الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

خَيار واحتمالات

ملحق الثورة الثقافيّ-

غسان كامل ونوس-

في مسار العمر الجادّ إلى نهايته؛ بلا أدنى شكّ، تضاريس مختلفة، وتعرّجات، ومنعطفات ومفارق، لكنّ كلّ التفرّعات المختارة، ستنتهي بك، وبكيانك، وبأحيازك، التي كنت تشغلها في مواقع متعدّدة. وحين تختار سمتاً وطريقاً، فلا بدّ من أنّك ستفقد خيارات أخرى، قد تكون أفضل وأيسر، وقد لا تكون! والأمر ذاته سيحدث، إن لم تختر، ومضيت كما يريد سواك؛ فعدم الخيار خيار، واحتمالات، ونتائج، ستتحمّل تبعاتها ومسؤوليّاتها أيضاً. وتبقى الخيارات المتاحة، دلائل، تتدخّل في التصرّف حيالها، وتُراعى في الإقدام على أيّ منها؛ كما تعدّ القدرة الشخصيّة على تمييز الأكثر مناسبة، مؤشّراً مهمّاً؛ إضافة إلى مؤشّرات أخرى قد لا تنتهي- ربّما؛ منها المواهب والهوايات والمَلَكات والرغبات والقابليّة والاستعداد الفطريّ، والتحصيل المكتسب، والظروف المحيطة بالشخص، والمتّصلة بالزمان وما يرافقه، والمكان وما فيه، وكثافة الكوادر والعناصر وإمكانيّاتها وفعاليّتها وحيويّتها، ودرجة مواكبتها، أو معارضتها… وبقدر ما يشكّل تعدّد الفرص، زيادة في إمكانيّات الاختيار الأقرب إلى ما يريده الشخص، أو يطمح إليه، أو يوائمه، فإنّ ذلك قد يزيد من حيرة المرء، وأهمّيّة الاختيار، ومضاعفة العوامل الأخرى وتأثيراتها المتشابكة. وهذا ما قد يسبّب إرباكاً لمن سيختار؛ ولا سيّما أنّ المتدخّلين في هذا كثر؛ ممّن يعنيهم الأمر؛ وهذا طبيعيّ، ومألوف، وقد يكون مفيداً ومطلوباً؛ وممّن لا يعنيهم؛ وهم الأكثر عدداً وحماسة! وقد تصحّ المقاربات، والمقارنات، والأمثلة، والروايات، والتقييمات، والشواهد، لدى آخرين، وقد لا تصيب، وتدخل فيها الأهواء الشخصيّة، والعواطف، والميول، والغرائز الإيجابيّة والسلبيّة؛ وتسهم في مفاقمة التشويش والتعكير؛ كما أنّ ما يناسب كائناً، قد لا يناسب آخر، وما كان من تجارب، ووقائع، وسلوكات، ومحصّلات، تختلف أيضاً.

ومع ذلك، وفي ضوء كلّ هذا، فإنّ الأهمّ أن يكون الشخص المعنيّ مباشرة في المسار، هو من يختار، ولا مانع؛ بل لا بدّ من بحث واستشارة وتساؤلات؛ تفترض الإجابة والعرض، من دون الإلحاح والفرض؛ ليكون الشخص مسؤولاً أمام نفسه، والآخرين، والحياة؛ بدلاً من اتّهام الظروف وسواها، ولا تسلم الأقدار العُلويّة من تحميلها الأوزار؛ فيما قد تهمل أهمّيّة الأقدار الأرضيّة، أو تحيّد، أو تجنّب؛ لهيمنة، ونفوذ، وخوف، وعجز.

لا شكّ في أنّ مشكلات وعثرات تنهض، أو تكمن، في أيّ درب، وأنّ في أيّ سمت رياحاً ومتحرّكات وجاذبيّات ودوافع، ولكلّ سائر غايات وطاقات وعلاقات ومرجعيّات ومستجدّات؛ لهذا تكون الجدوى متباينة، ومتفاوتة، وتغدو أفضل وأعلى، حين يحضّر للحالات نفسيّاً ومادّيّاً؛ فتجمّع المعلومات، وتنتخب الأفكار، وتُهَيّأ الأدوات والوسائل، وتحصّن الميادين والبيادر، وتحسّن المواصفات والمعطيات لدى المشتغلين في هذا الأمر.     

