كنتَ تفرح، حين يضع والدك البيض في السلّة المَجدولة من القشّ أو أعواد الريحان، على طبقات يفصل بينها التِّبْنُ، وتتبادل وأخوتك الضّحكات الخافتة؛ ليس لأنّكم ستحصلون بثمنها على بعض ما تحتاجون إليه، فحسب؛ بل لطريقة العدّ، وما يرافق الأعداد من توابع: “واحد الله، اثنين يا موفي الدَّيْن، ثلاثة الله يجيرنا من الشماتة…”، إلى آخر هذه السلسلة التي تتكرّر، ولا تطول! ولم يكن فرحك يطول لعدد الدحاديل التي تخسرها بأسرع ممّا تربح، ونوافل البلّوط من “القلاليح” النادرة المكوّرة الشائكة المطلوبة للحِبر؛ تلك التي تحصل عليها بمشقّة الصعود، ومغالبة النمل، وعسف الأغصان المتكاثفة والمترامية..
لم يعد لذلك الفرح صدى، كما لفرح أنّك استطعتَ إكمال العدّ إلى عشرة أو عشرين فمئة..
ولم تعد مشغولاً بسنيّ الدراسة والجامعة، والتخصّص الذي لم يعد منه بدّ، ولا بالشهور والأيّام، التي ستنتهي بها عسكريّتك، أو الخدمة الاحتياطيّة؛ فليس لهذا ترجمة على أرض الواقع!
بتَّ مشغولاً بأعداد أخرى، لا فرح فيها، ولا انشراح!!
ولستَ وحدك..
مواكب الشهداء تترى في قريتك، والضّيع المجاورة، والقرى الأخرى..
هل تتباهى بأنّ عددهم في قريتكم أكبر؟! وماذا عن أعداد المخطوفين والمصابين؟! هل تفرح لذلك؟! الأمر لا يقتصر على هذا؛ فالضحايا كثرٌ اليوم، وأمس، وما قبله، وقبله في الزمن القريب والتاريخ البعيد. وغداً ينتظر المزيد، وبعد غد، وبعده لناظره قريب!.. ليس هذا غريباً في ذاكرة الشعوب التي تبحث عن العيش الكريم، وتدافع عن أوطانها وكياناتها التي يهدّدها المعتدون الأشرار في الخارج والداخل، وفي كلّ عصر وآن!
ليس غريباً؛ ها هي الأعداد تتوالى على الشاشات، وفي مختلف المنابر الإعلاميّة الأخرى، ولا تتوقّف السلسلة: أياماً وشهوراً وسنوات، وكائنات؛ لكنّ الغريب أن لا يختلج الإيقاع، على الرّغم من أنّ المعدود ضحايا بشريّة، كانت إلى وقت قريب تزفّ لنا الأعياد وهي تحبو، وتناغي، وتصبو.. ولا يهتزّ جفن لأعداد المفقودين والمهجّرين والمفجوعين؛ ليس بفعل زلزال أو هزّة أرضيّة، أو سقوط نيزك، أو ثورة بركان، لا نملك حيال أيّ منها، سوى الدعاء والرضا بقضاء الله وقدره!
أعداد تتوالى، وأرقام تتزايد، وقد يُبالَغُ فيها لغايات قاتمة، كما قد يُخَفَّفُ بعضها أو يُختصَر لأهداف أخرى.. لكنّ الواقع يعجّ بالدقائق التي تخلّف المزيد من الضائعين والمضيَّعين، والكثير من الفاقدين، وما لا يحصى من الحزانى والمنكوبين..
الأمرُ الذي يدعو إلى الأسى، أنّنا -كأنّنا- نعدّ بلا إحساس، ونذكر أرقام الممزَّقين والمشوَّهين، كما نلوك أعداد الغارات والغزوات والقذائف “الذكيّة” والعشوائيّة..
نتحدّث عن بشر من أهلنا، جيراننا، معارفنا، أبناء جلدتنا، وطننا، هيئتنا، التي كانت عاقلة، وكأنّنا نعدّ رؤوس الماشية، أو الأشجار، أو الأشياء؛ تلك التي لا تعي ولا تتحرّك..
نقول ذلك، ونبالغ فيه مضموناً وأداء؛ مباهاة أو تشفيّاً، أو ضجيجاً؛ إيهاماً بأنّا معنيّون، ومهتمّون، ومنشغلون؛ فيما نحن مخدّرون، أو نراود أنفسنا عن اليقظة؛ ننتظر الغفلة ونتمنّى؛ كذاك الذي لا يستطيع النوم، وهو يعدّ كي يسهو، لكنّ الصبح يطلع عليه، وهو يردّد أرقاماً فلكيّة!
أليس من الأفضل أن ننشغل بما هو أجدى، من مجرّد العدّ والتلمّظ والتندّر؟! أن نستثمر الأعداد/ أعدادَنا (كما يستغلّها الآخرون)؟! أن نفيد منها في الدراسات والمقارنات والأدلّة لدى المحافل الدوليّة، حتّى لو كانت محمومة لتبديلها أو تسويقها بما يناسب تدخّلاً فظّاً يضاعف منها؟!
لماذا لا نفعل ما يخفّف منها، أو عن أصحابها؟! بدل أن نكون أمينين على فحوى المَثَل: من يعدّ العصيّ لا كمن (يأكلها)؛ لكنّ المفارقة المُرّة أنّنا نتغافل عن أنّ من يتلقّى العصيّ، هو من يعدّها، أو نتناسى أنّ العصيّ في أيدينا أو أيد قريبة، كما في أيد غريبة، وأنّ بعضنا يضرب بعضنا بالسيف وبغيره..!
الأرقام تتوالى، والآهات تتخافت، والأصداء تتحوّل من الأنين إلى الرنين، ولم تعد الأعداد أكثر من أرقام مجرّدة، بلا أجسام، أو أحلام، أو أوهام.. بأنّنا ننتمي إلى الجنس العاقل! ولسنا سوى عدّادات آليّة ناطقة، لا تحسّ، ولا تشعر، ولا تتأسّى، ولا تقلق على مصير، بات في كفّ عفريت، لا يكاد يختلف عن هيئتنا، التي كانت ذات خَلقٍ على مثال صورة الرحمن!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموارد
تاريخ النشر: 2015-01-01
رابط النص الأصلي: www.facebook.com/almawared.sy