سلاسة العظمة وغنى البساطة
بين
الحلم والذكرى
الرحلة العجائبية إلى الصين الشعبية
18-29/حزيران/2009
غسان كامل ونوس
أية رحلة أو مغامرة، أية متعة وإثارة؟!
خمس مطارات وست طائرات، وأكثر من ست وعشرين ساعة تحليق بين ثلاث عواصم (دكشق- الدوحة- بكين)، وثلاث حواضر صينية (بكين- شي آن- شنغهاي)، وأربع لقاءات ثقافية، وعجائب ومعالم سياحية تاريخية ومعاصرة، وأسواق شعبية ومترفة.. ومشاهد وأحداث وتفاصيل وطرائف لا تنسى!
أي حلم كان وأية ذكرى..؟!
أمنية تتحقق، وحضارة تُتَقرّى، وبلد يزار.. وأي بلد، وشعب عظيم يعيش الحياة بسلاسة، ويمضي في شعابها بيسر وثقة وإتقان وأمان؛ ربع سكان العالم (1.3) مليار إنسان، يتوزعون على (9.6) مليون كم2، في أربع وثلاثين مقاطعة، إضافة إلى أربع مدن تتبع الحكومة المركزية مباشرة: (بكين) العاصمة السياسية، و(شنغهاي) العاصمة الصناعية والتجارية، و(تشوم تشي) لأهميتها الاقتصادية، و (تيان جين ) جوار بكين أماناً واطمئناناً.
بلاد تضم عجائب مسجلة أو غير مسجلة، قديمة وحديثة؛ ابتداء من مطار بكين الطائر المجنح، الغائص طبقات تحت الأرض، وتحتاج فيه إلى قطار لتصل من مكان الهبوط إلى موقع استلام الحقائب، فالخروج إلى رحابة الأرض والإنسان؛ ومروراً بالقصر الامبراطوري، وسور الصين العظيم في (بكين)، ومتحف الجنود والخيول الصلصالية والمسجد الكبير في (شي آن)، وساحة الشعب وبرج لؤلؤة الشرق في (شنغهاي)، وعجائب أخرى تتوالى كل يوم وفي كل مكان.. وانتهاء بمطار (بو دونغ) في شنغهاي الذي يقترب عدد بواباته من الثلاثمئة، ويتطلب الانتقال فيه استخدام مسارات أفقية آلية على إيقاع سقسقة المياه من نهر (هوانغ بو) تتنزل على جدران جانبية متعالية خلف ستائر شفافة، تشاغل العابر عن طول الطريق، فيستزيد من السحر والدهشة والمتعة..
سباق اللهفة والزمن:
لم يكن هيناً عبور الساعات المسائية التي تزيد عن خمس في قاعة (تحويل الرحلات) المترامية في مطار الدوحة الدولي؛ حيث وصلنا في الثامنة مساء الخميس 18/6/2009، لكن ترقب الرحلة المغامرة، والرغبة في التعرف إلى عناصرها، واللهفة إلى التقاط أصدائها، والمضي في تفاصيلها وأركانها، خففت من وقع الزمن البطيء الذي تشاركنا فيه مع حشد كبير من البشر المترقبين مواعيد مختلفة وجهات متعددة، بسحنات متنوعة وأعمار متفاوتة وملامح متقاربة أو متباعدة، وتشاغلات تراوحت بين النوم القلق والحديث بلغات ولهجات، والاستغراق في حواسيب محمولة، والتحرك إلى السوق الحرة، أو الحمامات، أو البوفيهات، أو غرف الاسترخاء، أو المسجد، أو البوابات العديدة التي تواصل الإذاعة الداخلية المناداة بإلحاح وبأكثر من لغة للتوجه إليها؛ حيث تهم الطائرات بالإقلاع تباعاً.. حتى كانت الدعوة التي تخصنا إلى “القطرية” الأخرى التي ستتوجه إلى (بكين) في الواحدة والنصف ليلاً.
الحركة دائبة، والخزائن فوق الرؤوس تكاد تغص بالأمتعة، ويستقر قسم منها تحت المقاعد التي تُشغل باطراد. ازدحام غير مريح في رحلة تتطاول: مقعدان في كل جانب، وأربعة في الوسط، وصفوف متتالية في هذا الجزء المخصص لهذه الدرجة الأولى، وهناك درجات أخرى أكثر رفاهة وراحة..
الطائرة التي أقلعت بنا من (دمشق) إلى (الدوحة) لم تكن أقل أناقة وازدحاماً، رغم مقاعدها الستة الموزعة على الجانبين في كل صف، فحجمها أقل وشاشاتها ومواصفاتها الأخرى.. ربما.
حركة المضيفات بأناقتهن وابتساماتهن أسهمت في تسارع الاستعداد للإقلاع، والانشغال مع الشاشات في خلفيات المقاعد، وفي أماكن أخرى منظورة، تبث التوجيهات والإرشادات والتنبيهات لمواجهة مختلف الحالات والاحتمالات، مع الأمنيات والدعوات ألا تحدث.
وبدأ السباق الأهم مع الزمن.
وجبة وشراب ونعاس ورقاد، ووجبة أخرى.. وتشاغل بما يمكن للشاشة أن تبث بتحكّم عبر جهاز في ذراع المقعد؛ تتبّع مسار الرحلة الماراتونية وموقع الطائرة فيه لحظة بلحظة على خارطة مضاءة، مع مختلف المعلومات: السرعة، الارتفاع عن سطح الأرض، درجة الحرارة في الخارج، سرعة الرياح الخلفية، المسافة الكلية، ما قطع منها وما تبقى، الزمن الكلي وموعد الوصول المتوقع؛ أكثر من سبعة آلاف وستمائة كيلو متر، ستقطعها الطائرة في سبع ساعات ونصف الساعة؛ أي أن الوصول سيكون في التاسعة صباحاً. اللهفة تسابق الزمن، وتتغلب على المخاوف التي تنتابك، وأنت تحلق في الفضاء؛ ففي الأمس القريب كان البحث ما يزال محموماً في المحيط الأطلسي عن حطام الطائرة الفرنسية، وبقايا ركابها المسافرين من البرازيل في رحلتهم الأخيرة. فأين ستتناثر الأجساد إذا ما وقع المحذور؟! في البحر أم فوق اليابسة، وأي يابسة؟! جبل أم غابة أم أرض زراعية أم صحراء؟! وما الفرق؟! وما الفائدة إن وجدوا شيئاً منك أم لم يجدوا؟! لا بأس؛ فالمغامرة تستحق، ولست وحيداً، فهذا الحشد المتنوع يرتبط مصير أفراده جميعاً بمصيرك، ولو إلى حين! وكم من الطائرات تقلع وتهبط وتجوب الفضاء القريب من الأرض في كل لحظة ومكان من هذا العالم، وما تحمله من أوزان هائلة: الكائنات المئات وأغراضها، الوقود والمحركات والهيكل والأدوات؛ أي إنجاز إنساني عملاق؟!
