دليل آخر!
غسان كامل ونوس
لا أحتاج إلى دليل آخر، لم أعد أحتاج!
لا أنتظر شاهداً آخر؛ فيداكَ، وفوكَ، والدعوات المسعورة، والدّخان المسودّ، والحرائق المتنقّلة، والدويّ المباغت.. والمعتاد. الأشلاء والحروق والدمامل والندبات، الآهات والولولات والصلوات..
لست أحتاج بعد إلى المزيد من الأفعال المنكرة، لأتأكد من أنّ من يقوم بها مُفتقِدٌ للسمات البشرية العاقلة، وخالٍ من الإنسانية!
لست أحتاج إلى المزيد من الأصداء الحمقاء، والتسويغات الفاجرة، والأعذار الأقبح من الذنوب.. ولا أرغب بالاستماع إلى الاعترافات التي تأتي متأخّرة وبلا فضيلة، والإدانات الممجوجة، والاستنكارات التي.. تمشي مع الجنازات، ولا أتقبّل التصريحات المعمّاة والعبارات المنتقاة، كي تتجنّب التلميح إلى ما قد يشير إلى القاتل، وحتى لا تؤذي مشاعره؛ بل تحميه، وتترك أمامه الأبواب لينفذ منها إلى جرم آخر، وضحايا، وخراب..
لا.. لا أحتاج إلى المزيد من شرورك، ولن أرضى؛
الدرب لستَ من حدّدتَها، لتزرعها بالمسامير والأشواك..
الوقت لستَ مُسيِّرَهُ، حتى تحاصره وتشرذمه، وتنفث فيه سمومك وأحقادك..
الجسد ليس في عهدتك، حتى تقطّعه وتمزّعه وتفتته..
ولستَ مَلكَ الموت المرسلَ ليطارد الأرواح، فتفرّ منه بالجملة!
أنت لا تملك مفاتيح الكنوز، ولا تخبّئ جرار العسل، ولا توزّع المصائر وشهادات الخلاص؛ ولستَ أهلاً لذلك!
وأنا..
لا أتوسّل ولا أتزلّف، لا أرجو منك ولا أتأمّل.. ولستُ في وارد التذمّر أو الشكوى، أو القنوط..
فأنت خارج الزمن/زمني، وفاقد المدار/مدار الكوكب الذي يترنّح من سوء ما حمل! وأنت عابر اليمّ بلا ريح، ومارق اللحظات بلا روح، وعالق في علّيق السفوح بلا وجه أو ملامح!
أنت شيطان الحكايا وبعبع الأوقات الحميمة..
ولكن شُبّهَ لك!
لا المركب ينتظر إشارتك، ولا الشراع يأبه بأهوائك مهما اشتدّت، ولا المرساة تحمل بصماتك!
لا الموكب رهنُ سيفك، ولا الطعنُ وقفٌ على غايتك..
لا الموئل يصطفيك، ولا المآل يرحمك، ولا المآب حسن!
لم يبق لديك الكثير، وما قصرتَ، ولستَ وحدك؛ والقليل لن يفيدك، ولن يغيّر من حقيقة الأمر شيئاً.. ولا يحتاج إليه حتى من في آذانهم وقر، وفي أفكارهم عَنَتٌ وعِنْدٌ، وفي مشاعرهم مقت وحقد، وفي جيوبهم ثقوب، وفي نواياهم المزيد من الدم والقتامة.. فأنتم في الجريرة سواء، وفي الخطيئة والنكران والعقوق سواء بسواء، وأنتم من القرب والقرابة والألفة والمشاركة براء..
أعرف أنك لا تسمعني، لأنك ربما في جحر تُفخّخ، أو تراجع القوائم التي تنتظر غدرك، أو تتلقّى الأوامر السوداء، وقد تكون في وضح النهار وعرض الطريق تراقب أو تنتظر أو تستعرض، أو في مكتب وأضواء توزّع المهمات، أو تزيّن أو تضلل، أو تجيّر أو تحوّل على الحساب..
لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى، وأحتاج إلى مزيد من الصبر والمصابرة للتحمّل والاصطبار، وأحتاج إلى مزيد من الحكمة لأستوعب أنك في سوءتك الأخيرة، وفي آخر الدّرك الذي لن يكون لك صعود بعده..
ولا أحتاج إلى أن أفكر أكثر؛ فأنا أعرف منذ البداية، منذ ما قبل البداية، البدايات الأخرى، والنهايات التي مرت، أنك ستعود بهذه الهيئة أو تلك، بهذا الفعل أو سواه، في هذا التوقيت أو في توقيت آخر؛ وأنك لستَ وحدك، وأن المشكلة ليست معك، ولستَ سوى أداة أو حشرة، أو ذريعة، أو كبسولة، أو زناد أو مقذوف..
ولا أنزعج كثيراً مما يوجّه إليّ من تهم مرة: الطيبة أو التسامح، أو غضّ الطرف عن الهفوات، أو الترفّع عن المعاملة بما يوازي السيئات..
ولا أخشى الكلام في أيّ حديث عن التقصير في معالجة القصور وتدعيم محسّنات الأمور، ولا أهاب التخويض في أيّ ميدان شريف للمنافسة، وأيّ مجال نبيل للخصومة! لا لأن المذمّة تأتي من أمثالك، وأنني لست بكامل؛ بل لأنني بشر أخطئ وأصيب، وأحسّ وأشعر وأحبّ وأكره، وأتألّم لوجع الآخرين، كما وجعي، وأحسب حساب أذيّتهم في أيّ تصرّف أو سلوك قد أضطرّ إليه؛ لأنني ما زلت أحيا، وقد ماتت فيكَ الحواس أو تشوهتْ وتبدلتْ؛ لأنني ما زلت حياً، وما تزال لديّ المروءة والحماسة لإبقاء شحنة الخير والخصوبة هي الأقوى، وما زلتُ مصرّاً على البقاء والارتقاء، وقادراً على الصمود والمواجهة..
إنني ما زلت على قيد الحياة، الحياة التي تحتاج إلى أمثالك، وأمثال من وراءك، ليظهر الفارق، ولتتضح الصورة، ويكتمل المشهد، بالمقارنة الفطرية والعقلية الضرورية بين من يستحقّ الحياة، ومن لا يريدها إلا لنفسه، وقد ساء سبيلا!!
***