الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: نزار نجار
الناشر: الفداء ع 15328
تاريخ النشر: 2016-07-31
رابط النص الأصلي: http://fedaa.alwehda.gov.sy/node/252511

التجربة والتداعيات
تجربة متميزة ، لها إيقاعها الخاص لها حضورها الناهض في مضمار القصة والرواية على الرغم من أنّ صاحبها ما يزال بعيداً عن الأضواء المبهرة ، بعيداً عن المشهد الروائي السوري العام الذي يكرّس لعددٍ من الكتّاب ، يخطفون الإعلام ويتمترسون في الصحافة اليومية ، أو يشغلون الدارسين والباحثين في حين أن أعمالاً مهمة، يزهد مبدعوها في التسويق لها، ويتركونها مركونة على الرف في عزلة اختيارية !!
وتجربة غسان ونوس ليست تجربة عادية ، ولا طارئة وهي أيضاً ليست مفتعلة ، ولا مصطنعة كأني به يقدّم – دائماً- أعماله الإبداعية بين الحين والحين على نار هادئة، ورواية أوقات برية (( هي العمل الروائي الثالث بعد روايتي (( المدار)) وتقاسيم الحضور والغياب)) وبعد ثماني مجموعات قصصية، إذن هي تجربة طويلة لابدّ من أن تلقى اهتماماً ودراسة وأن تأخذ مكانها بين الروايات السورية بخاصة ، فالكاتب مخلص فيما يتوجه إليه وتجربته هي تجربة الواقع ، تعبرّ عن الحالات الوجدانية العامة، تجربة لها فضاؤها السردي ، المشغول بلغة الوعي الزاخر بالحيوية والمتعة والنشاط ، رواية (( أوقات برّية)) تجيء في سبعة عشر فصلاً ، تمتد على مساحة من الورق في أكثر من مائتي صفحة من القطع الكبير في الفصل الأول يقدم الكاتب شخوصه بضبابية مميزة ، تنسحب على معظم شخصيات الرواية ، فهناك من يلوب بحثاً عن مأوى في مدينة ساحلية ( لم يسمّها الكاتب ، لكنها تعرف من سياق السرد) !
والمأوى هو غرفة في بيت، في حارة شعبية يأكلها الفقر.
وينوس بينها الحلم بالعيش الكريم ، هناك صاحب البيت أبو حمد وهناك امرأته ( موظفة في الريجة) وهناك صبي وحيد ( ستشاكسه تطفلاته وهو الذي يكتنز غنجاً وغباء كما سيبدو ، مع عبوس المرأة الكبيرة التي تأخرت ملامح ودادها !) تأتي الفصول التالية لترسم للقارئ دوائر مفتوحة تضفي متعانقة في إيقاع بطيء وسردية متأنية، على المشاهد والتحوّلات من البيت إلى الغابة إلى المزرعة إلى العمل في المرفأ ، إلى السجن والزيارات إلى الحراسة وتنظيم المسيرات، إلى أيام الجامعة إلى كل الجهات، تضفي غلاله شفيفة ناعمة وهفهافة تنسحب فوق السرد الروائي الذي لا يُسلم مفاتيحه بسهوله ، ولا يتهاون في الإبهام .
إلى درجة أنّ القارئ العجلان ربّما يحكم على الرواية حكماً قاصراً .
ليس في صالح تميزها وبراعة شفافيتها في رصد واقع أقل ما يقال عنه إنه واقع يظل قابضاً على عنق الحياة، متشبثاً بالآمال العريضة .
تواقاً إلى الحب والحرية والانطلاق في برية الله متحرراً من كلّ الرواسب والتشوهات والانحناءات !!
أوقات برية ، تبدو للوهلة الأولى عصية لا تنفتح فصولها بسهولة ، لكنّ المتمعن المتأني سيجد أنه بحاجة إلى أن يعيد قراءتها ثانية وثالثة حتى يتمتع بلغة السرد المنتقاة ، وبدوران الفصول وتماهيها على الرغم من تقسيمها ، تقسيم كل فصل إلى مقاطع ذات أرقام ، ربما تطول هنا أو تقصر هناك ، لكنها تتعانق في تناغم ناعم ومدروس وانسجام مقبول ومأنوس ، لتصل في نهاية الفصل السابع عشر إلى خاتمة مبهمة ، غامضة ، تندفع معها تساؤلات .