القلق يتنازع اللهفة، الترقب يغالب الغفلة، الأفكار تشاغل المسافر، والشاشة التي يمكن أن تتابع فيها الأفلام والبرامج والمعلومات، عبر أقمار الفضائية أنت أقرب إليها الآن من أي وقت مضى.. لكنك لست في راحة للتفكير في ذلك، ولا لمتابعتها أو التسلية ببعض الألعاب.. رغم أن بعض جيرانك يقوم بذلك، والآخرون في النوم يغطون!
تحاول الاهتمام مجدداً بمتابعة ما في خلفية المقعد أمامك من كتب إعلانية، وحقيبة قماشية صغيرة فيها أدوات شخصية ضرورية قد تكون نسيتها: فرشاة أسنان صغيرة ومعجون ضئيل، جراب أحمر إذا ما رغبت في خلع الحذاء، سماعات للموسيقى التي تبث من ذراع الكرسي، وفي المقعد وسادة صغيرة، ويمكن أن تحصل على غطاء توزعه المضيفات على من يحتاج إليه. وعليك أن تجيب على سؤال يتعلق بالوجبة التي ترغب بها من بين نوعين اثنين، وأن تحدد فيما إذا كنت تفضل الاستمرار في الرقاد بلا طعام؛ اترك لصاقة تشير إلى ذلك، ثبتها فوق المقعد جوار رأسك المتعب.
ها هي الأعواد التي سترافقك لدى كل طعام، ستحاول التعود عليها، لن تقوم بذلك الآن، فالحيز المكاني والنفسي لا يسمح بأي خطأ.
تتحدث إلى مرافقيك في الوفد بانشغال وتحفز، وتعود إلى نفسك تتفكر وتتأمل، تتناوب السهو والصحو.. ها هو الضوء يتسلل من النافذة الجانبية، أنتم في الوسط بعيدون عنها، الضوء يتزايد بعد قليل من ساعات تحليق أطفئت فيها الأنوار بناء على توصيات سلامة الطيران، كما صرحت بذلك المذيعة الداخلية.
هو الصباح إذن؛ أين نحن الآن؟! صباح أو نهار، الساعة الآن تقترب من الظهيرة، خمس ساعات خسرناها في فروق التوقيت بين (دمشق/الدوحة) و(بكين)؛ زمن مهم نحتاج إليه في أيامنا المعدودة، خسارة موصوفة محسومة، سنربحها في طريق العودة.. نظرياً أو تخفيفاً عن الفقد المرّ!
اللهفة تشرّق، والزمن يغرّب؛ أين التقيا؟ متى تم التجاوز؟! من قام بالمراسم، وأشرف على المناسبة؟! ليس من مجيب ولا فائدة ولا جدوى، فلِمَ نضيع المزيد من الوقت بالتساؤل والتفكير؟! لنهبط إذن!
لا.. لا بد من الانتظار أيضاً لفحص مريع بمسدس أشعة يسدد على الجبين مباشرة، لفرز المصابين بانفلونزا الخنازير!
إنها الثانية والربع ظهراً من يوم الجمعة.. ها قد أصبحنا على أرض المطار، إنها (بكين)؛ نرددها لنصدق أن الحلم يتحقق؛ العكارة تلف الآفاق، الغبار يهيمن، فنخسر المشاهد الأولى أيضاً من رحلة العمر، الغبار حتى في (بكين)! كنا نعاني من ذلك في سورية، وقد تكاثرت زياراته القاتمة إليها هذا العام؛ حتى أنت يا (بكين)! لا بأس، لم يخفِ الغبار، ولن يخفي مهما تكاثف، عظمة هذا المطار العملاق؛ مظلة معدنية محلقة، وأعمدة دائرية ملونة تسندها بميلان مثير، وأدراج آلية متعالية إلى مسار طويل تحس فوقه أنك تسير في الفضاء.. أشكال متمايزة الميول من أسقف معدنية، تتصاعد وتنحني، تتلاقى وتفترق، متباعدة الاستناد شاسعة الفضاءات.. توحي بالمهابة والعظمة؛ هذا الإحساس الذي سيرافقك ويترسخ مع توالي مراحل الزيارة المميزة.
بعد الكثير من الأخذ والرد، والانتقال من مكتب معلّق إلى آخر، والإحالة إلى موظفة هنا وموظف هناك لتعبئة استمارة أو أخرى، نتيجة عدم القدرة على التفاهم، لأن معظمهم لا يتقنون سوى الصينية التي لم نتقنها بعد! أو لأننا لا نجيد الانكليزية أو سواها كما يجب!
هبطنا آلياً بلا دليل، لكأن المسار معروف، وإلى قطار، بعد أكثر من سؤال عن الحقائب، صعدنا مع الصاعدين، وبعد كيلومترات عديدة نزلنا إلى قاعة ضخمة وبهو فسيح، وسير ناقل متطاول، لنتعرف إلى حقائبنا بعد افتراق طويل بدأ في دمشق بعد ظهر أمس، ونترافق إلى حيث ينتظر الكثيرون والكثيرات بتلويحات ولوحات وكتابات ولغات.. وجاء التعارف سريعاً مع منتظرتينا رغم الازدحام، قبل أن نقرأ عبارة (وفد اتحاد الكتاب العرب- سورية) على لوحة مشرعة؛ هل كان للهفة والتساؤل والدهشة والثقة والابتسام والبهجة دور في ذلك؟! هي التي ستستمر طوال فصول رحلة العجائب التي دخلت مرحلة جديدة آن خروجنا من قاعة عملاقة مغطاة بسقف قوسي معدني بديع، مع المرافقتين الرائعتين: /يان/ الموظفة في قسم الاتصالات في اتحاد الكتاب الصينيين، و/رزان/ الاسم العربي للمترجمة /تشان تشينغ/ المتخرجة حديثاً بامتياز من كلية اللغة العربية في جامعة (بكين) الدولية للدراسات الأجنبية، والتي سيفوتها استلام شهادة التميز في يوم مغادرتنا، لوجودها برفقتنا حتى قرابة منتصف الليل في مطار (شنغهاي).
من المطار إلى المطار:
خفّ الغبار، أم تحسنت الرؤيا؟!
ها هي الطريق تنفتح بعد المطار، أناقة ونظافة واستواء واتساع، وخطوط ملونة وتسارع بلا تقاطعات؛ جسور فوق جسور، ومعابر فوق أخرى، والتفافات ميسرة، والخضرة تحاذي الطريق بحرص وانتظام على مدى ثلاثين كيلومتراً أو يزيد..
لم تختلف الحال في الطريق بين العاصمة وسور الصين على مسافة ستين كيلومتراً، وبين مطار (شي آن) والمدينة، و(شي آن) ومتحف الجنود والخيول الصلصالية على مدى أربعين كيلومتراً، وبين (شنغهاي) ومطارها الذي يبعد ستين كيلومتراً.. هي المواصفات ذاتها للطرق في المدن: عرض شاسع، وأشجار متنوعة بانتظام وانسجام على الأرصفة، وإشارات ضوئية بعد المفارق، وطريق إضافية معبدة بين الرصيف الرئيسي والمحال التجارية ورصيفها، لعبور الدراجات العادية والأخرى ثلاثية العجلات، والسيارات ذات الهدف القريب، تقاطعات هوائية مستقيمة ومنحنية أو دائرية، ومستويات قد تصل إلى أربعة، مرفوعة على أعمدة مفردة أو مزدوجة أو جدارية حسب عرض الطريق وانعطافها وارتفاعها..
