الفئة: شهادات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموقع الرسميّ للأديب المهندس غسان كامل ونوس
تاريخ النشر: 2020-03-17
رابط النص الأصلي: 

شهادة حول الرواية والمؤثّرات الأجنبيّة

كائن.. وأصداء ما وراء الأكمة

– هل قرأت الرواية (…)؟!
– قرأت قسماً كبيراً منها.
وابتسما بشهيّة..
كان الفضاء المحصور في الغرفة الواسعة من البيت الطينيّ مدخّناً، وكنت أتابع الحوار باهتمام لذيذ، ككلّ الحوارات والأحاديث المشابهة، ولمّا أتجاوز الثانية عشرة.
– يعني قرأت ما في الصفحة (28) وما تلاها؟!
– طبعاً..
وبصوت خافت، بعد أن اغتمزا عليّ:
– وفي الصفحة (…) ماقبل النهاية بقليل؟!
– لا.. لم أنهِها بعد؛ هذا يعني أنّ الرواية دسمة!
انتظرت مغادرتهما بضاغط الاكتشاف والمتعة..
الرواية هي (امرأتان) لـ (ألبرتو مورافيا).
في الصفحات المذكورة أوّلاً، لقاء رغبة بالتراضي على أكياس من الفحم، وفي الصفحات الأخرى، اغتصاب امرأة شابّة، ومحاولة اغتصاب فاشلة لامرأة كبيرة، من قبل أربعة جنود، على هامش حرب ما.
كثيرة هي الكتب، التي كان يحضرها أخي (محمد) من دمشق، في سفراته إليها آناء دراسته الجامعيّة؛ مفضّلاً ذلك على ما لا يحصى من حاجات له ولنا، في مقدّمة تلك الكتب روايات الجيب؛ يلقيها في حضني، ويقول:
– اقرأها، ودلّني على أفضلها؛ لأقرأه على مسؤوليّتك!
كنت أنتظرها بلهفة، لا تقلّ عن لهفتي لأيّ غرض أحتاج إليه، وأسعد بها وبمهمّة التقويم، التي توحي بالكثير من الثقة والتحفيز؛ حيث تطوف الروايات التي أقرّها على أكثر من قارئ في القرية، التي يتبادل بعض أبنائها الكتب باهتمام.
الرواية الأخرى التي قرأتها لمورافيا أيضاً كانت: “الانتباه”، ولم تشدّني كثيراً؛ على الرغم من احتوائها على مشاهد مماثلة!
إذ لم تكن الحالات هذه فحسب، هي التي أتابعها، وتلفت انتباهي في الروايات المترجمة، ولم تكن جديدة على قراءاتي؛ فقد ورد ما يماثلها ويزيد في عشرات الليالي من ألف ليلة وليلة؛ بنسخة غير مهذّبة، وفي المجلّدات الأربعة لسيرة الملك سيف بن ذي يزن وسواها، قبل ذلك، وبعده.
وبعد أن اكتشفتُ مكتبة المركز الثقافيّ العربيّ في صافيتا، وقد انتقلتُ إليها في بداية المرحلة الثانويّة، بدأ نهم القراءة يتناول أيّ عمل أدبيّ عربيّ أو مترجم، وكانت فرصة مهمّة لمتابعة الأدب العالميّ؛ على تنوّع مؤلّفيه ومؤلّفاته.
لم أكن أختار كتاباً محدّداً، ولم يكن من يدلّني! وأفكّر الآن أنّ ذلك كان حسناً، من دون أن يكون مقصوداً؛ وكما في كلّ قراءاتي وكتاباتي التالية، لم يكن أمرّ مفروض يهيمن على تفكيري، ويُلزمني باتّباع خطّ معيّن أو نموذج محدّد، أو متابعة قضيّة طاغية؛ سواء في جنس الكتابة أو موضوعها.
وربّما كان- وما يزال- ما يثير اهتمامي في تلك المؤلّفات العديدة، تلك الأريحيّة في تناول القضايا، التي تبدو كبيرة، لشابّ ينمو في بيئة، تصرّ على التفريق بين الحلال والحرام على طريقتها، وتَدِلُّ على أنّ كثيراً من التصرّفات والأفكار، التي تظهر بصورة طبيعيّة، في تلك الكتب هي ممّا لا يجوز، وأنّها من خصائص أولاد السوء!