وسيتمتم آنذاك بكلمات ، أو سنصغي بعدها إلى همهمات !!
ثم ماذا ؟…
العودة إلى البرية ، أو الدعوة إليها ، دعوة إلى ترك هذا السواد .
من أجل نهار قادم من اجل نهار متجدد يملأ العمر والسنوات ويختزل كل شيء !!
إنّ أجمل النهايات هي المفتوحة على كل الجهات ، أو هكذا يمكن أن يقال في الفن … وإنّ أجمل الكلمات هي الكلمات المواربة التي لا تنقاد إليك بسهولة ، الكلمات المتمنّعة التي تجعلك تلوب بحثاً عن أهدافها وسهامها ، ومراميها وإن أجمل النصوص هي التي تفتح أمامك سيلاً من الأسئلة والاستفسارات ربّما لأن المغطى في الفن أكثر جمالاً من المكشوف ، والمستتر الخفي أشدّ إثارة من الظاهر المعلن، لقد ملأ غسان كامل ونوس روايته (( أوقات برية)) بالتداعيات ، فما من فصل إلاّ شدّنا (سعيد) فيه إلى مونولوجه الداخلي ، وتداعياته المتشابكة، الراوي هنا هو سعيد .
الحاضر في كل الفصول ، وفي الوقت نفسه كانت الشخصيات الأخرى كلها تدور حوله ، أبو حمد –الزوجة- سعدون – حماد – فراس – سلوم – زوجة السيد (هناء) – السيد- جمال ( السائق الوسيم العليم) – ثم هنادي التي ظهرت في الفصول الأخيرة من الرواية ، على الرغم من أثرها الذي يحفر قديماً في ذاكرة الراوي سعيد .
ولا غرابة لأنّ القارئ لن يكتشف اسم الراوي الأول إلا في الفصل الثامن ( في الصفحة 58) والتداعيات السردية اتسعت مساحتها .
حتى شغلت ثلثي الرواية ، ويمكن أن تسمى هذه الرواية رواية تداعيات فسرعان ما تقدم نفسها في كل فصل ( انظر الفصول التاسع والعاشر والحادي عشر وما يليها ) وهي تتداخل تداخلاً مدهشاً، تبدأ هنا وتنقطع هناك ثم تدور لتكمل ما بدأته في هذا الفصل ثم تتوقف ، ولتستمر بعدئذ في مكان آخر من الرواية ويبدو أنّ هذا يعطي للعمل الإبداعي نكهة مميزة وحضوراً طاغياً يفرض نفسه على القارئ المتمعن والشخصيات كلها لا تكشف عن نفسها بسهولة، يقدمها الكاتب على شكل جرعات صغيرة لا يعرّف الراوي بتداعياته الطويلة إلا من زاوية ضيقة ، يفتحها أو يجعلها تنفرج قليلاً قليلاً ليقدم لنا سعدون – طبيب المستقبل أو سلوم أو حماد أو هناء أو … أو غيرهن من شخصيات الرواية يظهرون في كل فصل ثم يمضون تتشكل ملامحهم من خلال حواراتهم أو دوافعهم أو سلوكهم ، هم أناس يعيشون الحياة بحلوها ومرّها ، يعيشونها طولاً وعرضاً بتوقهم وأمانيهم ، والكاتب يرصد بسخاء نهمهم وجهّم للمرأة ولا يتوانى في أي فصل من فصول الرواية عن التعرض للمرأة، يحفر في الصميم أفانين الشغف والاهتمام بها لدى سعدون والكهل وسلوم ، بل يصل به الحفر إلى فلسفة خاصة لها صلة بمؤخرة المرأة ( انظر الصفحات 82-83-84- من الرواية ) وكذلك ( الصفحات 98-99…منه) وكذلك ( الفصل الثالث عشر وفيه مقاربة لتجارب سعدون وسلوم وبعض الأصدقاء الجنسية وتفصيل ما لا يرى !!) وكذلك ( أحاديث الطلاب الجامعيين والحوار المكشوف عن المرأة والجنس والرغبة ) ومع ذلك كله يبقى الكاتب محترساً فيما يقدم من تداعيات حول هذا الموضوع الحساس فيكتفي بالإيحاءات والإشارات والتلميحات أو يمرر مقولته مروراً سريعاً ولا يتوقف عند التفاصيل ، وهذه طريقة ذكية طريقة تنأى عن الابتذال والإسعاف ، فالفن الروائي بعامة يغتني بالتلميح لا بالتصريح ، وبالإشارة لا بالمباشرة الفن الرفيع يتطلب الرفعة دائماً ، يتطلب السمو والارتقاء …. أوقات برية والفلسفة
