للأسف..
ليس الفساد في “ربوعنا” جديداً، ولم يَعدْ، ومنذ زمن، ممارسة شاذّة فقط، ولا حيازات مادّيّة وعينيّة بطرق غير قانونيّة، وبأساليب تقليديّة ومبتكرة؛ بل تحوّل إلى أفكار مغلوطة، يجري تعميمها، ومصطلحات يتمّ تسويقها؛ فيصبح الكسب غير المشروع “شطارة”، ومن الطبيعيّ أن يكون الأمر “حلال عالشاطر”!، ويمسي المتحصّل على ما ليس له به حقّ، ولم يصرف لقاءه أيّ جهد، “مستفيداً”، أو “مدبّراً حاله”، ويغدو السارق من السارق كالوارث من أبيه! ونهب مال الدولة ليس حراماً!!
كان هذا ما يدور في الأحاديث والمداولات السرّيّة والعلنيّة قبل الأزمة، وكان يتمّ “تبييض الأموال” أو “غسيلها”، أو السعي إلى ذلك بالطرق إيّاها، قبل أن بات هذا الأمر ليس ذا بال؛ فليس من يحاسب، أو يسأل عن مصدر أموالك، ولا إن كان دخلك الوظيفيّ، يمكن أن يفرّخ بهذا الشكل السرطانيّ! وبعد أن تجاوزت سنوات الأزمة/العدوان/الحرب على سوريّة، الخمس العجاف، وصارت في سنّ تؤهّل مفرزاتها الدخول “المشروع” إلى المدرسة، بعد أن كانت المدرسة بسمعتها وهيبتها “مستمِعة” أو متصبّرة، تحت احتمالات القصف والتدمير والتخريب من خارجها! ولم يكن العبور القارس هذا من الثغرات المتعفّنة مع الأيّام، ولا من الصدوع المهملة المتفاقمة، ولا من الفتحات، التي أحدثتها القذائف العشوائيّة أو المستهدِفة من بُعد وقرب، فحسب؛ بل دخلت الملوِّثات من أبوابها ونوافذها، مع عناصرها المتحرّكة، المؤتَمَنة على فلذات الأكباد والمصائر الموعودة! وكادت تستوطن المناهج؛ لا عبر فقرات مدسوسة، أو نصوص مرميّة بلا اهتمام، ولا كقضايا مهمّة طارئة، تحتاج إلى دراسة وتحليل؛ للتخلّص منها ومن تبعاتها، التي لا تُحتمل، والتحصّن في مواجهة مداهمتها وإغراءاتها التي تستشرس.
لقد دخلت تلك الأفكار المُمرضة، قبل ذلك، مجالات عديدة، وسادت مفاهيمُ مدمّرة، وعشّشت كالسوس في أركان وأذهان وأغصان، من دون أن نغفل إسهام سنوات الأزمة وضغوطاتها، والوهن في المفاصل، والترقّق في السلطات، وانشغال أولي الأمر، وغياب الحرّاس، والمفارقات والمقارنات غير المنطقيّة… في التمادي والتطاول على أهمّ الميادين بناء وترميماً، وأقربها وأكثرها انتشاراً ومشاركة، وأميزها طراوة وطلاوة وسلاماً؛ لتتحوّل إلى مصائد مضمونة الضحايا ومكفولة الخسران!
الأمر لا يقتصر على ما أشيع عن تسريبات في سؤال أو مادّة أو امتحان، وما رافقه من عقوبات جماعيّة، تمثّلت بقطع الشابكة والاتّصالات.. وبصرف النظر عن منطقيّة ذلك؛ قياساً بالخسائر الناتجة عنه في مختلف القطاعات، وعن هذا الأسلوب السريع المريع في العلاج، الذي يشبه جرعات الأشعّة، التي تستهدف الخلايا المريضة، فتخرّب في طريقها ومحيطها خلايا سليمة، أكثر وأهمّ ربّما! وبتجاوز الحديث في الفائدة والجدوى والمآل…
ولم نتحدّث بعدُ عن الطلّاب، الذين فقدوا فرصة الدخول إلى المدارس، ومتابعة التعلّم، في الدراسات العاديّة والعليا..