وصار ممكناً تصوّرُ أفكارٍ، تلحّ على كائن في شبه عزلة في حارة متطرّفة، أو في غرفة مستأجرة، ويسهر الليل وحيداً مع مذياع وقراءات متنوّعة، وصار شبه طبيعيّ التعامل مع رغبات واحتلامات ونزوات، لا يقبلها المربّون الصارمون، أو لا يفهمونها، على الرغم من أنّهم يمارسونها بكل إقدام واهتمام.
كما صار اعتياديّاً، أن يتحوّل كثير من المشاعر إلى وسواس قهريّ، أو يؤول عديد من التساؤلات الملحّة إلى اكتئاب! حتّى الأحلام، التي تشكّل الكوابيسُ نسبة مهمّة منها، يمكن أن تجد لها مخرجاً أو تفسيراً (كما يقول فرويد)، أكثر من حكايتها للشمس أوّل طلوعها وحيداً؛ كيلا تتحقّق، أو يصيبَك منها أذى!!
ومن المفهوم أن تغدو حياتك التي تنمو، وحولك مزيد من الكائنات، التي تفرح وتبكي، تغنّي وتنوح، ترقص وتندب، تشعل الأعراس أيّاماً، وتقرأ على الأموات ما تيسّر من الذكر الحكيم، تسافر خارج الحدود؛ للتزوّد بما يقوت، أو تقعد تنتظر المواسم، وتعدّ الفصول، وتنادي البعيد في جرّة الملح، وتقرأ في “الدليلة” ما يعنيه خسوف قمر، لا بديل عن ضوئه للمساءات والليالي، أو كسوف شمس مليكة النهارات وسيّدة الأوقات.. من زيادة في الزرع والضرع، وفائض في الزيت، ومطر مدرار، أو شحّ وفقر وجائحة، وموت ملك في الشرق أو الغرب، وحروب ودماء ومجاعات..
من المفهوم أن تطغى أسئلة عن سرّ ذاك وسببه، عن غايته وجدواه ومنتهاه!
أسئلة لا تجد أجوبة ولا أصداء، ولا أوقاتاً للتفكير لدى الآخرين؛ هم الذين يبدّدون الوقت المديد في حكايا الأوّلين والآخرين، وقصص المعاصرين، ومشاكل الخلق في كلّ اتّجاه. أو يتندّرون ساخرين من أشكالهم وأصواتهم ألقاباً ومنادماتِ عتابا، قد تنتهي إلى عراك وخصومات.. أو يلتفتون إلى أمّ الزلف لوماً وتأنيباً وعتاباً موجعاً على جحودها ونكرانها، وسوء تقديرها للظروف، وكارثة خياراتها!
أسئلة، يمكن أن يوجد مثيل لها في كتب، يقرؤها ذلك الفتى الملحاح حتّى على سماع أيّ حديث، يحاول مجانبة آذان الأطفال، أو تفسير أيّ صوت أو صدى، قد يأتي من ثنايا العتم المتراكم في جهات موحشة أصواتاً برّيّة، أو مسيل مسكون بنداءات وحكايات جنّيّة، أو يتكاثف في زوايا تحتضن لقاءات خصوبة شرعيّة متخفّاة، على الرغم من ضعف السواتر، واتّساع شقوق الأبواب، وهشاشة حواجز القماش، أو الأغصان في الأكواخ المنصوبة على الأسطح والمصاطب.. وعلى الرغم من عدم كتمان الأسرّة، التي تزقزق بنشوة، أو تَصرّ بنفور!
أجواء خاصّة، تواكب تفتّح أشياء كثيرة، لدى كائن مستوحد، تؤجّجها تفتّحات الطبيعة، التي تجاهر بانبعاثها مروجاً مخضرّة، ولوحات أزهاريّة في كلّ فجّ؛ مهيّجة لهفة وحماسات وحواساً مستفزّة، تاركة “ما وراء الأكمات” لاختبارات الحاسّة السادسة؛ لو تكفي! لكنّها في الوقت ذاته، أجواء عامّة، يعيشها الآخرون في القرية والقرى المجاورة، وحتّى في المدن البعيدة كبيروت وطرابلس، وحمص وحلب ودمشق، تلك الحواضر، التي يؤوب منها المسافرون بحكايا مزهوّة، وقضايا غنيّة، تفسّر عودتهم السريعة إليها، وتحفّز سواهم لترك كلّ شيء، والمضيّ إلى هناك؛ على الرغم ممّا تبيّن لاحقاً؛ من أنّ أكثرهم يعيش فيها في غرف مكتظّة، أو بيوت خشب أو صفيح، على نواصي الشوارع وأطراف الحدائق العامّة والخاصّة، أو في بيوت قيد الإنشاء، وفي أعمال لا تنسجم مع مظاهرهم، وقد لا تليق!
