نتساءل أحياناً؛ بل غالباً، عن سرّ قلّةِ اهتمام الآخرين بأمورنا، وعدم اقتناعهم -ربّما- بأفكارنا، ونستغرب مواقفهم المستخفّة أو غير المتفهِّمة عموماً، وغير المقدِّرة.. ومن دون أن نسأل أنفسنا، نحمّل الأسباب على الآخرين، الذين لا يحترموننا، ولا يريدون لنا الخير، وهم يفكّرون في مصالحهم فقط، متناسين بقيّة الخلق، أو متغافلين عن أوضاعهم وغاياتهم وحاجاتهم، أو مستغلّين إمكانيّات سواهم، بَعُدوا أم قَرُبوا..
وقد يكون هذا صحيحاً بهذه النسبة أو تلك، وإلى هذا الحدّ من القسوة والمرارة أو ذاك! ولكن.. من قال إنّ علينا أن لا نفكّر بمصالحنا، ونحقّق غايات الآخرين؟! أو علينا ألّا نسعى إلى تحقيق أهدافنا، لا أن نجهد في سبيل أهداف الآخرين؟! إلّا إذا تلاقت هذه المصالح، وفق سياقاتها التي قد تفترق وتلك الأهداف، في ظروف صحيّة، وشروط إنسانية؛ وما الذي يمنعنا من ذلك، ومن يحقّ له الوقوف في وجه أمانينا وأحلامنا، التي نرغب في أن تتحقّق؟! لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك أن نقتنع نحن بجدوانا، بكياننا، بحضورنا، ومن ثمّ نقنع الآخرين بأهميّتنا في البحث عن سبلٍ، تؤمّن تحقيق الأهداف، وَنُظهِر معرفتنا بما نملك من إمكانيّات، أو تلك التي في متناولنا، وليست تابعة للآخرين، أو مسيّرة من قبلهم، ونؤكّد مصداقيّتنا في ما نقول ونفعل.
وقبل ذلك، وكي يكون الإقناع أسهل، والمحاولات أكثر جدوى، لا بدّ من أن تكون هناك شواهد يُعتَدّ بها، وأمثلة قادرة على النهوض والإقناع.
والأَولى أن نكون في تعاملنا الذاتيّ، وعلاقتنا البينيّة، ومواقفِ بعضِنا إزاء بعضنا الآخر، خير الأمثلة ونعم الشواهد؛ فهل نحن كذلك حقّاً؟!
وهل نحن صادقون مع أنفسنا، ونوايانا سليمة، وخطواتنا خيّرة؟!
وهل نملك الإرادة للقيام بما هو مطلوب؟! وهل نعرف ما هو مطلوب لهذه المرحلة أو لأيّة مرحلة؟!
وهل نحن واثقون بإمكانيّاتنا، ساعون إلى المزيد منها، عارفون بالطرق وعثراتها، والسبل وتعرّجاتها، والحفر والمطبّات وأسبابها وأبعادها، وما وراءها؟! وهل لدينا الثقة بتجاوزها، أو بالقدرة على استمرار المحاولات من دون تردّد وتسويغ وتهويل؟!إنّ الوقت الذي نهدره في تشويه أنفسنا أمام أنفسنا، بقصد أو من دونه، والجهد الذي نبذله اختصاماً وانفصاماً، وانتصاراً خلّبياً حتّى على عناصرنا، والدم الذي نهرقه بلا معنى، والعرق الذي لا يكاد يجفّ، واصطناع قوّة بعضنا على البعض الآخر، وابتداع أساليب السيطرة والانتقام والإذلال.. كلّ ذلك يكفي للتحصين الذاتي، والتقوية والتدعيم والتوثيق والتمتين؛ وهذا مهمّ وضروريّ في وجودنا مقابل الآخر، أو حتّى معه؛ مشاركينه بناء الحضارة والتقدّم العلميّ والمعرفيّ والمجتمعيّ الإنسانيّ.. كما هو مهمّ في مواجهته، إذا ما حاول الاستهانة بعقولنا وإمكانيّاتنا، أو حاول النيل من وجودنا وكرامتنا؛ لأنّ التضحية تقتضي امتلاك عزّة النفس، والإرادة والقوّة والثقة والمنعة، التي تتكامل في الشخص نفسه، وفي مجموع الأفراد، الذين يشكّلون بنية مجتمعيّة، أو شريحة منسجمة في الحصون، التي تواجه المعتدين في مختلف الظروف والصروف..
ومن الطبيعيّ أن يكون الرصيد منتمياً ومتنامياً، يُستزاد ولا يُنتقَص، يُعتَّق فيجوهِر، ولا يتعفّن، إذا ما كان معدنه كريماً طيّباً أصيلاً. وبعد أن نؤمّن ذلك، يصبح التوقّف عند موقف الآخر منّا، في مجاري البحث عن طبيعة الصراع وأدواته ومدّته ومآله، مفيداً وضروريّاً؛ كي نصل في تحليلنا الوافي، والجادّ، إلى خلاصة تصلح للاعتماد والاعتداد والتعميم، والمواجهة من أجلها، والاستمرار في السعي إلى العيش الكريم الذي نليق به، ويليق بنا.
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموارد ع 6 آذار ونيسان
تاريخ النشر: 2015-05-01
رابط النص الأصلي: almawared.sy