اللقاءات الثقافية الرسمية:
اللقاء الثقافي الأول جرى في الرابعة من بعد ظهر يوم الاثنين 22/6/2009م في مقر اتحاد الكتاب الصينيين في (بكين)؛ حضره أعضاء وفد اتحاد الكتاب العرب جميعاً، ونائب رئيس اتحاد الكتاب الصينيين (بمرتبة نائب وزير) السيد /كاو هونغ بو/ المهتم بأدب الأطفال، وعدد من الأدباء أعضاء الاتحاد. (رئيس الاتحاد الروائية السيدة /تياني/).
وكان اللقاء حميماً، تبودلت فيه التحيات وعبارات الود والتقدير للتجربتين السورية والصينية، والعلاقات المتجذرة ثقافياً وإنسانياً وفي مختلف المجالات الأخرى، وتحدث الأصدقاء الصينيون عن زياراتهم إلى سورية، واللقاءات الغنية التي أجروها، والذكريات الطيبة التي يحملونها، والقصائد التي كتبها السيد نائب رئيس الاتحاد عنها. وتحدث أعضاء الوفد السوري عن اتحاد الكتاب العرب في سورية وفروعه وجمعياته ونشاطاته ودورياته وإصداراته، وآلية العمل والإدارة فيه؛ كما قدم معلومات عن الجولان المحتل من قبل إسرائيل، وحرص سورية قيادة وشعباً على تحريره بكل السبل؛ كما تم التذكير بفلسطين المغتصبة، ومناسبة القدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009 وتخصيص الكثير من الفعاليات الثقافية في سورية والأقطار العربية الأخرى لهذه المناسبة. ودار حوار حول الأدبين العربي والصيني، والأجناس الأدبية الأكثر انتشاراً وتسويقاً، والتطورات التي طرأت عليها. ثم قام رئيس الوفد السوري عضو المكتب التنفيذي للاتحاد ونائب رئيس اتحاد الكتاب الصينيين بتوقيع الاتفاقية مجددة بين الجانبين للأعوام الثلاثة 2008-2009-2010 والتي تأتي هذه الزيارة تنفيذاً لأحد بنودها. ثم تم تبادل الهدايا، وأخذت الصور التذكارية. تبع ذلك عشاء غاب عنه رئيس الوفد السوري بسبب وعكة صحية نتيجة سوء تفاهم هضمي، لعله كان سوء التفاهم الوحيد خلال الزيارة كلها، وكان السبب أيضاً في تعذر حضوري اللقاء الصباحي في كلية اللغة العربية التابعة لجامعة (بكين) الدولية للدراسات الأجنبية، فيما حضر باقي أعضاء الوفد الندوة مع أساتذة الكلية وطلابها حول الأدب العربي المعاصر شعراً ونثراً.
وفي /شي آن/ ذات الملايين الثمانية، العاصمة الثقافية، وعاصمة مقاطعة /تشان شي/ بملايينها الثلاثين، التقى أعضاء الوفد السوري مع أدباء فرع اتحاد الكتاب الصينيين في المقاطعة في فندق (يونغ تسون)، بحضور نائب رئيس الفرع وعدد آخر من الأدباء، وكان اللقاء غنياً وممتعاً وأليفاً، تم فيه الحديث حول اتحاد الكتاب العرب في سورية وفرع الاتحاد في /تشان شي/ والأدبين السوري والصيني، والقضايا الأساسية التي تهم الأدباء في سورية، ولا سيما الجولان المحتل وفلسطين المغتصبة والقدس عاصمة الثقافة العربية لعام 2009، وقد أبدى الجانب الصيني تفهمه وتعاطفه. ثم تبادل الجانبان الهدايا وأخذت الصور التذكارية، واستكمل اللقاء الحميم جداً على مائدة العشاء التي شهدت فترة مرح وحبور واستمتاع، تخللها غناء شعبي صيني وسوري.
الأمر نفسه تكرر في اللقاء مع الكتاب الصينيين في (شنغهاي) في مقر الاتحاد التاريخي المميز بحديقته المخضرة، التي تندت بشآبيب المطر الممتزج مع مياه جرة تمثال الخصب؛ حيث أخذت الصور المعبرة، بحضور السيد /سام تيان مينغ/ أمين اتحاد الكتاب في شنغهاي، ورئيس تحرير مجلة للشباب الشاعر والناقد /كوي سينغ/، وروائي وناقد آخر، والروائية /تشو لينغ/ التي زارت دمشق ومدينة القنيطرة، وتأثرت كثيراً للدمار الذي خلفته قوات الاحتلال الصهيونية فيها؛ وكان اللقاء لطيفاً والحوار مفيداً حول الأدب والثقافة في سورية و(شنغهاي)، وأدب الشباب موضوعات وأشكالاً فنية، ثم كانت الصور والهدايا، ومن ثم العشاء الممتع والأليف.
وفي لقاء تأخر يومين كنا على مائدة عشاء السفير السوري في (بكين) الصديق الدكتور /خلف الجراد/، وكانت الأجواء في مطعم “ألف ليلة وليلة” ذي العائدية السورية، أليفة ودودة، بصحبة وفد اتحاد الحرفيين السوريين الذي كان يزور الصين في الفترة ذاتها، وحضور السيد /حكيم/ نائب رئيس جمعية الصداقة الصينية السورية.. على أنغام شرقية، ورقص شرقي بامتياز، ومأكولات منحازة تماماً شكلاً ونوعاً أيضاً، أضافت عليها خصال السفير من دماثة ولطف غلالة مشبعة بالود والألفة والطيب. فيما كان الرواد الآخرون من جنسيات أخرى، وشاشات موزعة تبث برامج صينية!