لكنّ هذا الشقاء العذب، يمكن ألّا يكون غريباً تماماً؛ فهناك ما يماثله في بلاد أبعد ويعيشه “أوليفر تويست” و”جان فالجان”، وهناك الطاعون، وفيضانات الهند، وشقاء السهوب الفسيحة في آسيا الوسطى، والأطفال الذين يموتون في البحيرات، وحكايا الحروب المجنونة، الحرب والسلام، وسقوط الباستيل، وحروب طروادة، والحرب الأهليّة الاسبانيّة؛ حتّى إنّك لتعجب أو تنتظر مع همنغواي لمن تقرع الأجراس؟!
وهو يجعل الحياة مرتهنة لكلّ تلك الحروب، وحروب أخرى مقيمة؛ نتيجة العدوان المستمرّ على أمّتنا العربيّة، المتمثّل باحتلال فلسطين، وأجزاء من الأقطار الأخرى من قبل الصهاينة أعداء الإنسانيّة، ولا يتوقّف خطرهم؛ بل يتواتر كلّ حين، ما بين عدوان على مصر العام (1956م)، تأثّرت به سوريّة، وشاركت شعب مصر الشقيقة مقاومته؛ عدوان عاش الكائن أصداءه عبر والده والآخرين، وعدوان أكبر وأقسى في حزيران النكسة، وتواصلت السلسلة بالحرب في لبنان وعلى لبنان والقوّات السوريّة فيه، ومجازر صبرا وشاتيلا؛ كما كانت إشراقات مهمّة كحرب التحرير الجزائريّة، وانطلاق الثورة الفلسطينيّة، وحروب الاستنزاف في الجولان وقناة السويس؛ إضافة إلى حرب تشرين التحريريّة. وهذا ما يجعل الحياة مشغولة بها ومنشغلة بالسَّوق إلى الخدمة، أو التطوّع في الجيش، أو استدعاء الاحتياط، أو الاحتفاظ المديد بمن أتمّوا سنين الخدمة؛ ممّا يجعل القلق مسيطراً، وفرص التأمّل تضعف إلى أويقات مسروقة من عمر التنهّدات والانتظار الممضّ لفَرَجٍ يتأخّر..
كلّ ذلك يمكن أن يسهم في تفسير كثير ممّا يجري، أو يمكن أن يجري، من دون أن تستطيع تسويغه!
فأن تتشارك والآخرين فصول الشقاء، ومواسم الحرمان، وتضاريس الحياة العصيّة وانعطافاتها الحادّة، لا يعني أنّك قبلت بخياراتها، أو رضيت بما فصّل لك، وانتهى الأمر!
ولا يمكن السكوت عن سؤال بدا ملحّاً، لا تني تردّده فتاة رواية فرنسيّة من دون أن تجد جواباً:
– لماذا نحن موجودون؟!
سؤال ردّده الكائن الفتى الذي كنته قبل ذلك، ومنذ سنّ العاشرة أو يقلّ:
– لو لم تكن هذه الحياة، ماذا يمكن أن يكون؟!
سؤال ما انفكّ يقضّ المضاجع الشائكة أصلاً، ولم تروِ ظمأ الكائن كلّ حكايات المعجزات، وكلّ تكهّنات البدايات، أو تسليمات المؤمنين، ولم تقنعه قصّة التفّاح المسروق، والكائن الخطر الذي خلق من ضلع آدم، والشيطان الذي رفض السجود لآدم، والطوفان المشهور، وجنان الخلد الموعودة… وراح يتأرجح بين بحث طفوليّ مشبوب عن متّكأ لهذا المنزلق، الذي يحدث، ويعيشه، أو ردّ فعل لسبب أو أمرٍ أو مصادفة.
وهو يرى أنّ من حقّه؛ وقد وُجد، أن يفتّش عن مسوّغ؛ بل إنّ من واجبه؛ وقد صار له عقل، أن يستخدمه أقصى ما يمكن، لا أن يعقله، ويتوكّل!