هناك غوص في الفلسفة ، هذا ما يراه القارئ المتأني ، فهل تحتمل هذه الفصول الروائية ذلك هل يتحمل السرد الذي من مهمته أن يفصح ويشير إلى الأحداث والشخوص والتحولات !! كل التفاصيل مشغولة بطريقة ما بالفلسفة ، الكاتب يغوص في كل صفحة تحليلاً وعمقاً في رصد الحالة الشعورية لهذا الراوي أو لتلك الشخصية ، الكاتب مشغول بأسئلة مصيرية عن الحياة ، عن الحب ، عن المرأة ، عن الأشياء عن الكائنات الحية في هذا الكون، الحوارات لا تنتهي حول الزراعة ، وعلاقة الطب بها أو العلوم والأحياء النباتية ، والزروع والأثمار ( انظر ص40 وما بعدها ) ثم ( انظر نهاية الفصل السادس وهي نهاية بحثية تساؤلية تثير كثيراً من الدهشة ، حتى إنّ القارئ يحار : هل يقرأ في رواية أم في بحث فلسفي !!) ، وربما لتداخل مستويات السرد تفقد بعض الفصول عنصر التشويق فيها ، وعلى سبيل المثال يأتي الفصل العاشر بمقاطعه المبهمة محّيراً، ولا يخرج المتمعن فيه بطائل ، وهو لا يقدم ولا يؤخر من السرد الروائي ، يأتي هذا المقطع على النحو التالي :
-الزحمة قاموس يهيمن ، وتفاصيل تضيع ، وحدود تتماهى ، وأشياء تتداخل ، عواطف ومشاعر وأحاسيس ورود وأفعال وأصداء وحجوم وأصوات ، هيا كل تتقاصر أو تتطاول ، تتخاصر أو تتكاتف ، تتدافع أو تتعارك وتساق الأصداء المجرحة إلى مجار تتوحد ، ومصب يتسع لكل شيء … ألخ ( انظر ص 85-86-87-88-89-90)
وفي لغة مركبة وجمل طويلة يرتبك القارئ أحياناً ، وربما يندفع إلى تقليب بعض الصفحات بسرعة أو يخوض فيها مدارياً تشتته في مفاصل السرد المتقطع بين الراوي ( سعيد على الأعم الأغلب) والآخرين .
ولو أراد الكاتب أن يسمي الأشياء بمسمياتها لكان النص الروائي لديه أبلغ تأثيراً وأكثر قرباً ، وأشد التصاقاً وحميمية ، فالمدينة هي اللاذقية ( مثلاً)
والعلّية هي العلية أو الدالية أو أية قرية صغيرة على تخوم الشاطئ البحري ، أو فوق سفوح الجبل الصاعد ، والجامعة هي الجامعة بشوارعها وطرقاتها ، والحارة هي الحارة بأزقتها وأبوابها ودروبها وبيوتها وشبابيكها ولكنه أراد شيئاً ، ورغب القارئ في أشياء ، ولا يصحّ الحكم كما يشاء! ! على حدّ قول الشاعر الحصيف:
وقل لمن يدّعي في العلم فلسفة
عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء (!!)
إشارات لا بدّ منها
كان لمشاركة الطبيعة في الفصل الحادي عشر من رواية (( أوقات برية )) أثر بليغ في افتتان القارئ المتأمل بخاصة في المقطع الرابع من هذا الفصل .
فالطبيعة التي تعبق بروائح الخصب هي نفسها التي تثير كوامن النفس البشرية ، فتعلن عن توقها وعشقها وتعلقها بالحياة .( في مثل تلك الأوقات التي تصعد حال المواء والركض في أي اتجاه ، هرباً أم تهرّباً ، أم ترغباً وتشويقاً ؟!! إلى ماذا أفرّ وإلى أين)) ( ص99) وكان لحديث سعدون في سياق الفصل تحليق بعيد الغور ،عميق الدلالة ، يومي إلى امتلاك الكاتب ناصية السرد ، ومعرفته بدقائق الأحاسيس ( لم تكن الوحيد في ذلك ، كل الكائنات التي تمشي مثلك ، الكائنات التي تنمو ، تزهر ، تلوح .