المعالم السياحية:
القصر الامبراطوري:
إنها “المنطقة المحرمة” المجاورة من الشمال للساحة الشهيرة (تيانن مينغ) في قلب العاصمة (بكين)؛ طولها من الجنوب إلى الشمال /960/م، وعرضها /750/م، تبدأ ببحيرة مستطيلة محاطة بالأشجار، فيبدو السياج الأخضر للمرج الأزرق بديعاً، وهي جزء من نهر (هوتشينغ) الاصطناعي ذي العرض /52/م، الذي يحيط بالمدينة خلف سورها المرتفع عشرة أمتار، وعلى كل ركن من أركان السور مقصورة رائعة. ينقلك المسار المجاور إلى بوابة مميزة، فتدخل الفناء الامبراطوري الأسطوري؛ ساحة حجرية فسيحة، وعبور منفتح إلى منطقة مغلقة تضم أكثر من ثمانمئة مبنى، تحتوي على أكثر من ثمانية آلاف غرفة، بنيت بين عامي/1406-1420/م، تعاقب على عرشها حتى عام /1911/م /24/ امبراطوراً من أسرتي (مينغ و تشينغ). تتوزع بانتظام القصور المتماثلة ذات الأسقف المقوسة المنحدرة إلى الخارج باسطوانات قرميدية نافرة ملونة، وجبهات مزخرفة بالتنين الصيني الرمز الأشهر ذي الأشكال المتعددة، وجدران حجرية وأبواب واسعة. تتشابه الأشكال الخارجية، والمسارات حول الأبنية، والأدراج الحجرية، والساحات التي تنغلق على مبنى لتنفتح على آخر، وأسوار تحدّ بصرامة هذا المعلم التاريخي عن سواه من معالم (بكين) القديمة، لتبقى هذه الحياة الأسطورية سرية وخاصة ومتكهنة؛ فهذا الجزء الأمامي للمراسم الضخمة التي يقيمها الامبراطور، والجزء الداخلي لأعماله اليومية، وتلك الأجنحة للعيش المختلف، وقصور متعددة للمتعة والنوم؛ فالزوجات كثر، والمحظيات أكثر، والحدود بين هذه المقامات وحيوات الآخرين المقتضبة لا تحدّ، ولا تعرفها إلا الشمس الراصدة بإمعان وحزم خطونا الجاد وملامح الدهشة لدينا، نحن قاصدي التعرف إلى آثار تجربة مميزة لشعب عريق، بذل عقوداً من السنين في تخليد تاريخ إنساني مديد بكل فصوله وأجوائه وتضاريسه؛ فهل ما نحسه مكافأة للبانين، كما هو ثمرة سعي لنا حثيث ولهفة متجددة؟! تلك هي الحديقة الامبراطورية بأشجارها وظلالها وزهورها، وتلّتها الحجرية الاصطناعية بعلّيّة من صنف أبنية القصر ذاته، ودروبها الرطبة التي تضيق لتنفتح البوتقة على مشهد قصر آخر يعلو الهضبة المقابلة، وساحة فسيحة مكتظة بالزوار المستثارين من كل عرق ولون، والباعة اللجوجين لأشكال وصور وتماثيل، تشعرك بأنك غادرت الماضي البعيد إلى حاضر لا يقل معاني ودلالات..
ها هو الخطو يتناثر في أرصفة الشوارع الواسعة المسورة بالأشجار المتماثلة علواً وتفرعاً وكثافة، تؤمن الظلال التي تخفف عن المارة غلواء شمس حزيران الملحة، وتترك الشارع أمداء واستواءات واستقامات وانعطافات للسيارات المتنوعة: حافلات كهربائية مع لامس علوي وأشرطة ممتدة، حافلات كبيرة أخرى، آليات صغيرة ومتوسطة، تمضي في اتجاهاتها متجاورة ومتراتبة ومفترقة وفق الإشارات المضيئة والخطوط الملونة، بلا شرطة مرور ولا منبهات، ولا توقفات مفاجئة ولا اقتحامات أو عثرات!
تمضي وأنت تفكر في كل هذا اليسر وتلك السلاسة والعظمة التي تظلل هذه البساطة الثرة، فتتجسد أمامك في متحف حديث مميز هو الآخر، تخرج من النصف العلوي لجداره الأمامي اسطوانة عملاقة، تدخل، فترى قاعدة انطلاقها في الجانب الأيسر من القاعة الكبيرة ذات الارتفاع المهيب والرسوم المميزة والأشكال المعبرة.. وتلك الأدراج الآلية التي تتتالى امتداداً حتى الطابق الرابع، فتعطي ذلك الفراغ المذهل الذي يقودك بهدوء نازلاً إلى الطوابق المكتنزة آثاراً وتماثيل وصوراً ومجسمات.. فتدخل مرة أخرى من حداثة الخارج واتساعه وبهائه إلى كنوز الماضي العريق المزين، كعربات العرس وثياب العروسين، وزخارف الأواني ودقة الحَفْر وخبرة الريشة، وثراء المادة واللون والمعنى.. فتخرج ممتلئاً مزهواً مغتبطاًً؛ الأحاسيس التي تتنازعك طوال أيام لك في الصين، ويسوغ ما تراه على ملامح الصينيين وحركاتهم وجديتهم وضحكاتهم وسلوكهم المنضبط الخالي من العقد، المنتشي بجلال الماضي وازدحام عناصره، والمزدهي بأناقة الحاضر وألقه، المكتظ بالأعمال والآمال والأفكار، الواثق المعتز بالصين العظيمة مصنع العالم كل العالم.
سور الصين العظيم:
يُرى من الفضاء، ويشرف على الكثير من الأرض، يتسلق الذرا بإصرار وثقة، وينحدر بقوة ليقطع الصحاري والأنهار؛ جدار متماسك من الطين والحجارة، يرتفع بين /6.6–10/م، وعرضه بين/3.7-5/م عند القمة و/6-9/م عند القاعدة، استغرق بناؤه مئتي عام، وأنجز سنة /204/ ق.م بجهد نحو ثلاثمئة ألف عامل، يمتد على الحدود الشمالية والشمالية الغربية للصين القديمة من /تشنهو انغتاو/ على خليج بحر /بوهاي-الأصفر/ في الشرق إلى /غلوتاي/ في مقاطعة /غانسو/ في الغرب، وهناك سور آخر من بكين إلى هاندن. وأضيف هذا السور العظيم إلى قائمة التراث العالمي التي حددتها اليونسكو عام /1987م/.