هذا ما كان يجيب به من يحاورونه، ويؤكدون أن لا مناص من التسليم؛ فهل كان يحاول عبثاً خرق الممكنات، والخروج عن الحدود المرسومة له كإنسان؟!
وهل هو الوجه الآخر لتعبير فكّر فيه طويلاً:
“الإنسان إله في صندوق”؛ كما جاء في أفكار كولن ولسون؛ فهل كان حالماً؟! أم كان ذلك مدخلاً لبحث يستمرّ طويلاً عن الانتماء.. هذا الانتماء، الذي طاف عبر ضفافه كـ”غريب” مع “ألبير كامو” ومستفسر مع شخوص “دوستويفسكي” ومحاكماتهم، وتمادى في البحث مع “يونغ” و”فروم” وآخرين.. ذلك الانتماء، الذي سيفسّره بعد حين بمقطع شعريّ، لعلّه خلاصة البحث أو التفكير أو العجز:
“كما
في الدوار
الأمان
وفي الرعشة
الانتشاء”
فهل هي النتيجة المقنعة؟!
وها هو اليوم؛ كما في كلّ ما كان، يمضي متسائلاً بإلحاح، لم يهدأ عن كلّ شيء، وهو ينظر إلى الخلف؛ ليتساءل بتعجّب عن حقيقة تلك السنين الطويلة، التي مضت، وفكّر في أكثر من منعطف، وأكثر من يأس في إنهائها، لو كان يستطيع؛ لكنّ جرأة همنغواي واليابانيّين، والأدباء منهم خاصّة، فاتته؛ مسوّغاً ذلك بجواب حكيم سئل:
ماذا تفضّل: الحياة أو الموت؟!
فأجاب: سيّان عندي.
فعاجله السائل: لماذا لا تنتحر إذاً؟!
فقال الحكيم بهدوء: وهل قلت لك إنّ الموت أفضل؟!
فهل بدت آثار ذلك البحث في ما كتبت؛ سواء أكان في الشعر أم القصّة أم الرواية؟!
إنّها أسئلة لا إجابات، احتمالات لا يقينيّات؛ لكنّها لا تعدم مشروعيّتها من خلال انطلاقها من شروط الحياة وعناصرها؛ الحياة التي تعاش، وتعايَش فيها كائنات مختلفة، بعضها عاقل، وآخر غافل؛ تُرى.. أيّهما أسعد؟!
ذلك سؤال يحمل إشارة مهمّة إلى أنّ وراء الأكمة ما وراءها!

ولم أزل في مشروعي الروائيّ، أبحث عن متنٍ يحمل مزيداً من الأسئلة، مزيداً من المحطّات، التي يمكن أن تستقرّ فيها القدم التي لا تهدأ..
فما يثيرني في عمل أدبيّ أقرؤه، تلك الأفكار المتضمَّنة، وتلك الآفاق، التي يمكن أن ينطلق القارئ نحوها؛ ليشرف من خلالها على مدارات أخرى، قد تقود إلى سعة في قابليّة المضيّ إليها، وتحفيز لاكتناهها؛ سواء أكان ذلك عن طريق حوارات، أو سرديّات، تلخّص تجارب، وتبعث قضايا؛ أو عن طريق تساؤلات صريحة أو مبثوثة عبر ثنايا النصّ..
والشخصيّات يمكن أن تكون حيّة لا ترضى، أو تموت رفضاً أو إحساساً، فتترك صدى لا ينوس، ويمكن أن تكون حيّة مستسلمة لقدر قد لا يكون عادلاً كلّ حين، ولا يترك موتها قيمة تؤثّر، وشتّان بين الحالين!
هل كان الكائن ابن الثانية عشرة خجلاً من دموعه، التي بلّلت وسادة القشّ، وساعات الليل الصقيعيّة في بداية العطلة الانتصافيّة؛ لأنّه سيفارق معلّمته أسبوعين كاملين؟!
هل كان يقنع الآخرين، مهما كانوا قريبين، فيما لو تحدّث عن أنّ هذا الحزن هو بسبب ابتعاده عن المدرسة والدروس والزملاء؟!
هل كان أوّل حبّ بأيّ مفهوم غير عاديّ للحبّ الأسرويّ!!
