خريف!
ملحق الثورة الثقفيّ-
غسان كامل ونوس-
حين تتلامح تلويحات الخريف، وتتراشق الكيانات بمزق رداءاتها، ونثار نفثاتها، في الهزيع الأخير من الصبر، وحين تقترب الأشياء من خواتيمها، يتوشّح الأمل بالابتراد، تاركاً العناصر تبحث عن مستقرّ لها، في أديم الغياب، ويدّثّر الفجر بعباءته، ويتردّد في الانبعاث خارج رحم الكون العاقر، والأفق يتململ في استوائه المديد، ونوبته المزمنة؛ فاصلاً بين البحر وسمائه، حارساً بوّابة الانطلاق إلى ما وراء الشفق، الذي يترمّد، والمدى الذي يتلبّد.
والورد ينكمش عن بثّ العطر في الفضاء المحصور، وينشغل الغصن بمداراة تعرّيه،
تضيق فسحة الرؤية، وتتحصّن أقانيم الرؤيا، وتتعمّد، ويتوسّل المدّ بالجزر، وينقبض الجزر في الملامح الغاصّة في فقد مراوغ.
تحاول أن تستفسر، يحاصرك الوقع المتقطّع، والأنفاس القاصرة، وآن تهمّ أن تعاتب، أو تشكو، تتردّد أصداء العجز والقنوط، فتقعد حسيراً عسيرا.
أيّها الحادي الأبديّ، يا موّال الأرق المزمن، وسليل التمتمات المتجرّدة، والتعاويذ المتبتّلة، والأدعيات المتبدّدة، والخيبات والحشرجات.
أيّها العنيد المتشبّث بشآبيب الوقت المتهادي بلا دليل، وأذيال الريح المدوّمة بلا محرق.
أيّها القابع في صومعة الزهد المراوغ، وذؤابة الذروة العليّة، وغرّة الحكاية الأزليّة،
أيّها المزدرد مشاهد السوائل المتخثّرة، آخر الرمق، المحترق بشعاع الوجد، المندلع من كوّة الكتمان، المسترق ضوءاً في خاصرة النفق، المحتشد بنبال القريب والبعيد، الصديق والخصيم، الظاهر والخفيّ، الشقيّ والنديّ، العليم والجاهل، القادم والموغل في الضباب.
أيّها المرتزق نسمة، المنتظر قطرة، المعتمر قبّة، المصطفي جمرة، المنتمي إلى قبيلة بائدة.
أيّها العائذ بالستر المهلهل، والسرّ المضاع، والنبض المستهتر، واللحن الشارد، والأمل المسروق، والراية المسدلة.
أيّها المتمرّس بالفصول، المتمترس وراء الأكمة المهجورة، المتفرّس في ارتسامات الغيوم المتناهضة من خلف التلال، وانعكاسات الشعلة على السفح المجدور، المتصدّع من اهتزاز عميق، وارتداد بعيد، المتمرّد على تقاليد الطاعة، وعادات الخنوع، وطقوس التعبّد المجّانيّ، المتودّد إلى عرائس البحر الماجن، وتهيّؤات البرّ المقفر، وفراشات الاحتراق الوشيك، وكائنات الأسى والحرمان، والانفناء والخسران.
ها هي الكيانات ترتعش، والملَكات تبتئس، والأحاسيس إلى انتكاس وإفلاس، والأماني إلى انخماد، والبصر إلى ارتجاع، والبصيرة في التياع.
ها هي المعالم تتداعى، والسراجات تتوانى، والنبوءات تتلاشى، والمآلات تتدانى، والصراخ بلا صوت، والهمس بلا أسماع، والهجس إلى نفاد، والتعبّد بلا خشوع، والخروج بلا استئذان، والوداع بلا حِداد.
كأنّ الأحداث متوقّعة، والوقائع محتملة، والعناقيد معصورة، والنخب في السريرة، والنهايات منتظرة، والمصائر منذورة، ولا حاجة إلى مشيّعين، ولا نوّاحات، ولا وصايا، ولا وعود أو وعيد.
لا تعمّقوا مثواي، ولا داعي للكفن، ولا معنى للزمن، ولا فائدة من الزيارة، ولا منجى من الأفول.
ولا بأس بالندى، ولا بديل عن الشمس والظلام، ولا بدّ ممّا لا ليَ فيه يد، ولست جائعاً إلى المزيد، ولا متلهّفاً للتعرّف والمعرفة، ولا أتقن التزلّف، ولست مستعدّاً للقربان،
وسأمضي؛ كما سواي- ربّما- بلا أسف، ولا وعد، ولا زهد، ولا عنوان!
***
غسان كامل ونوس