جداران حجريان جانبيان يستندان بإحكام وحذر على قاعدة يميل وجهاها الحجريان إلى الخارج لتأمين التوازن والاستقرار، الجدار الأيمن (الداخلي) يرتفع نحو متر لمنع سقوط الجنود، والجدار الأيسر (الخارجي) يرتفع أكثر من الجدار الآخر بفتحات غير معتبة للإطلاق ورمي الحجارة وسواها، وفتحات صغيرة منخفضة للرصد؛ يحضن الجداران درجاً حجرياً يتلوى بلا انتظام بعرض يختلف حسب الانعطاف والميول، يتباطأ حيناً ممعناً في التعامد، ويسترخي أحياناً مؤمناً حالاً من التزود بالهمة والطاقة لتسلق جديد، يوصل الراغب إلى نقطة ارتكاز أولى على الأقل: برج إنذار ومراقبة، على شكل غرفة من الحجارة بأبعاد ثلاثة نحو ثلاثة أمتار، بنافذة مقنطرة في كل جانب، ودرج داخلي محصور، وتصوينة سطح تقارب تكوين الجدار الصاعد الأيسر للسور، مؤمنة إمكانية رصد السفوح الغربية المنحدرة ووديانها المتثنية، التي يمكن أن يأتي منها العدو، فتسهل مواجهته؛ هو سور للحماية وليس للسياحة، هكذا كان، وصار مقياساً للتحمل والرجولة؛ ففي أسفله كتابة حمراء للزعيم الصيني التاريخي /ماو تسي تونغ/ على حجر منتصب، بما معناه: من لا يصل إلى (…) ليس رجلاً! وليست هذه العبارة المحفز الوحيد للصعود؛ فعلى علو غير بعيد سلسلة معدنية متصاعدة مديدة، تضم أقفالاً لا تحصى لأسماء مزدوجة تخلد، وأمان ورغبات يرجى أن تتحقق.. لعله تحدّ آخر لأصحاب الرؤى والهمم والأعمار.. لن ينتهي؛ فبعد كل برج إنذار ومراقبة، تصاعدٌ وبرجٌ آخر يتباعد مئتي متر تقريباً، ثم أدراج وغرف تتبدى في القمم التي لم نصلها، على امتداد يتجاوز ستة آلاف وخمسمئة كم. وعليك أن لا تنسى أنك لن تبلغ الجبال طولاً، وقد بلغها سواك موادّ وبناء وقضاء، وأن لا تتغافل عن أن طاقة أخرى وهمة تلزمانك للعودة المنحدرة التي لا بد منها مع ما تفوق من خطورة على تعب التسلق المغري، ولا بأس أن تستعين بحديد الجانبين كما فعلت أو لم تفعل صاعداً؛ وها قد عدت وفي جعبتك المزيد من الثقة بإنجازك (ستمئة درجة)، وفي ناظريك الكثير من المشاهد المنفتحة غرباً، المتقاربة شرقاً، المتصاعدة شمالاً، والقارّة جنوباً في سفح مقابل يتصاعد في ذراه جزء آخر من السور، مع خضرة متكاثفة تغلف كل الجهات بامتدادات مثيرة وانحدارات مخضرة تذكر ذرا أشجارها المتنوعة بمشاهد أخاذة من تلفريك عابر. ها قد عدت، وفي يقينك ضرورة التذكر وهمة استعادة الهمة والرغبة والانتشاء، واسترجاع إشارات التحفيز والتشجيع والكلمات المعبرة عن ذلك بلغة تعرفها من كائنات الازدحام الملون بملامح سكان الأرض جميعاً، والخطو المكتظ على مسار الجلجلة ذات النكهة الصينية؛ ويا لها من نكهة!
متحف ضريح الامبراطور /تشين شي هوانغ/
وتماثيل الجنود والخيول الصلصالية:
على مدى أربعين كيلو متراً من (شي آن) لم تغادرك الخضرة جوار الطريق المنطلقة بأناقة، ولا غادرتك الأشجار المثمرة والحراجية، حتى وصولك إلى المنطقة السياحية المميزة، عند قاعدة جبال عملاقة بادية الخضرة تحت وهج شمس حارقة، تقسم الصين إلى قسمين: شمالي وجنوبي.
في مستهل الساحة المزدحمة تمثال ضخم للامبراطور /تشين شي هوانغ/. وبعد البوابات حديقة واسعة مشجرة ومزينة بالورود، تحتاج لاجتيازها إلى آليات مثيرة مسقوفة مع جوانب مكشوفة يقودها سائقون وسائقات، تنطلق مسافة تتجاوز الكيلومتر، حتى القاعات الثلاث التي تضم تماثيل نحو ثمانية آلاف جندي، اكتشفها الفلاحون مصادفة في ثمانينيات القرن الماضي. وفي القاعة الأولى ينتصب الجنود في فصائل، يضم كل منها صفوفاً أربعة تمتد طويلاً وبأحجام طبيعية ووجوه وملامح معبرة، مع أدواتهم القتالية وخوذاتهم وعرباتهم وخيولهم، تم تشكيلهم من تربة معالجة بالنار، ترتفع بين فصيل وآخر كتلة من التراب. ويقدر عدد الجنود في هذا المكان بنحو ألفين، وقد غطيت القاعة، بطولها الممتد مئتي متر، وعرضها البالغ خمسة وسبعين متراً، بسقف معدني قوسي مستند على جدران بيتونية مدعمة، أنجز في أواخر التسعينيات. وفي القاعة تماثيل ما تزال على وضعها المكتشف وبعضها مطمور بالتراب، وفيها ورشة لتمييز القطع وترميم الأشكال، وترتيبها. وتبدو في الحفرة الكبيرة فجوات لتصريف مياه الأمطار التي تؤثر سلباً على أديم التماثيل.
القاعتان الأخريان مسقوفتان أيضاً، لكن التماثيل فيهما ما تزال على حالها من دون ترميم، تنتظر إزالة التربة عنها، وترميم هياكلها المشوهة.
ستخرج من ضوء القاعات الخافت، ووميض الإعجاب بهذا الجهد الجبار والفكر التخليدي الحاذق، إلى ألق الساحات والطرقات المرصوفة بإتقان، تتجاور على بعض جوانبها المحال الأنيقة المزدانة بالتحف والموجودات الأثرية متنوعة المواد والأشكال، ويعترض مسيرك المسحور الباعة الجوالون الملحون بأغراضهم الصغيرة المميزة، المحببون بظرافتهم ولطفهم. في الوقت الذي تحتاج فيه إلى زمن مهم للعودة ماشياً، لكنك لا تكاد تحس به لولا الحرّ والشمس المسلطة من علٍ، لانشغالك بالوجوه والقامات التي تكاد تغص بها الأحياز كلها.
متحف شي آن:
خفف الوطء في أول الخطو، كي تتقرى معالم المدينة المرتسمة على بلاط القاعة بألوان وأشكال حجرية معبرة، وإن فاتك أمر، فغير بعيد منك مجسم كبير يبين تفاصيل المدينة قديمها وحديثها والسور التاريخي الفاصل بينهما، باستقامات شوارعها، وتوزع معالمها، وحواضرها الثقافية والعمرانية. ثم ينزل بك الخطو درجات إلى ردهات المتحف خافتة الأضواء والموسيقا، لتتعرف إلى التماثيل واللوحات والمجسمات والنقوش والرموز متوزعة منصات وجدراناً وخزائن بلورية، بترتيب أنيق، وتشكيل مهيب الحضور في كنف الماضي العريق الثر.
البناء المميز يجتذب اهتمامك من بعيد، قبل أن تعرف أنه المتحف الذي تقصدون، ويبقي ناظريك معلقين به، وأنت تغادر الساحة الفسيحة المتلألئة زهوراً ووروداً، بعد أن تتجاوز ثورين كبيرين متأهبين يحرسان الباب الواسع، فيما الجهات مكتظة بالأبنية الحديثة المتعالية، وأمامك حديقة المتحف الوارفة، والبشر المستظلون، والطبل العملاق المعلق بانتظار قرعة منك مأجورة، بقطعة خشبية أفقية معلقة هي الأخرى، لن تقاوم الإغراء طويلاً، فيخرج الصوت مارداً مشاكساً، يرتجّ له الحاضر متعة، وتتردد أصداؤه في الذاكرة ألفة وندى ونشوة، تتصادى مع ملامح البرج الأثري القريب قاعدة والبعيد علواً بطبقاته الثلاث عشرة، وحوافه غير المدببة، فيستقر في الوجدان رصيداً ثراُ ورمزاً مفعماً بالإثارة والتحفز والتساؤل والرضا والأمان.
