الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2013-12-04

لم يكن الشكّ بلا مسوّغ، ولا القلق والهواجس بلا أساس؛ فالتاريخ قريب، والاجتماعات الأخيرة لاتزال في المشهد؛ لكنّ ذلك لم يحُل دون الإقدام،

أو التحليق في مرحلتين صوب الجنوب الشرقي للجسد العربي المعنّى، عُمان، الموئلِ البعيد عن العين؛ بل المثال في البعد، كما ورد في أقوال عديدة، حسب إحدى أوراق ندوة مرافقة ستقام، غيرِ البعيد عن القلب كما في الإحساس، الذي لم يخِبْ، وكما تبيّنَ في الواقع منذ الوصول إلى مسقط، للمشاركة في اجتماعات الدورة السابعة والعشرين للمكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب؛ الاستقبال الباسم، والدفء الذي شكّل غلالة شفيفة من الرضا، تماهت مع آثار مطر توقّف توّاً؛ خطوُنا أخضر، كما قال المضيفون، وقلنا: بل هي الآمال الخضراء، التي تصّاعد من العشب حتى أغصان أشجار القرم التي سترافقنا بعد قليل، وتستطيع أن تعيش في التربة المالحة؛ بل إنها القلوب البيضاء؛ فلا تكاد تمضي أوقات قليلة، حتّى تكتشف أنّ هذا اللون، الذي يكاد يغطي كلّ شيء في العاصمة، وفي سواها مما تهيّأت لنا معاينته، وما أُخبِرنا به، لا يقتصر على العناصر المادية، إنما يفيض من الدواخل، وينعكس سلوكات وتعبيرات، سرعان ما تتأكّد أنّها ليست مجامِلة أو عابرة، ولا تخصّ الكتّاب والأدباء في الجمعية العُمانية صاحبة الضيافة، وسواهم من المثقفين، وإنما تكاد تشمل مختلف شرائح الشعب الشقيق..‏

وتتكامل الألفة مع الْتِمام شمل الأدباء والكتاب العرب، وائتلاق اللقاءات، وانطلاق الحوارات، وجريان التساؤلات الممهّدة، قبل تكاثف الأسئلة المباشرة، والمواقف المحددة.. الأحوال مقلقة في مختلف الأقطار العربية، لا خلاف على ذلك، وهناك حاجات للناس ومطالب مشروعة وحقوق؛ لا شكّ في ذلك، ولا مواربة، ولاشكّ أيضاً في أنّ هناك أيديَ غريبة آثمة، وأدوات محلية حارقة محترقة، وجهات مستفيدة قبل التحركات (الشعبية) ومنها، وتنتظر (الاستفادة) مما يلي..‏

هناك من آثروا السكوت من أصحاب الكلمة العرب، واكتفوا بالسلام والتحايا، حتّى في الاجتماعات الرسمية التي يفترض فيها القول؛ لكنّ هناك من قال ما يحسّه النبض، وما تعانيه الروح، وما يُرى بأكثر من العين، وما يحلله العقل وما يستنتجه الوعي، وكشفَ عن وقائع وحقائق، وسمّى الأشياء بمسمياتها؛ ليست مواقف المثقفين العرب عامة ما يشفي الغليل، ولا مواقف المؤسسات الثقافية الرسمية والأطر التي تضمهم تكفي حيال ما يجري من فصول، ليس الربيع بينها، كما أكّد غالبية الحاضرين في مسقط، وقد أكدتْ ذلك الأحوال التي نتأتْ بعدها في أكثر من بلد، وكانت ذريعة للانفضاض عن فلسطين المحتلة، مع محاولات استدراج المثقفين الفلسطينيين، وتوريط المثقفين الآخرين في مواقف وأقوال وأعمال ومنزلقات مادية وإعلامية ومعنوية، ومنها الجوائز المشكوك في استحقاقها.. كما جاء في البيانات التي تمخضت عن الاجتماع، وتضمنت أيضاً التحذير من استشراء الفكر التكفيري في مختلف شرائح المجتمع العربي، وضرورة مواجهته، وأهمية أن يعود للثقافة موقعها المتقدم ودورها الرائد في المسؤولية والمواجهة التي توسعتْ ميادينها، وتشعّبت سبلها؛ لأنّ وجوه العدوان تعددتْ، وتعقّدت أساليبه، واقتربتْ عناصره حتّى صارت تصول وتجول بين ظهرانينا؛ وإن كان المعتدون يُضطَرون أحياناً إلى الكشف عن حقدهم وقتامة غاياتهم، حين يجدون مرتعاً مريحاً، أو مواجهة عنيدة واعية، كما تبدّى ذلك في التهديد الأمريكي بالعدوان المباشر على سورية منذ وقت ليس بعيداً..‏

قال أدباء من بلد ظهر فيه (الحراك) باكراً: يا أخوتنا السوريين اعتبروا مما جرى عندنا، هناك من يبكي على ما كان، وقال آخرون: إننا خجلون من أن بعض مواطنينا ذهبوا ليقاتلوكم، وقال كتّاب من أرض الكنانة: إننا نشتمّ رائحة الوحدة بين سورية ومصر، وقالت الغالبية: إن الوضع في سورية مختلف عن سواه في الأقطار الأخرى، والاستهداف هو للدور المقاوم الذي تقومون به في مواجهة الاحتلال والاستغلال والتبعية، واستقلال قراركم، ورؤيتكم البعيدة والعميقة للقضايا المصيرية للأمة العربية..‏

وقلنا وقال سوانا يُفترَض أن يعبّر المثقفون عن موقف جليّ، وفكر نيّر، وتبصّر وفهم ووعي، ومسؤولية وطنية وقومية، فكانت البيانات التي تشكّل انعطافة مهمة وخطوة متقدمة عمّا كان، وإن كانت لا تكفي وحدها، كما جاءت الإشارة فيها إلى ذلك أيضاً.‏

أمّا عن عُمان والعُمانيين، فالحديث يطول؛ لكنّني أقول: شكراً لكم أيها الأشقّاء، شكراً لنبلكم ووعيكم وصدق مشاعركم تجاه سورية الدولة والمؤسسات والشعب، سورية العربية التي ستخرج من المحنة أقوى مما كانت، وهذا ما ترغبون به، وستستمر في مواقفها القومية التي تعرفون وتقدرون وتتمنّون، وستبقى أمينة على الوشائج والصِّلات والعرى الوثقى مع أشقائها، حريصة على المودة والألفة والثقة تجاه من أخلص ووفى، وبقي على العهد في أحلك الظروف..‏

بقي أن نكون نحن السوريين، ولا سيما المثقفين، ما يجب أن نكون عليه في مثل هذه الأحوال الاستثنائية، حتّى نعطي الآخرين أشقّاء وأصدقاء، أدباء وكتاباً ومواطنين، دوافعَ أكبر، وأسباباً أكثر إقناعاً، وحججاً أكثر صلابة؛ هم الذين أحسست بينهم ومعهم بالانتعاش والكبَر، كأنّني تناولت جرعة إضافية من المناعة والضّوع، ها أنا أحاول أن أنثرها، وأبثّ عطرها الفواح، علّها تفيض مناعة وثقة وأماناً..‏

اترك رداً