أم كان خوفاً من أن تكون معلّمته، لا تبادله الشعور ذاته؟! وليس بإمكانه التأكّد، بالرغم من أنّها تلاطفه كزملائه، وربّما أكثر!!
ما من سبب يدعوه للخجل من ذلك!
هذا ما يكتشفه، أو يسوّغه لنفسه؛ فها هي علاقة حبّ عاصف بين طالب ومعلّمته في رواية، تصل فيها تلك العلاقة إلى “الموت حبّاً”؛ كما يكتب “بيار دوشين”! ربّما كان الطالب أكبر منه بقليل، والمعلّمة أصغر منها بقليل، لكن العاطفة لا تتجزّأ، والمشاعر لا يمكن تفصيلها حسب العمر والصفّ والأسرة والمجتمع والقانون..
إلى أيّ مدى كان التأثّر بكلّ هذه القضايا؟!
ممّا لا شكّ فيه، أنّ القارئ المتابع، هو الذي يمكن أن يشير إلى ذلك، أو يحدّده؛ لكن يمكن القول إنّ الأثر الإيجابيّ المهمّ، هو عدم وجود عقدة، أو امتناع قسريّ عن الخوض في أيّ موضوع؛ بل إنّ الأريحيّة المتمثّلة بإمكانيّة التفكير أوّلاً، وما أسميها عادة بالحرّيّة الذاتيّة، التي تتيح للمرء العاديّ أن يفكّر بلا قيود؛ ناهيك عن الكاتب أو الأديب.. أو المبدع! إنّ هذه الحرّيّة، تتيحُ أيّة احتمالات ممكنة للتحرّك والإشارة والتلميح، والنظر إلى القضيّة المطروحة من أيّة زاوية، وهذا لا يؤدّي بالضرورة إلى أن تكون الفجاجة سمة التناول، أو أن تكون المباشرة عنوان التعامل؛ بل إنّ استخدام اللازم لتقديم المطلوب بالطريقة الأكثر إقناعاً، هو الذي يعنون مثل هذه الحالة، وفي هذا نضوج وثقة وخبرة!
أزعم أنّي أحاول أن أدبّ وفق هذا المسار، من دون إفراط في تقديم الشواذات، ومن دون خوف، أو إحجام عن الاقتراب من بعض الحالات النفسيّة، التي قد تبدو غريبة مع ظلالها، التي تمتدّ إلى زوايا معتمة، يمكن أن تضاء، برغم ما قد يرى بعض من حرج في ذلك.
وهناك القضايا النفسيّة ذات البعد الفلسفيّ والمؤثّرات الاجتماعيّة، وأسئلة كثيرة، ومشاهد، تستدعي تساؤلات أخرى، مع رغبة دائمة في إغناء السرد بالأفكار والإشارات والخبرات، التي تشير إلى هذا المسار الجمعيّ، الذي لا يمكن أن نسير من دون تبعاته وأصدائه..
وممّا لا شكّ فيه أيضاً، أنّ الواقع غنيّ بمثل هذه القضايا إلى درجة الغرابة؛ وهي تحتاج إلى من يتعامل معها من دون إدانة مباشرة، أو مديح فظّ، وقد لا تحتمل هذا بقدر ما هي مدعاة للتأمّل والبحث والأفق المفتوح؛ للوصول إلى أسس أو مؤثّرات، قد تكون بعيدة في غور الزمن الماضي، في مجاهيل الحياة البدائيّة، ومراحل الاستيعاب المتعاقبة؛ أو التفهّم، أو محاولة الاقتناع، الذي ربّما لم يحصل إلى الآن بهذه الرحلة الموسومة بدقّة، قد لا تستهوينا، أو قد تثير فينا الرعب أو الأمان، أو التساؤل المرّ على أقلّ احتمال. وهذا لا يمنع من أن تضاف إلى عناصر الواقع المتحقّقة، أو الممكنة التحقّق، عناصر أخرى، أو ظروف، أو أقدار، لا يستطيع هذا الواقع بشروطه الآنيّة المعروفة على الأقلّ، الوصول إليها؛ أو كائنات تختلف بتفاصيل أعضائها، بإمكانيّاتها، بقدراتها على التأثير والتغيير، عن كائنات نعايشها؛ غافلة كانت أم عاقلة، وهذا ما يؤمّنه خيال المبدع، وتفرضه، أو تستدعيه المقولة، التي يودّ أن يقولها، أو الرسالة، التي يحسّ أنّ عليه إيصالها، أو الحالة، التي يتمنّى أن يضع فيها المتلقّي؛ بحيث يمكنه مشاركته في البحث عن حلّ، أو يعينه على تسلّق درجات، لا تزال مستعصية؛ لاكتشاف ما وراء الأكمة أو الحياة!! وهذا لا يتوقّف على قوانين الحياة، التي نعرفها، أو الواقع، الذي نعيش؛ بل لا بدّ من ذلك؛ كي تزداد الإمكانيّة، من دون أن يعني ذلك خروجاً عن المألوف لمجرّد الخروج، أو تجاوز القزانين؛ لمجرّد التمرّد المشاكس، وهذا يبيّنه النصّ، الذي يظهر من خلاله الغنى المعرفيّ، والاكتناز الثقافيّ، والبعد التساؤليّ، أو الشحّ والفقر، والعجز عن المثابرة أو الإقناع!
