علاقة الأديب بالمكان
غسان كامل ونوس
يشكل المكان الذي يعيش فيه الأديب حاضنة له، تقترب من حال الحاضنة الأولى: الرحم؛ ومن الطبيعي أن يستقي منه المعارف والمعطيات، إضافة إلى العادات والتقاليد؛ أي هو المورد الثقافي والمساهم الرئيس في تشكيل الكيان ورسم الشخصية؛ ومن المألوف أن تكون العلاقة بين الأديب ومكان الإقامة المديدة ودية أليفة، رغم ما قد يشوبها من نفور عارض أو جزئي، أو حادّ نتيجة حساسية المبدع وأفكاره المفارقة للسائد؛ لكنّ لمختلف الكائنات والعناصر آثاراً تظهر منسلّة أو مقصودة في عمل أدبي أو أكثر، بتشكيلات أو هيئات وكثافات وتفاصيل معيشة أو متخيلة بنسب متفاوتة بين أديب وآخر، وعمل أدبي وآخر حتى للأديب نفسه. وقد يبتدع الأديب مكاناً مختلفاً عما يحيط به أو يعرفه معايشة واقعية أو عبر مسموعات أو مرويات أو معلومات، فيكون لهذا المكان الافتراضي خصوصية يفترض أن تراعى، كما في حال المكان الواقعي، فلا يقع الكاتب في تناقض بين المكان وكائناته وعناصره وظروفه، ولا يتعلق هذا الأمر بقرب المكان من الأديب أو بعده عنه، ولا بمحبته له أو انبتاته عنه؛ بل بقدرة الأديب على تمثل روح المكان وبثها في جنبات مؤلّفه مهما كان تصنيفه أو توصيفه، مع الإشارة إلى أن للمكان وجوداً حيوياً في الرواية والقصة مثلاً أكثر من الأجناس الأخرى.. وفي بعض النصوص يكون المكان عنصراً أساساً، وقد يعمد بعض الكتاب إلى تحديد مكان واقعي معروف، أو يلمحون إليه بلا تسمية، كما قد يغيب هذا أيضاً فيغدو المكان المرسوم للعمل الأدبي بيئة مركبة من عدد من الأماكن التي نعرف أو لا نعرف، ويترك للمتلقي تخيله أو تصوره، وتتبع العلاقات والنشاطات التي تحدث في النص وأصدائها، ومدى انسجامها فيما بينها، وتوافقها مع حال النص العامة أو الخاصة.
وقد تنوس العلامات الفارقة للمكان في النص إلى درجة الاضمحلال، أو تقوى إلى درجة الهيمنة الكلية، وتعود درجة النجاح في أن يبقى المكان بيئة رحبة للنص، لا بمعنى الامتداد الفسيح، أو التعدد والتمدد؛ بل بمقدار الواقع الحاضن المؤثر بالأحداث سلباً أو إيجاباً، والمتأثر بالوقائع، ويفترض أن يكون ذلك بشكل مناسب وفق خصوصية العمل بعيداً عن الفجاجة أو المبالغة، وحسب موهبة الأديب وإمكانياته، ما يؤدي، بالتعاون مع العناصر الأساسية الأخرى: الزمان، اللغة، المستوى الثقافي، والظروف السائدة طبيعياً وبشرياً.. إلى إنجاز فني متميز.
***
غسان كامل ونوس