني أستمتع بها على كلّ حال؛ لم تحقّق الضربة الثلاثيّة أيّ انتصار على الأرض؛ فقد كان رفاقك يا سامي على أتمّ الاستعداد والإيمان بالنصر للأرض والشعب، وتصدّوا لصواريخ الموت بكلّ بسالة ويقين عقائديّ، لم يعرفه جيش في التاريخ. ص133)؛ هذا ما تقوله “حياة” لـ”سامي” النقيب فالرائد! أو تخيّلت أنّها تقوله، وقد تهيّأ لها أكثر من مرّة، وفي أكثر من مكان: في البيت حيث تبيت وحيدة مع طفليها، اللذين يطالبان ببابا، وهي تفكّر في حمايتهما؛ وتراءى لها على شاطئ البحر، الذي كان يعشقه، حين كانت عائدة من عيادة نسائيّة تطمئنّ على حالها بعد الإجهاض، وأشفق عليها شبيهه؛ وذكّرها بحنانه وشهامته برجولة “سامي”؛ هذه الشفقة التي تكرهها، ولا تطيق العطف الذي يبديه الناس على الولدين، وتفضّل أن تبتعد بهما؛ ليس فقط تنفيذاً لوصيّة والدهما؛ بل لكي يعيشا حياة عاديّة، وتتشكّل لكلّ منهما شخصيّته المستقلّة. واستكملت إجراءات السفر، بعد أن حصلت على الجواز، وأمّنت موافقة عمّها على سفر الولدين بصحبتها، ودرّبت “ابتسام” بديلتَها، التي جاءت مصادفة، تبحث عن عمل، على عمل المكتبة، ولم تأخذ رأي “أبي المعتزّ” في السفر؛ بل قالت بأنّها تنوي زيارة أختها في الإمارات؛ فهي تعرف رأيه، من أنّ الإنسان يختار قدره، ولكلّ خيارات مناسبة وأخرى غير مناسبة، وقد شهدته يقنع شابّاً، جاء يشتري كتباً تُعلّم الالمانيّة، بالبقاء في البلد؛ فرمى الشابّ الكتب أرضاً، وخرج حانقاً؛ لكنّه يعود في الصباح ليعتذر، ويطمئنه بأنّه عدل عن فكرة الهجرة من البلد؛ “أبو المعتزّ” أخبرها بذلك، وشرح لها أنّه مع القرار الشخصيّ النابع من قناعة؛ وهذا ما يجعله يناقش الأمر بجدّيّة مع الآخر صاحب الرأي المختلف، ويفاجئها بإعطائها وثيقة ملكيّة بالمكتبة؛ (لقد قدّم لي هذا الرجل جواز سفر إلى الوطن، وأنا كنت أنتظر استلام جواز سفر من الوطن خلال أسبوعين.. ص98)، وهذا وفاء منه لتعهّده لأبيها، قبيل وفاته، بحادث سير، وكان يحدس برحيله القريب، بإعطاء البنتين مالاً استودعه إيّاه، حين تحين الفرصة، وقد اشترى “أبو المعتزّ” المكتبة بذلك المبلغ، واستثمرها، وها هو يعيد الحقّ لأصحابه؛ أيّ وفاء هذا؟!
السفر من مطار بيروت أكثر أمناً، ستقصده برفقة ولديها، في سيّارة “فان” خاصّة، وتغادر طرطوس، مدينة الشهداء، الذين يحدّقون بها، بصورهم المتكاثفة، وتعرف بعضهم، وتتأمّل معالم الطريق المتباينة عمراناً منتظماً وعشوائيّات، ومناظر شاطئيّة آسرة جوار الحدود، التي تنهي فيها الإجراءات المطلوبة، وتستذكر رواية “غادة السمان” من جديد. وتعود لتتأمّل التضاريس اللبنانيّة، التي لا تكاد تختلف عمّا تركته في سوريّة؛ فتتساءل عن معنى الحدود وغايتها القاتمة! إلى أن وصلت إلى مطار بيروت؛ حيث تنتظرها “ليان”، إحدى صديقاتها الأربع، اللواتي ينتمينَ إلى عقائد متعدّدة؛ لكنّها- ولكنّهنّ- لم تفكّر بهذا الأمر قبل الحرب، ثمّ باعدت بينهنّ المسافات والأفكار، بعد أن حدث ما حدث. “ليان” ستستقبلها في المطار برفقة أخيها “ريّان”؛ الذي سيسافر في الطائرة نفسها إلى الإمارات.. وستنتظر وإيّاه- بعد مغادرة أخته المفاجئ- في المطار إقلاع الطائرة، ويدور حوار حميميّ، بعد أن غفا الولدان، يذكّر بما كان من استلطاف وصداقة، لم تتحوّل إلى حبّ؛ بسببها؛ هي التي قصّت شعرها الطويل، بعد أن حدّثها عن جماله، وسألها إن كانت ما تزال مستعدّة- على عادتها- للانتقال بفكرها وموقفها من النقيض إلى النقيض، إذا ما اقتنعت!