المسجد الكبير في (شي آن):
استنجد الحاكم في (شي آن) بالمسلمين الذين آزروه بثلاثة آلاف فارس، فانتصر على أعدائه، فكافأهم ببناء هذا المسجد الكبير عام /742/م؛ قال المرافق، حين دلفنا من مدخلٍ نهايةَ سوق شعبي مكتظ، إلى مداخل وبوابات وقناطر وشرفات من الخشب النافر المزخرف برسومات وأشكال متنوعة، وكتابات عربية، وأسقف مقرمدة بالطريقة الصينية المقوسة نحو الأسفل والخارج.. غرف للمذاكرة والدراسة والحوار، ومنبر ومحراب ومصلى يتسع لألف وثلاثمئة مصلّ، منقوش على جدران قاعته الكبيرة الأربعة آيات القرآن الكريم باللغة العربية تمتد على ثلثي مساحتها العُلويين، وعلى الثلث السفلي احتشدت الآيات ذاتها باللغة الصينية، وبأحرف مذهبة. وفي البهو طيور حية وأخرى على شكل تماثيل، وهياكل ملونة، وأحواض حجرية لوردة النيلوفر مملوءة بالماء الذي تتكئ عليه وريقاتها الخضراء المبسوطة للضوء، وأكمام ما تزال مغمضة، وزهرة منها مفتحة حديثاً ذات أوراق بيضاء مصفرة وعين صفراء بهية، عنوان حياة ألقة، في الوقت الذي كانت منشرة تحضر تابوتاً لتشييع متوفى عصر ذلك اليوم الأربعاء 24/6/2009م.
يتحدثون إليك بألفة وود ورضا بعمامة أو من دونها، وببعض الكلمات المفهومة: السلام عليكم، الحمد لله، الله أكبر؛ ابن الإمام يتحدث العربية ويكتبها بخط جميل تتعرف إليه من خلال كتابة اسمك على هديته الثمينة: خارطة المسجد الكبير المذيلة بتوقيع الإمام الحاج /محمد يونس ما لانغ جي/.
وحين تهم بالخروج من هذه التحفة التي تحتاج إلى ترميم يحافظ على ملامحها ومعالمها ومعانيها، يعطيك البواب كتيباً تعريفياً صغيراً باللغات الصينية والفرنسية والانكليزية، فتتساءل عن لغة القرآن الكريم، فيطلب منك بود أن تسجل هذه الملاحظة الهامة في السجل الخاص بالمسجد!
تعودون إلى السوق الشعبي المتمدد المتشعب، المحتشد بالتماثيل المعدنية والزجاجية والزخارف الخزفية والألبسة والأثريات وأشياء أخرى وأشياء.. وكائنات تجادل بظُرف، تقف في الكثير منها بائعات بمناديل معبرة.
وغير بعيد عن كل ذلك، شارع مكتظ بالأطعمة الشعبية المنوعة نيئة وطازجة وناضجة، فتحس أنك تسير في شارع عربي قريب من جامع كبير بأصداء ذلك الطَّيِّبة وأطيافه الأليفة..
(شنغهاي).. الحياة:
لم تكن شنغهاي، كما في التصور، المدينة الصناعية المميزة فقط، ولا الميناء التجاري العالمي حركة وتقانة فحسب؛ إنها مدينة الحياة بفصولها المتداخلة، وعناصرها المتشعبة، لتشكل لوحة غنية متنوعة متناغمة راسخة متشامخة مندفعة حتى مابين الغيوم!
فالمطر الموسمي الذي احتفى بمقدمنا، لم يخفف من حرارة اللهفة وحيوية الدهشة، كما لم يخفف حرارة الجو الذي غص بالرطوبة، فشوش المشاهد قليلاً، لكنه أضفى على خطانا، التي تدب للتوّ في المدينة الشهيرة، إحساساً رياناً بالمشاعر التي شعت من بين الدور القديمة والأشجار المتفرعة، والمحلات التي تذكرك بالبيئة الشرقية المشبعة بالقرب والإنسانية.
لم يدم المطر طويلاً، رغم أنه منتظر، وقد تأخر هذا العام، وكان فألاً حسناً أن بدأت قطراته الأولى مع المشاهد الأولى وأوقاتنا الأولى ولهفتنا المتصلة، وكان فألاً حسناً أيضاً أن تصادف وصولنا إلى فندق /هرت شان/ أي /جبل شان/ مع وصول عروسين شابين مع بياض الثوب الناصع ونظرات الإثارة والنشوة..
وبكّر المطر صباحاً، بعد أن ترك أمامنا فسحة مسائية لمشوار قريب متباطئ استكشافاً وتقرّياً يقترب من حدود اللمس، الذي راودنا عن فضولنا في أكثر من واجهة مشعشعة ومدخل محمرّ وكائنات شهية؛ لكنه بقي شعوراً يُحَسُّ بالعناصر كلها: إنها مدينة مختلفة مؤتلفة.. وعلى خلاف المسميات والمعاني المعهودة، تمثل الضفة الغربية الجزء القديم من المدينة، وهو يضم إلى الشوارع الضيقة والحارات المكتظة والأبنية ذات الشكل القديم، الكثير من الواجهات الحديثة والكتل الضخمة: فنادق ومكاتب ومؤسسات ومصالح متنوعة؛ أما الجزء الشرقي فالحداثة عنوانه، والبناء المشرع فيه أكثر اندفاعاً وتألقاً؛ البرج العملاق والأبراج الأخرى المميزة، والساحة المزدانة والشاطئ النشوان.
ولعل ما يلفت الانتباه في المدينة أعمال الترميم المتكاثفة في الكثير من المواقع، مباني وجسوراً متعالية، وهي أعمال محمية ومراعاة، وتسبب ازدحاماً واختناقات تضغط على الوقت القصير والرغبة المتشاسعة بالتقاط كل المناظر، وتسجيل المزيد من الملاحظات والانطباعات فيما تبقى لنا من حيّز زماني يتضايق باطراد، بدءاً من طريق المطار السريع المسيج بالأشجار والزهور، ويتضايق أكثر مع ازدياد التنوع العمراني، والتعالي البرجي، والمسايرة النهرية، والتسارع الحضاري.. في هذه المدينة التي يبدو أنها في منافسة محمومة مع الزمن، فتتخلّق باطراد؛ ها أنتم تعبرون جسراً معلقاً بجزءين متتاليين، تحتاجون إلى دورتين كاملتين للانتقال من أفقه المشرع إلى مستو أرضي، وتستطيع أن تعبر نهر /أوهانج بو/ ذا العرض البالغ /400/متر من تحته في نفق طوله كيلومتران، وتحتاج إلى زمن أهم لتحيط بالمدينة الهائلة ذات الملايين الثمانية عشرة أو ببعض ملامحها الخالدة.