ولن نستغرق طويلاً في استشراء التعليم الخاصّ، الذي كان إلى وقت قريب مستهجناً منكراً، وملاحَقاً غير محمود، يخصّ أصحاب النفوذ المتنوّع، ومستحدَثي النعمة، وصار علامة عامّة، ومعبراً إجباريّاً، لا عن طريق الأساتذة المشرشرين، كما الطلّاب، في غير أوقات الدوام المدرسيّ، على المفارق والطرقات، الطارقين الأبواب والنوافذ ربّما، والحالّين ضيوفاً ثقيلين على الأوقات والجيوب؛ بل بمدارس تتكاثر، أكثر من المدارس العامّة والصفوف والمراحل التي تُستنزَف، ولا أظنّ أحداً يعتقد، بأنّ ذلك من أجل أكبادنا التي تمشي على الأرض، أو مستقبل أجيالنا، أو خالص لوجه العلم والمعرفة!
ولا شكّ في أنّ كلّ هذه خسارات كبرى، وفواقد عظمى، تضاف إلى الخسائر التي لا تعوّض في الأرواح والمصائر والموائل…
لكنّ ما سلف من فواقد، ينال الجسد الذي ما يزال ينبض، أو يتوسّل الحياة بأبسط شروطها؛ أمّا ما أودّ الإشارة إليه، ويدميني؛ لأنّه الأخطر والأشدّ كارثيّة؛ لأنّه لا يبقي ولا يذَر، ويدمّر كلّ شيء حيّ…
إنّه تَحوُّلُ عمليّة الفساد في التعليم إلى “قناعات”، لدى كثير من الطلّاب وبعض الأهل والقائمين عليها! أقصد القائمين بالعمليّة التربويّة؛ فيصبح أمراً طبيعيّاً أن ينقُل الطالب في الامتحان، ومن الضروريّ تسهيل هذه العمليّة، من قبل المراقبين أنفسهم، وبعضهم يَعِدُ الممتحَنين في القاعة، بأنّه سيترك لهم المجال في وقت معلوم قبل النهاية، وأنّ عليهم أن يمارسوا ذلك بلا ضجيج، مع مراقبة مسبقة لدروب المندوب! ومن المهمّ رصد الطالب المتميّز ليصبح مرجعاً في القاعة! وقد يتولّى المراقب نفسه نقل المعلومات منه إلى سواه! ويصبح المراقِب الذي لا يقوم بذلك، ولا يسمح به، أو لا يسهّل أمره “ابن حرام!” وينبذ في القاعة، والمركز الامتحانيّ، وفي مقرّ إقامته؛ هذا إذا لم يتعرّض للتهديد والأذى! والعذر الأقبح من الذنب، الذي بات يتداول به أكثر من سيرة الطقس، أنّ هناك ما هو أكثر من ذلك، وأفظع، يحدث في مناطق أخرى ساخنة أو غير آمنة! إنّه يشبه تناول جرعات من السمّ القاتل بطيب خاطر، لأنّ هناك من تسمّم وبات على شفير الموت!
في تقديري، إنّ هذا هو الشرّ المطلق، وهو انتحار بطيء، وبكامل القوى العقليّة والأهليّة القانونيّة، وهو استغراق في الهوّة الموغلة في الظلمة، أو في جورة الفضلات!
لا شكّ في أنّ هذا البلاء، لا يقتصر على هذا الجانب من العمل العام؛ لكنّه المؤشّر الأكثر إيلاماُ، وإذا كان الوجع- وما يزال- منبّهاً لخلل في مكان ما! فإنّ انبعاثه الحادّ من كلّ مكان، يؤكّد تغلغل المرض الفتّاك، وانتشاره الوشيك، عن طريق “الناجحين” بهذا الأسلوب، الموغلين في براثنه، في مختلف عناصر الجسد؛ فمن سيتداعى، ليسهر عليه بالسهر والحمّى؟!
هي صرخة، أو أنّة، أو نفثة، أو زفرة… قبل طلقة الرحمة!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموارد العدد 11 السنة 3
تاريخ النشر: 2016-09-01