هل حقّاً هي كذلك؟! فلا تلبث أن تتّصل بسائق “الفان”، الذي كان قد أخبرها، أنّه لن يغادر لبنان قبل ساعة محدّدة؛ وأعطاها رقمه؛ هل كان هو الآخر، يحدس بأنّ ذلك الرحيل لن يتمّ؟!
*
ليس هذا تلخيصاً للرواية؛ بل تنقّل بين أفنانها الكثيفة، وهو؛ كحال أيّ تَذاكُر لها، يُفقدها كثيراً من وقائعها ونكهتها؛ فالرواية، على الرغم من صفحاتها غير الوفيرة (155 صفحة من القطع الوسط)، تضجّ بالأحداث والأفكار والعواطف والمواقف؛ ويكفي أن تكون سوريّة بيئتها؛ في عكَر الحرب المفروضة عليها؛ لتكون فضاءاتها واسعة وفصولها قارسة، وتفاصيلها جحيميّة؛ فالحرب لم تترك أحداً خارج تأثيراتها:
(ملعونة هذه الحرب.. لم تترك بيتاً إلّا وأفسدت فيه؛ شبابنا ضاعوا بين مقاتل ومفقود ومخطوف وشهيد ومهاجر، ونساؤنا أصبحن ثكالى وأيامى ويتامى، والأطفال المعطوبو المستقبل، هم الخاسرون أبداً على كلّ الجبهات… ص39)
والمرأة في الحرب (أرملة لزوج غائب في الجيش، أو هرباً من الجيش)؛ (العاملة الجبّارة، تعمل في وظيفتين، وفي الأزمة تفاقمت أزماتها… ص27). والممرّضة العبوس فقدت حبيبها في الحرب؛ (ص 112)
ومن تبعات الحرب المكدّرة: أزمة الغاز الخانقة، والانقطاع الكبير في التيّار الكهربائيّ، والبطّاريّة التي تحتاج إلى سائل على السقيفة، وحين تحاول “حياة” تزويدها به، تقع، وتُجهض؛ إضافة إلى مشهد الراغبين في السفر في دائرة الهجرة والجوازات.
وفي الحرب مُوالون، ومتسائلون، ومشكّكون ومعارضون…
وفي بادرة ذكيّة مثيرة، ترضى “حياة” أن تأخذ موقف “الشيطان”، الذي يسأل ويشكو ويتألّم؛ فكانت في بداية الأزمة تستمع إلى المعارضين وطروحاتهم، وتتساءل مع بعضهم وتطالب.. ربّما، وتسأل سامي عن أيّة هويّة يتحدّث؟! وماذا قدّمت لكَ سوريّة؟! وتقول واصفة حال استلامها جواز السفر: (…من بين قضبان الشبّاك الحديديّ، وناولني حرّيّتي في دفتر بحجم يديّ المرتجفتين.. ص)؛ لتترك لِـ “سامي” “وأبي المعتزّ” دور الرحمن؛ فها هو سامي يقول لها بحنق: (كأنّ الجنون مسّ عقلك يا حياة.. وكأنّك لم تولدي، ولم تتعلّمي في مدارسها، ولم تتخرّجي من جامعاتها، ولم تعالَجي في مشافيها، ولم تمارسي حقوقك كاملة فوق ترابها! ص54)، وها هو “أبو المعتزّ” يسوّغ الاهتمام بالصحف المحلّيّة، على الرغم من انتشار الانترنيت: (… لن تُغْني هذه الصفحات، التي تذكرينها عن صحف الوطن، وحدهم صحفيّو البلاد يكتبون أخبارها، وبصفة رسميّة، وأسماء حقيقيّة، وتحت طائلة المسؤوليّة… ص41)، و(هذا الوطن كبيت العائلة يا بنتي، وكلّ فرد فيه له خياراته في ممارسة الحياة؛ كما يهوى.. ومن الخطأ فرض الآراء على أفراد العائلة. وهذا ما نسمّيه حقّ تقرير المصير. ص100).