ساحة الشعب والمتحف الحديث:
كان الصباح عبقاً مضبضباً، هين الرفقة رغم ملامحه المكفهرة التي ارتسمت منذ لحظاته الأولى عبر البرق الخاطف المتتالي، والرعد القاصف الذي يذكر بعواصف صافيتا التي لا تهدأ -حين تبدأ- إلا بعد أيام.. لكن ألفة (شنغهاي) لم تبخل علينا بساعات صحو، ساعد، رغم رطوبته الساخنة، بتنفيذ برنامج الزيارة المكثف، الذي بدأ بالمسير في الشوارع المرتسمة بانتظام وإتقان، والعبور فوق جسور وتحت أخرى، حتى ساحة الشعب الفسيحة المرتفعة عن الشوارع المحيطة ببضع درجات، المبلطة بإتقان، الموشاة بأطياف المطر الشفيف الذي هدأ أو يكاد، والمسورة بالبنايات المتعالية المتمايزة أشكالاً وألواناً؛ أمامها المبنى الضخم للحكومة المحلية، وجواره المسرح الحديث بحضوره المعبر؛ تنخفض الساحة في وسطها لتتوضع بركة دائرية كبيرة، ونوافير تناثرت منها المياه بتشكيل رائع حين تم تشغيلها. وفي الجهة المقابلة لمقر الحكومة، يتوضع المبنى المميز للمتحف الحديث الذي ينفتح إلى الساحة من مخرج فدرجات نازلة. أما الدخول إليه فيتطلب الدوران إلى اليمين والنزول درجات، والمسير جوار جدران حجرية وورود وأزهار ملونة..
والمتحف بطبقاته الثلاث من الداخل –كما هو من الخارج- تحفة معمارية أنيقة متألقة: صندوق نواته صندوق آخر مفتوح وواجهات داخلية حجرية، وأدراج عادية وآلية مستقلة في كل جدار، تقود إلى قاعات متعددة متميزة بألوانها وإضاءتها المتناسبة مع موجوداتها المتنوعة من نقود قديمة بعضها مثقوب، وأدوات منزلية عتيقة، وخزف ورسومات، وسوى ذلك من رموز إبداعات الإنسان الصيني العريق..
ومرة أخرى.. كان الانتقال السريع من أفياء الماضي إلى أضواء الحاضر، والشوارع النظيفة المستوية والأبنية المنوعة المتميزة، وبعض أعمال الترميم في الأبنية القديمة والمعابر، فدرنا أكثر، ومضينا في النفق الأرضي /2كم/ تحت نهر /أوهانج بو/، حتى وصلنا إلى الشاطئ المتطاول بعرض قليل، ورطوبة حارة، وإطلالة دانية على النهر الذي تمخره السفن الكبيرة، وفي المقابل جسور، وجسر آخر فوق النهر ذاته يعد من علامات (شنغهاي) الفارقة، يمكن أن يفتح لعبور السفن استثنائياً. تغادر الشاطئ وزواره إلى ساحة /شينغ داو/ المزدانة هي الأخرى بالورود والأزهار، المسورة بالأبنية الشاهقة والمجمع الهائل: محال تجارية ومطاعم ورياض أطفال.. أدراج آلية وطوابق عديدة ومستويات متعددة، شرفات داخلية متطاولة وممرات متداخلة وازدحام وكثافة، وغير بعيد في الساحة ذاتها يتشامخ البرج العملاق: لؤلؤة الشرق.
برج لؤلؤة الشرق:
هوائيّ للتلفزيون أم رمز للعلاء والخيلاء؟! ثالث أعلى برج في العالم بعد برجي: موسكو في روسيا، وتورنتو في كندا؛ يتشامخ برج لؤلؤة الشرق في الجانب الشرقي الأحدث في /شنغهاي/، بارتفاع /468/م، ويستخدم للبث التلفزيوني، وفيه مطعم وفندق ومحال تجارية نوعية؛ يتألف من ثلاثة أقسام وثلاث كرات متفاوتة الحجم والمستوى، الأولى تلي القاعدة، وهي الأكبر، الكرة الثانية الوسطى تقع على ارتفاع /263/م، وهي التي وصلنا إليها عبر مصعد سريع بزمن قدره/48/ثانية، تشاغلك فيه مضيفة أنيقة بكلامها المتسارع، إضافة إلى شاشات في الجدران تبث مشاهد متحركة ملونة وموسيقا مناسبة؛ هناك في الأعلى كان المنظر الرائع للمدينة المتبارزة علواً، وعلى دائرة كاملة تتوزع المشاهد عبر زجاج شفاف عكره، لسوء الحظ الذي لا يكتمل، رذاذ المطر الذي تهاطل محتفياً، أو محتجاً على وجودنا في ارتفاعات منذورة له!
ازدحام وانبهار وانشغال بالتقاط اللحظات والصور، والتحديق في البعيد القريب؛ حيث يجري النهر الكبير ملتفاًً أيضاً، وتتوضع حول المحور محلات تبيع التحف والأثريات؛ المشهد سحري، يذكّر بمشهد (دمشق العريقة) من (قاسيون) الخالد، لكنه ليس الأكثر دهشة وإثارة..
هبطنا طابقاً واحداً، الدائرة ذاتها، مع فارق كبير: أرضية أفقية بيتونية ثابتة، يتلملم فوقها الزوار هرباً من الجزء الآخر من الأرضية الزجاجية الشفافة؛ فكيف يمكن أن تتوازن أو تسير على ارتفاع /260/م، وتحتك المدينة والفراغ؟! لكن إغراء ذلك لا يقاوم، ولا بد من المغامرة والاستناد إلى الجدار الزجاجي وتجنب النظر إلى الأسفل، حتى تستقر واقفاً مأخوذاً منتشياً!
لن تشبع من الإثارة، ولا بد من الإياب عبر نازلين: الأول يصل إلى منسوب /90/م، من ثم الانتقال عبر درج بسيط إلى النازل الثاني، تتحرك أمامك المشاهد هابطة من علٍ، عبر جدرانه الشفافة، حتى منسوب / 4/م؛ حيث تبدأ رحلة من نوع آخر موغلة في القدم الإنساني، بين مستويات المتحف التاريخي وأقسامه، دروبه وشعابه، راصداً خطواته الأولى، وقفزاته المتتالية.. في سفوح ليست يسيرة إلا لمن امتلك الإرادة والهمة والصبر ونبل الغاية وعلو الهامة.. تتساءل وأنت تتنقل على وقع أنغام منفردة ومجتمعة وألحان معبرة، من زاوية إلى ركن، ومن سوق متنوع متحرك في شاشة، إلى مشهد ثابت لعرزال وكائنات بشرية وحيوانية في أجواء وحالات مختلفة، وأنوال، وصنّاع، وبورصة، ومقهى، ولقاءات حوارية، ومحكمة، وتدريبات متنوعة، وعناصر وأدوات زراعية، ومعرض لتطور صناعة السيارات في (شنغهاي)، يبدأ به المتحف، ولا ينتهي بلوحات بانورامية جدارية مضاءة بإتقان، لأهم معالم الحضارة خضرة وسوراً عظيماً وأبنية ضخمة وجسراً معلقاً.. وفي الممر الأخير المتلألئ الواسع مجسم ثلاثي الأبعاد للبرج العملاق، الذي ما نزال في قاعدته التاريخية التي تعبر بشكل رائع ودقيق عن منهج الصينيين وبرنامجهم الأثير؛ الحاضر المتقدم المستند إلى الماضي العريق؛ تقدير وتبجيل للتاريخ ومنعرجاته ومعاناته وظروفه وكائناته وأدواته ومعتقداته.. وانهماك في المزيد من الإنجاز بحثاً وكداً وجهداً واحتراماً للوقت، وإحساساً عالياً بالمسؤولية، من دون أن ينسوا أن (لنفسك عليك حقاً) أيضاً؛ هذا هو المعنى الناصع لبرج يحلق في الغيوم مستنداً على قاعدة تغوص في التاريخ.. ويا له من معنى!