وهذه مناسبة لبثّ بعض ما يدعو إلى الابتسام المرّ، حين تحاول تقديم نصّك للمتلقّين..
ففي الوقت، الذي يهمّ فيه ذكر أو أنثى بالاقتراب أحدهما من الآخر، ولم تكد أنفاسهما تتصاعد، حتّى تجد خطّ الرقيب يتعرّج تحتهما! فيجفلان، ويعودان إلى حرمانهما أو عقدهما المزمنة المتجدّدة، حتّى إنّك لتحسب في كثير من الكتب الأدبيّة الصادرة عن المؤسّسات الرسميّة، أنّ الكائنات “تفقّس في الجرد”؛ كما في حكاية راجح؛ وهي ليست من لحم ودم، ولم تأتِ نتيجة تقارب بين كائن حيّ وآخر..
ناهيك عن أيّة علاقات، تبدو في المقياس العام غير طبيعيّة أو مألوفة، وتظهر عليها بعض علامات الشذوذ، التي يمكن تحليلها وتسويغها، أو الكلام فيها أو عنها؛ بما يكوّن فائدة ما..
ليس هذا فحسب؛ بل إنّ الأفكار ذاتها تلك، التي يمكن أن تبعث رصيداً مهمّاً من الغنى في النصّ، وتحقّق إمكانيّة الابتعاد بآفاق استكشافيّة وتساؤلاتيّة، تحسّ أحياناً كثيرة، أنّ الأشراك في انتظارها، وتتلوى الخطوط جوارها، أو تلتفّ حولها، أو تنتشر العلامات الاستفهاميّة!
فإذا استغنينا عن كلّ هذا، ما الذي سيبقى؟!
حكايا جافّة، هياكل عظميّة، إيديولوجيا فجّة، تقارير وبيانات وخطب ومواقف!!
فهل هذا ما نطمح إليه حقّاً؟!
وهل يكفي؟!
هذا من حيث الكلام في المضمون..
ومن الطبيعيّ أنّ المضمون يفرض شكله، إذا ما توافرت الحرّيّة ذاتها فيما يتعلّق بالأداء النصّيّ، وعدم الارتهان إلى نمط أو نموذج أو حيثيّات، يعدّها الكاتب من المسلّمات أو المقدّسات..
أعتقد أنّ الحرّيّة لا تتجزّأ، والاحتمالات يمكن إطلاقها بكلّ غناها؛ لتعبّر عن نفسها بالنموذج المناسب! تقطيع، دوران، ارتجاع، تقديم وتأخير، ضمائر متنوّعة، منولوج، حوار، سرديّات.. المهمّ أن يكون الأمر مقنعاً؛ فإلى أيّ حدّ، يبدو الأمر كذلك؟!
الذي أحسبه أنّ الأشياء لديّ مفتوحة إلى أيّ مدى، يمكن أن يسهم في تقديم مادّة غنيّة، أحسّها كذلك، عبر مسار مكتنز، أرجو ذلك، وبأسلوب لا يعوزه التلوين، الذي آمل ألّا يكون ناشزاً عن اللوحة، التي أحاول أن أرسمها بنبض متوفّز، وأنفاس متوتّرة، وإحساسات لا تنوس.. تلك اللوحة، التي آمل مرّة أخرى وأخرى، أن تكون ممكنة القراءة بمتعة وجدوى..
***

اترك رداً