ونخطئ كثيراً، حين نعتقد جازمين، أنّ هناك خياراً صحيحاً تماماً، وخياراً خائباً تماماً؛ فهذا من المستحيل تأكيده؛ لأنّ في كلّ احتمال احتمالات أمامه، وأخرى بناء عليه، وفي كلّ منها تفاصيل وحيثيّات، لكلّ منها نظرة وموقف وتقييم، تقوم نتائجها على رؤية  وموقع، وخصال، ومصلحة، وعمر، وعصر، وظروف، وتطوّرات، وأحداث مألوفة أو طارئة، وشؤون أخرى، متّصلة أو منبتّة؛ يمكن أن تؤثّر على النفسيّة، والحالة الذهنيّة والعقليّة والصحّيّة، تضاف إلى الحالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمسؤوليّات، والحضور أو الغياب، والإسهامات الشخصيّة الآنيّة والمستقبليّة.. وبما أنّ أيّاً منّا لا يعيش وحيداً، في بقعة منعزلة عن الكائنات الأخرى، فإنّ هناك تأثيراً لكلّ هذا في المجرى الخاصّ والعامّ، الشخصيّ والأسرويّ والمجتمعيّ والمؤسّسيّ والوطنيّ والإنسانيّ، القريب أو البعيد؛ زماناً ومكاناً، وعلى مستوى الحيّز المباشر والأحياز غير المباشرة؛ وصولاً إلى العالم؛ مع الأخذ بالحسبان ما قد كان من قبل الشخص وسواه، وما قد يكون..

ولهذا يمكن أن يحدث تعديل في النظر إلى تجربة كائن ما، إذا ما كانت فاشلة أو ناجحة، حسب وجهة النظر، وصاحبها، ورصيده، وموقفه، ومنطلقه، وقناعاته ومرجعيّاته؛ وما قد يكون إنجازاً لدى نفر من الناس، قد يكون إخفاقاً عند آخرين؛ كما أنّ هناك أفكاراً شائعة، ودروباً مطروقة، وتقييمات جاهزة، ورؤى عامّة، ووضعيّات مزمنة لشريحة محدّدة، أو لمواطني منطقة، تسوّق لمسارات وجهات، وتدفع عدداً من الناس فيها وإليها؛ بحكم الإرث، والعادة، والحاجة، والانقياد، والتقليد، وعدم الاستقلاليّة، والعجز عن الرفض الفرضيّ والمواجهة الجمعيّة، وعدم القدرة على الإقناع، وحتّى الاقتناع! ممّا يؤدّي إلى استمراء السائد، وتأخّر انزياح الرؤى، وتعثّر تبدّلها؛ ومن الطبيعيّ هنا، أن يحدث تضليل في موضوع الاختيار، والتقييم، واحتساب الجدوى، وقد تسهم في هذا جهات نافذة خاصّة وعامّة، ووسائل إعلام متعدّدة التمويل والاستهداف والمبتغى، فتتشابه الوجوه، وتتكاثف الكفاءات المتماثلة، ويقلّ التنوّع، ويستحيل التكامل، وتتشوّش المصائر، وتتأخّر الإنجازات…

صحيح أنّ قيمة التحصيل العلمي، ليست موضع شكّ أو خلاف؛ لكنّ هذا الإجماع قد يمنع موهوبين من إشباع توقهم وطموحهم واحتياجاتهم المبدعة في فضاءات أخرى، وهناك من ينجح في جمع المعلومات النظريّة، ويتردّد في عمليّة استثمارها، والحالة المعكوسة واردة أيضاً؛ فهناك مهرة وخبراء في التطبيق، ومتأخّرون في الحفظ والاختبارات النظريّة… وتكاد مجالات وإمكانيّات ومهن، تستهلك طاقات وجهوداً وأعماراً وأجيالاً، كان يمكن أن تعطي كثير، وتنجز أكثر، لو وجّهت إلى جداول وسموت وآفاق أخرى.

لهذا؛ فإنّ مفهوم الصواب والخطأ في التقييم، إشكاليّ ومراوغ، ومن المهمّ عدم الانصياع له، والوقوف عند تردّداته وانعكاساته، ويمكن لكثيرين- وقد حدث هذا، ويحدث- أن يتميّزوا في أعمالهم، ومواقعهم، تلك التي لم يختاروها، أو تلك التي لا تعدّ في سلّم التفوّق، وتكون لهم بصمات واختراعات؛ فيما وقع آخرون ضحيّة أهوائهم الغائمة، وخياراتهم الخائبة، أو ضاعوا، واُستنزفوا، في مغبّة الرائج، والاستهلاكيّ، والمعوّم، من نصائح، وألقاب، وشعارات، وعنوانات خلّبيّة.

إنّ النجاح الحقيقيّ، يكمن في التوجيه الصحيح، والتوجّه المسوّغ، والخيار المرغوب بمعرفة وحبّ وحماسة، وبذل الجهد والوقت والفكر في الإزكاء والإغناء والتشذيب والتدعيم والتأهيل والتحديث، والعمل بروح ومسؤوليّة وجدّيّة؛ لإرضاء النفس والحاجة، وتحقيق ما يفيد الناس إلى أقصى إمكانيّة وأبعد مدى.   

***

غسان كامل ونوس     

اترك رداً