وتعود أفكارها إلى منحى مختلف، بعد ما رأت من أفعال وحشيّة، وسمعت عن ممارسات فاحشة ما لا يصدّق، وهناك معارضون مخالفون للطبيعة الإنسانيّة؛ يرسلون أطفالهم للانفجار في أبرياء! وماذا عن أولئك الذين يفرحون لضرب بلدهم، وتخريب مقدّراتها؛ حتّى لو جاء ذلك من الكيان الصهيونيّ: (وهذا السوريّ السعيد بالصاروخ الموجّه إلى أرضه؛ كمن يسمح لغريب باغتصاب أمّه.. ليس فيه من النخوة والكرامة من ذرّة، وجملة هتلر الشهيرة كافية لوصفه: “أحقر الناس الذين قابلتهم، هم هؤلاء الذين ساعدوني على احتلال بلادهم.” ص 89)
ولا تنسى “حياة” أن تتحدّث بصراحة عن علاقتها بسامي الضابط المفقود، (مررنا بمفترقات قاسية، وكانت لتكون فاصلة في وقتها… ص 107)، (فقد كانت علاقتي مع سامي راقية لدرجة التعب. ص117)، وتصل جرأتها إلى الاعتراف ببعض توتّرها وعنادها أو تمرّدها، وهو الساكت عنها، المنشغل قبل الحرب وفي أثنائها، بقناعاته الوطنيّة الراسخة:
(سوريّة يا حياة.. سوريّة تستحقّ كلّ نقطة دم تسيل لأجل حرّيتها وكرامتها.. ص54)
وهذا مثير في الرواية، يندرج في محور مهمّ وحيويّ، هو الصراع الداخليّ بين الأفكار والمواقف، بين المشاعر والتصرّفات…
وتطرح الرواية مشكلات اجتماعيّة وبيئيّة ونفسيّة قائمة ما تزال، وتحتاج إلى بحث ومعالجة:
– (… التي تطلّ على أراضي الزيتون الهادئة، التي لم يستطع متعهّدو البناء اغتصابها بعد… ص 22)
– (سَفر الأولاد مع أمّهم، يحتاج إلى موافقة جدّهم لأبيهم، في حال غياب الأب. ص130)
وتضيف الكاتبة معلوماتٍ، ترى أنّها مفيدة للقارئ، وتقدّم له رصيداً وغنى؛ على الرغم من أنّها تبدو نافلة؛ لكن زيادة الخير خير:
– الأوّل من نيسان؛ وقلّة من يعرفون قصّتيه المرويّتين عن سبب خصوصيّته لدى الناس.
– وجد محرّرو مرصد جبل الشيخ (مادّة غذائيّة موضوعة في إصبع معجون أسنان، تكفي الشخص شهراً كاملاً… ص 23)
– (رتبة المرشّح لم تعد في رتب الجيش السوريّ في أيّامنا هذه)
– القهوة المشروب الثفافيّ والاجتماعيّ في سوريّة (ص62)
وتضيف الكاتبة أفكاراً من لدنها: (كاذب من يدّعي بأنّه يستطيع التوقّف عن الانتظار؛ لأن الانتظار فعل لا إراديّ، وشعور مزروع باللاوعي.. أن ننتظر، يعني أن نحلم، ومحال أن نتمكّن من التوقّف عن حلمِ اللقاء بأحلامنا.. ص129).
*
أمّا التقنيّات التي قدّمت الرواية إلينا؛ فتظهر مقدرة وتمكّناً من الأدوات، على الرغم من أنّها الأولى؛ فإضافة إلى ما ذكر من رواية داخل رواية، واستدراجٍ مُحكم للدخول متلبّساً بالقراءة والتمثّل، والتداخل المثير ما بين الحياة المعيشة خارجاً، والوقائع المكتوبة في الرواية الداخليّة الذي شكّل الرواية التي بين أيدينا: ( كم تشبه هذه الجزر الورديّة الصغيرة مشاعري في هذا اليوم، ألتقط لها صورة من هاتفي المحمول؛ لأحتفظ مراوغة بمشاعري الآنيّة لفترة أطول.. ربّما… ص39)؛ فقد كان تكثيفٌ واستذكارٌ، وتركيزٌ واسترسال، وتأخير وتقديم، وتخيّر، وتخيّل، لا تفقد معها الرواية مساراتها غير الخطّيّة تماماً، ولا يضيّع وجهتها غير الصارمة؛ وقد جاء ذلك في أداء حذر مفخّخ بمفرزات الأزمة، مشحون بالقلق والمعاناة والآلام والآمال المنتظرة؛ عبر سرد حيويّ مثير وموحٍ، ومغتنٍ بأمثال وأناشيد، ومحيلٍ إلى أفكار ومقولات تُغني المَشاهد: (السلام الداخليّ شعور لا نستطيع استدعاءه متى نشاء؛ فهناك الكثير من الأفكار المدجّجة بسلاح القهر والظلم والوجع نواجهه في دواخلنا، وكم أتمنّى أن أعيشه ذات حلم. ص106).
