الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2014-02-26

يمكنكِ أن ترتاحي؛ فقد عاد ابنك أو جزء منه،ورُفِعَ على الأكفّ والأكتاف ملفوفاً بالعلم الوطني، ومشى النّاس معه إلى مثواه الأخير، واحتضنه ترابنا، وتعرفين مكانه؛ يمكنكِ أن تزوري قبره، وتذرفي عليه ما شئت، ومتى تشائين.. أمّا أنا!!

تقول أمُّ مخطوفٍ مُعزِّيَةً، وتؤكّد زوجةٌ ثكلى، وتتردّد في الأسماع أصوات أخرى: هنيئاً لمن يحصّل أثراً من فقيده، ومحظوظ من يجد من يقبره!‏

مع ذلك، وعلى الرّغم من كلّ هذا الذي يجري في الدّيرة السوريّة، وغيره كثير، ومع تكراره واستمراره، لم تفتر الحماسة إلى البذل والتضحية، ولم يخفّ الاندفاع إلى ميادين العطاء والوفاء. لا شكّ في أنّنا نشهد موسم الفقد العزيز؛ فلا الحزن ينقطع، ولا مواكب التّشييع تتوقّف أو تتفرّق، حتّى لا تكاد تميّز مُحَرِّكَ احتراقِ جمرك المصطلي،ولا تستطيع أن تحدّد مُوَرِّدَ إشعاعِ ألَمِكَ النّبيل!‏

حطّ الموت رحاله في الرّبوع، وأقام الخِيامَ من خُمُرِنا الملوِّحة وكوفيّاتنا المُمَلَّحَة، ودُقّتْ أوتاده في أديم أجسادنا، واستطاب مُقامَهُ في فضاءات أحلامنا، وأحياز آمالنا. وعلى العكس من نظريّة العرض والطلب، وبما يخالف ما يُعرَفُ في «سوق» الحياة، منْ أنَّ ما زاد حضوره، احترقت أوراقه، وقلّتْ قيمته، فقد تكاثف الموت، ولم يرخص؛بل تضاعف معناه، وسما قَدْرُه؛ ولا سيّما إذا ما كان موتاً في سبيل الوطن، ومن أجل الأرض والعرض..‏

حتّى الموت العاديّ لم يعدْ عاديّاً؛ فالحاجة إلى الأحياء تزداد، وأهميّة الحياة تتعالى؛ لأنّ الحياة تتعرّض للانتهاك في مظاهرها وعمقها وعناصرها وجدواها.. هناك من يستهدفها أينما كانت، وحيثما نبتت، أو يمكن أن تنبت؛ لا يتعلّق الأمر بالبشر فحسب؛ بل يشمل المخلوقات الأخرى؛ دوابّ وزواحف وسابحات، حتّى الأشجار والمواسم والحقول والمراعي ليست في مأمن.. وهذا ما يجعل من الأحياء ثروة مضاعفة القيمة، ومن حيواتهم رصيداً مهماً، تنبغي المحافظة عليه.‏

نعم؛ صارت المصاعب التي نشكو منها أكبر، والنّكبات أوسع مدى، وأوغلَ حدوداً، والقهر في تَنَدُّبٍ، والخيبة في تَخَثُّر، والجراح خنادق،والآلام أنفاق..‏

ولو قُدّرَ لأحدِنا من الوقت والإرادة ما يستطيع فيه مراجعة ما كان يتذمّر منه، ويتبرّم، ما قبل المصيبة هذه التي نعيش، لوجدتَه ضاحكاً من نفسه، خجلاً من تمرّداتها، لائماً عاتباً.. على ما ضيّع من أوقات، كان يمكن أن يفرح فيها، وعلى ما أهدر من فرص الغبطة وراحة البال له ولسواه، ولَخَجِلَ أكثر من تقصير في تحصين، وتردّد في ترميم، وتأخّر في تجديد، ما سهّل نفاذ الروائح الكريهة، ووصول الرسائل الآثمة، ودخول الحشرات المسمِّمة، وتحريك الشوائب المعكّرة، وأسهم في نموّ الطفيليّات، واستيطان الصّنوف المعفّنة من كائنات تحاول أن تسود وتهيمن، وتراهن على البثور، وتمارس الحقد الأسود، والتّجريم والقتل والتّهديم!‏

ولأنّ الزمن لم ينتهِ، والكائن الأصيل لم يمتْ؛فإن المطلوب استثمار كل ما بقي من رصيد، واستنهاض أيّ قوة أو شحنة أو شعاع؛ لكن.. ما تزال إمكانيّات مهمَلة، وطاقات محيَّدة، ومشاريع مُرجَأَة! وما تزال أخطاء تُرتكب، وكنوز تضيّع، وما تزال مسارب ومهارب، ومخارز ومفارز!‏

مَنْ كانت لديه الجرأة، فليعترفْ بما أَثِم، وليقرّ بما ظَلَم، وليعتذر حتّى بينه وبين ذاته، ولا يكرّس وقته وجهده لاتّهام الآخرين؛ ومن يمتلك الشّجاعة فليقرّر التّوبة والعودة إلى الحضن الأدفأ، والموئل الأكلأ، ويسهم في إعادة الحال إلى أفضل ممّا كانت عليه، ولا يكتفي بالنّدب والعويل والدّعاء والرّجاء.‏

إنّ قيمة الحيّ الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، ليست في عمره، ومُلكه، ونسبه، وانتمائه؛ بل في ما يمكن أن يقدّمه للخروج الحقيقيّ من الأزمة، وما يستطيع أن يفعله في سبيل الآخرين؛ بل في سبيل نفسه، وكيانه الذي لا يعود له معنى، إذا ما افتقد الآخرين، وعزّت وشائجهم، وابترد تواصلهم؛ فهو في قفر، حتّى لو كان في فنادق ترطن بلغات أخرى، وتحتفي بكيانات أخرى؛ فكما صار الحزن جمعيّاً، صار الخلاص جمعيّاً، ومثلما صار الوجع يوزِّع أشواكه على كلّ بيت، وتهيمن المرارة على النّاس كلّ حين، ويخيّم الحِداد في كلّ حيّ..فقد صارت المواساة فرضاً أخلاقيّاً، وطقساً جمعيّاً، لكي يجد المرء من يؤويه، ويدفئه، ويؤمّنه من خوف وقلق وأرق.. قبل أن يبحث عمّن يجالسه، ويؤانسه، ويوافيه، وقبل أن يطمئنّ إلى أنّ هناك من يمكن أن يقبره!!‏

اترك رداً