والأخرى التي تموء ، تعوي ، تخور ، تثغو ، أو تصيح ، تدبّ ، تمتطي .
تركض ، والتي تزقزق وتزقو وتنوح ، تفرد أجنحتها وتطويها تطيراً واستحماءً ، الوقت مهيض ، والدفء يسري ، والحماسة فرس أصيلة )
( انظر ص 99 أيضاً)
-يولع الكاتب أحياناً بالتفاصيل والمنمنمات ، يولع بالأسئلة والإجابات يولع بالتحليلات الدقيقة، ونصب الشراك للقارئ والمفاجآت .
فالراوي سعيد لا يكشف عن نفسه إلا بعد ستين صفحة ، والسيدة هي هناء نفسها بنت العلية ، وهنادي لا تظهر إلاّ في الفصلين الأخيرين وسعدون دارس الطب لا تتضح شخصيته وانتهازيته إلاّ في منتصف الرواية، وشغف الراوي ( سعيد) بكل مؤخرة هاجس خفيّ، لا يفصح عنه بسهولة ، والسيدة تفضح نفسها مع سعيد متأخرة حتى الصفحات الأخيرة في الرواية ( الفصل الخامس عشر تحديداً) إذ كانت غائبة حاضرة في الرواية ثم جاءت طاغية متجبرة تجرّ طريدها جرّ النعاج إلى قصرها لتمارس الجنس!!
-أوقات برية رواية عصيته لأول وهلة ، لكن القارئ المتأني حين يصبر على امتطاء صفحاتها الأولى سيجد متعة حقيقة في ملاحقة منحنيات الضوء في كل صفحة ، وسيلقى متعة اكبر حين تتابع الفصول بروية ويسر ، وينطلق معها إلى النهاية بعد أن تشف وترفّ بين يديه كلّ الكلمات العذبة والتداعيات المتناغمة …. – التقط الكاتب من نبض الواقع صوراً ومشاهد تستحق أن تتحوّل إلى لقطات سينمائية باذخة ضمن إطار الواقع والمحلية . ( * دعوة بنت صاحب البيت مع أخيها فارس إلى السهرة مع القهوة !
* أبو زرد لا يرد للسيدة طلباً وهي تتحرش بـ (سعيد) !
* المزرعة في فترة الإزهار والتقاطع مع تداعيات العمل في المزرعة نفسها !!
*بلوغ النشوة ومن بعد ذلك الحزن والتأسي والشعور بالوحدة ( ص 96-97-98) .
*كيس الفراشات والشعور بالخيبة والانكسار بعد فتح الكيس أمام مدرس العلوم ، وربط ذلك بالصراع بين الكائنات .
*دعوة السيدة الفاضحة والوردة المريضة بحاجة إلى دواء!!
* المزرعة وتقزم أشجارها ومرض نباتاتها وتهديد السيد وكلامه حول الجامعة والتعليم والبحث عن حل محتمل أو السجن !!
* السائق جمال وهو ( الوسيم العليم ) وتحليقاته مع الشبح ( سيارة المرسيدس) وتعليقاته وتجليّاته مع أبو سيف وحكايات التهريب والمفاتيح !! ثم الطلب إلى سعيد ليدخل اللعبة معها !
*فلسفة سعدون للأمور الجنسية وتطبيقاته ، والتمثل بتفسيره الخاطئ لهذه الأمور الحساسة !…)
أخيراً : – رواية أوقات برية رواية طازجة ، مكتوبة بمهارة وتأنّ وقراءتها الهادئة تكشف عن أشياء بعيدة المدى، بعيدة التأثير ، بعيدة المقصد والهدف ، بالغة الدلالة ، قراءتها تدفع بك إلى كثير من التساؤلات ، كثير من الإشارات.
وهي مفتوحة الذراعين على رحبهما ، تستقبل الحياة وتنهض بالحب ، وتسمو بالإنسان .. وتدعوه إلى زمن البراءة والطهر والعذوبة والشفافية …
الكتاب : أوقات برية ( رواية)
المؤلف : غسان كامل ونوس
الناشر :دار إنانا – دمشق 2006.

*

اترك رداً