وختام الرواية مهمّ ومعبّر كمدخلها؛ فعدم السفر انتصار للوطن، ولذكرى “سامي”، ووالدها، ووالدتها، وأبي المعتزّ وإبراهيم الناصر، ونضال قديم متجدّد في زوجها ورفاقه، ومعها والطفلين، وباقي أبناء سوريّة، وأطفالها القادمين بأمل وثقة إلى الحياة الكريمة.
وفي الرواية وصف أدبيّ معبّر وملوّن (أتيت إليّ بزيّك العسكريّ وسنوات غيابك الثلاث، بوجهك الحنون وعينيك المتعبتين، بلحيتك الكثّة، وشعرك الأسود… كم أصبحت نحيلاً يا حبيبي! ص35)؛ وحوار داخليّ يضيء البواطن ويبثّ المشاعر والرغبات، وخارجيّ يعرض المشاهد والأحداث والمواقف؛ وقد يقدِّم عرضٌ ما تحليلاً وتمهيداً لما سيأتي؛ واعتمدت الروائيّة على تبدّل في الضمائر أكثر من مرّة في حيّز واحد، من المتكلّم إلى الغائب، والمخاطَب.. كما جاءت الأسماء معبّرة عن الشخصيّات؛ من “سامي” الضابط الذي سما بنجومه ونسره وفقده المتوقّع والأكثر احتمالاً، إلى “حياة” الفوّارة بالرغبة في الحياة التي (لن تكتب عن المآسي، تحبّ أن تكتب عن الحياة، عن سوريّة، التي ستعود؛ كما كانت، بلد الأمان والمحبّة والسلام… ص 13) والحافلة بالمتناقضات (أبكي بحرقة وقهر وشوق وفرح… ص35)؛ إلى “أبي المعتزّ” حقّاً، ومكتبته “الحقيقة”، وصديق والدها “إبراهيم الناصر”.
ولغة الرواية فصيحة مفيدة أدبيّة، مقتصدة؛ فلا إيغال في التقعّر، ولا استغراق في الإنشاء، ولا تقصير في العرض الحيويّ؛ مع إشراقات مهمّة؛ على الرغم من قتامة الأجواء والآفاق:
فتقول عن “أبي المعتزّ” (…الضابط القديم وأستاذ اللغة العربيّة وعينيه الباردتين من لهفة ربيع ولّى بلا رجعة، وتجاعيد وجنتيه المحفورة كالقصائد، التي تغنّى بها في شبابه… ص 30)
وتتذكّر العرس: (وأبحث عنك وعن الدفء الذي يغمرني به وجودك، وأعلم أنّه كان السرَّ المسؤول عن ارتباطي بك، أنت دون غيرك من الرجال… ص32)
وإن كنت تحسّ أحياناً، أنّها كانت تحتمل إشراقات أكثر، وصياغات أكثر سلاسة؛ لكنّ اهتمامها بالأفكار، وحرصها على رصد كلّ شيء قائم ومتخيّل، في ظلّ حرب ضروس متعدّدة الجبهات والعناصر والوسائل، أثّر على ذلك.
وهناك لقطات ذكيّة معبّرة في الرواية:
– أعطى “أبو المعتزّ” “حياة” صكّ ملكيّته للمكتبة، وكان يخبّئه منذ سنوات في الكتاب: “السرّ الأعظم”، فلم تشكره؛ لأنّها تريد السفر؛ ففكّرت أن تضعه في الكتاب “سأخون وطني” وتعيده إليه!
– حين كان سامي يغادر آخر مرّة، شربا القهوة على صينيّة فيها عقد لؤلؤ انفرط بعض حبّاته! (ص63)
– لقد أجهضتُ طفلاً، لكنّني سأنجب كتاباً.
– حديثها مع أطفالها عن الدولة “سوريّة”.
– حديثها عن الكتابة وطقوسها وسبلها وغاياتها مرّات.
– الحوار الطفوليّ المعبّر عن زمن الحرب ومفارقاتها المرّة؛ حين سأل ابن شهيد زميله في المدرسة عن أبيه؛ فقال إنّه مع المجاهدين؛ ويمكن أن يكون الشهيد قد كان ضحيّة ذاك المجاهد.. (إنّها لمفارقة نعيشها فقط في سوريّة. ص 67).
*
وختاماً نقول: إذا كان سَفر “حياة” وطفليها في الرواية لم يتمّ؛ فإنّ رحلة وِراد خضر في عالم الأدب، قد بدأت بتذكرة جادّة مجدية، وخطوة واثقة، نأمل، ونعتقد، أنّ تذاكر أخرى وخطوات، ستؤمّن لها -ولنا- رحلات مثمرة أكثر فأكثر.
***
غسّان كامل ونّوس

اترك رداً