متحف الشاعر /ليو شينغ/:
صورة أخرى لهذا المعنى تتجلى بالاحتفاء بالرموز الثقافية؛ فها هو متحف الشاعر /ليو شينغ/ وحديقته بمدخلها المميز، وجواره المزدهي، شوارع ومحال وشجراً وأزهاراً. في الداخل أشجار عالية متفرعة، وأمداء من الخضرة والظلال والفرح الإنساني المتوزع رقصات منوعة على أنغام مميزة في أكثر من اتجاه، عجائز ونسوة وفرق ومجموعات من جنسيات مختلفة، حشود من الكائنات المنتشية، وجو من الألفة والقرب الإنساني، رغم ابتعاد المزار، تتجاوز هذه المشاهد الحيوية مؤقتاً، لتلج بناء بسيطاً من حيث الشكل الخارجي المنسجم مع الطبيعة المجاورة. آن وصولك يقابلك تمثال الشاعر /ليو شينغ/ في المدخل تماماً، وجواره أصص الورد الكبيرة، ودرج عريض غير مسقوف يؤدي إلى الطابق الثاني؛ حيث المكتبة ذات عشرات الرفوف التي تضم المئات من الكتب: مؤلفات الشاعر، وما أسهم في كتابته، وما كتب عنه. تتفرع الممرات لتتوزع صور الأديب في مختلف مراحل حياته، وصور من مقالاته القديمة في الدوريات، وشاشات تبث بعض ما مثل من نتاجه، وما صوّر عنه.. تحس بأهمية ما قدمه هذا الأديب الذي ولد عام /1881/م وتوفي عام /1936/م، ويعدّ صوت الكادحين وابن الشعب البار، وتشعر بالاعتزاز بهذا الشعب الذي يحترم مبدعيه ومثقفيه، فيقيم لهم مثل هذا المقام الجميل، وتزدحم المعابر والردهات بالزوار..
ستعود من جديد مفعماً بالأحاسيس الإنسانية التي اغتنت، لتكتنز أكثر فأكثر من ألق البشر وتفاعلهم، وممارستهم للفرح الطبيعي المبثوث تعابير وحركات وأصواتاً وألواناً من اللباس والطقوس واللغات.. تشكل كرنفالاً إنسانياً متواصلاً مثيراً وممتعاً..
ستغادر كل ذلك، وغيره بعد قليل من الساعات، وكثير من الانهماك في البحث عما تستطيع اختياره من السوق الواسع المكتظ بما يدهش ويغري، والحرص على ألا تتوه، أو تضيّع الوقت والعرق والجهد في السؤال والحيرة والبحث من جديد..
آخر المشوار:
كما كانت قطرات مطر شنغهاي الموسمي في استقبالنا، كانت شآبيبه في الوداع، تلملم منا العناصر، وتسترق الملامح الغاصة، متسقة مع شفيفات المساء الستائرية؛ فتبتعد عنا الأشياء قبل أن نبتعد عنها، وتحتجب الكائنات المادية ونحن نغادرها، فتخفف عنا مرارة الفقد وحرارة الخسران.. أو تحاول، ونحن نحاول مغالبة المشاعر الفياضة، ومداراة الأحاسيس النباضة..
الطريق التي اخضوضرت وازهوهرت في لقائنا الأول قبل يومين، تكتئب وتنسحب، وكنا نحاول تجنب التفكير في ذلك، بالانشغال بأي شيء في دقائق الطريق المتسارعة، وأوقات العشاء الأخير في المطعم المجاور للمطار.. المطار المتطاول المشرع مظلته المعدنية الهائلة المعلقة بأناقة وشموخ وإتقان.. رحت أتشاغل بها عن لحظات انتظار أول إجراءات الرحيل المرّ: الحقائب؛ ذلك الإجراء الذي استطاع إشغالنا، وإشغال مرافقاتنا** باهتمام مثير، رغم أنه لم يكن غريباً عن مجمل السلوك الجاد الودود الرصين الرضيّ بما يدعو للاحترام والتقدير، في مختلف فصول هذه الرحلة التي تنوس أضواؤها، وتتلاشى مشاهدها، وتترقرق أحاسيسها ويعبق شذاها.. ونحن نتوقف للمرة الأخيرة مودعين..
لم تنته المغامرة بعد، لكن حرارة انخمادها تستعر، وما تزال أمامنا ساعات من الطيران والانتظار. لم تنته الرحلة بعد، فقد تأخر الإقلاع أكثر من مئة دقيقة، لسوء في الأحوال الجوية.
لا يهم ذلك، ولا قلق للتأخر، ولا خوف رغم الأحزمة المشدودة؛ فالوقت مزدحم في الطائرة “القطرية” المزدحمة، والنفس مكتظة بما لا يقال، والروح التي تهم بالإقلاع عالقة في الأرض بشدادات تتطاول، كتلك التي تحمل مظلة المطار المترامية المتكئة على أعمدة تبتهل إلى السماء!
أي إحساس ذاك الذي يهيمن، وأنت تغادر بلا رجعة.. ربما؟!
أية مشاعر تُستَفَزُّ، وأنت تودع كائنات لطيفة مميزة بلا أمل في لقاء آخر.. ربما؟!
أي خطو مُرٍّ ذاك الذي يبعدك عن بلاد لم يدم مكوثك فيها سوى أيام، وتطوف دوامات الأحاسيس الفوارة في ذهنك وتفكيرك وحواسك جميعاً؟!
أي زمان فات..؟! أي حلم كان، وأي واقع يتلاشى، وأية ذكرى تكون..؟!
داء الحياة، ودواؤها..
نبض الحياة وأصداؤها..
أس الحياة وفضاؤها..
فيض الحياة وشحّها..
سر الحياة ولغزها ومعناها..
وهل من مناص أو خلاص أو.. جدوى؟!!
***
* ضم الوفد الأدباء: محمد حمدان، نجدت زريقة، د.ياسين فاعور؛ إضافة إلى كاتب المقال.
** صاحب الوفد طوال الرحلة المترجمة /رزان/ والمرافقة /يان/؛ وفي (شي آن) انضم المرافق السيد نائب رئيس جمعية الإبداع في المدينة، وفي /شنغهاي/ كانت الزيارة بصحبة موظفة في قسم الاتصال في اتحاد الكتاب حتى نهايتها.
غسان كامل ونوس