الفئة: رأي
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

حول الفضاء الافتراضي

غسان كامل ونوس
فرض العصر الحديث سماته وخصائصه المستجدة، ومنها إيقاعه المتسارع، على نواح كثيرة، تتعلق بممارسة الحياة مظاهرَ وبنياناً وعلاقاتٍ وتبعات.. ولا سيما في موضوع التواصل بأشكاله المختلفة؛ تنقلاً أسرع وأوسع، وحركة أكثر حيوية وجدوى؛ أو نقلاً أكثر أمناً وسرعة لشحنات تبالغ في الكبر، أو تمعن في الصغر حتى تَدُقّ.. وصولاً إلى أكثر الوثائق الشخصية أهمية وخصوصية؛ وتهاطلت الرسائل في البريد الإلكتروني من أصدقاء حقيقيين أو معارف افتراضيين يتزايدون باطّراد، ومتابعين ومعلِنين ومروِّجين.. حتى صار مجرد استعراضها وفرزها والتخلص من غالبيتها عبئاً يومياً، قد يؤدي إلى الاكتئاب (كما بينت دراسة بريطانية حول ذلك في قطاع الشباب.. منذ سنين)؛ وتضاعف التواصل عبر المواقع والصفحات، وتزاحمت التعليقات والآراء التي تتطلب مراجعتها وقتاً وجهداً.. وإنهاكاً؛ لأن فيها الكثير من الغثّ، والقليل من السمين، كحال أيّ فضاء مفتوح لكل من هبّ ودبّ بلا رقيب ولا حسيب، ولا شروط شهادة أو كفاءة أو خبرة في المجال المطروح..
صحيح أن ثمار المعرفة تكاثفت، وشجرة التعارف ازدادت فروعها، والعلاقات تواشجت أكثر فأكثر، وذلك لا يمكن أن تُنكَرَ أهميتُه، أو يُقلَّلَ من قيمته، ومعنى إنجازه الذي يفوق الخيال.. على من كان يقطع المسافات ويبذل العرق للوصول إلى كتاب، أو الحصول على معلومة، وقد يفوته ذلك لمنع النشر، أو رفض التوزيع.. ويمكنه الآن قضاء وطره بيسر وسرعة؛ أو على من كان يستخدم الحمام الزاجل لإيصال البريد، وهو الأسرع من البريد الدابّ حتى على أربع، أو الرسائل المرسلة عبر مكاتب البريد والبرق، وتستغرق أياماً أو أشهر! ناهيك عن الرقابة التي توقف رسالة، أو تلاحق مرسلها أو متلقيها المفترض!
لكن.. كان في ذلك التواصل -على عنائه- قدر مهم من نشوة الفوز الموشّى بالنبض الإنساني، الذي تثيره اللهفة، ويحفزه التوق إلى مجرد أثر عن ذلك المُفارِق البعيد، أو خبرٍ عنه أو عن أيّ أمر آخر، يخفّف من عذاب الانتظار وحرقة البعاد.
وكان للورق حتى المصفرّ منه، وخطّ اليد، والبصماتِ التي يمكن أن تُتركَ على المظروف طعمُ اللقاء المنتظر، وإن ابتعد سنوات، وكم من الأوقات الملهوفة يقضيها المتلقّي المهتمّ في مراجعة البريد أو تفقّد الساعي الذي سيحمل البشرى..؟! وفي هذا تعالق إنساني ومشاركة وجدانية، وإشعاع حيوي يدفئ الأوقات، ويشيع الألفة، ويبخّر بعض المآسي التي تداهم أو تحاصر..
كنت تقصد قريباً بعيداً أو تنتظره لقضاء أوقات ودّية، وتزور صديقاً أو تلح في دعوته لأن بينكما مشتركات.. وتتحمل الوعورة والتعب واستهلاك الوقت الذي لا يعود؛ لأن في اللقاء المباشر مشاركة لحواس عديدة.. بتنا نفتقدها في هذا التواصل الإلكتروني أو الافتراضي.. حتى لم يعد للنظرات أثرها الجاذب، ولا للأذن التي تعشق قبل العين أحياناً شأنها الماتع؛ أما المواعيد المحفوفة بخطر المراصد وكيد العزال، المسترقةُ من مجاري الحياة الداكنة، النابضةُ بالمشاعر المشوكة بالحذر والخوف، المشوقةُ بالابتعاد الوشيك والحرمان المديد، فلم يعد لها رصيد؛ فقد صار بوسعك رؤية النماذج التي ترغب، والمشاهد التي تشتهي، وبإمكانك الحديث إلى كثرٍ، دون الحاجة إلى مغامرة ليلية أو نهارية، وبلا تحايل أو مغافلة!
وغاب أو يكاد الحوار المباشر الذي يخفف من حدته الحضور الآخر، أنفاساً وملامح وعشرة وألفة.. وحرصاً على عدم الإحراج والإبقاء حتماً على شعرة معاوية!
ومن طبيعة الحوار الافتراضي أنه مشتت، والرغبة في الإيذاء متاحة، واستخدام أقذع الألفاظ وأقسى الاتهامات ممكن بلا حرج أو تردد.. لأن إخفاء الشخصية ممكن، واستعارة أسماء وهويات مُيَسَّرة، والادّعاء بمواقف وألقاب ومسؤوليات وارد؛ الأمر الذي كان مستهجناًً في المواجهات ونادراً في اللقاءات العيانية في ما مضى، وصعباً في وسائل الاتصال الصوتية والمرئية..
صحيح أن الكلام الذي ينشر عبر الشابكة يصل إلى عدد غير محدود من المتلقين في أسرع وقت، وفي أمكنة بعيدة، ربما كان من غير المحتمل الوصول إليها أبداً، مما يؤمن إعلاماً أوسع، وردود أفعال سريعة على حدث معين يعنينا، كما يمكن الردّ والتوضيح والإضافة مرة بعد مرة، وعلى أكثر من متلقٍّ، في جلسة واحدة، وبحرّية مطلقة، من دون خوف اقتطاع أو مقاطعة أو مداهمة..
ورغم هذه الفورة في العلاقات، والحيوية في التواصل، والغزارة في المعلومات والآراء.. فقد عاد المرء وحيداً، كما كان في العصر البدائي، يشقى في مواجهة عنت الطبيعة وفصولها، ويخاف كائناتها الوحشية أو غير المرئية أشباحاً أو جِنّاً أو آلهة، فعبدها وأسطرها! وبات الآن في مواحهة الطقوس الجديدة، وأفكار كائناتها غير المرئية، التي لا يقلّ بعضها وحشية، ولا تقلّ نفثاتها إيلاماً، وهو رغم ارتكانه وانكفائه المادي، غير محصّن بإمكانيات حيوية وإنسانية مناسبة، وغير قادر على أسطرة تلك الكائنات العصرية؛ لأنه غير خائف، وهنا مكمن الخطورة؛ لكنه معرض لتأثيراتها الجبارة؛ فهو مفتون، ومُثار، ومأخوذ، ومتسمّر في معطيات شاشته، وقدرات أجهزته التي لم تعد تربطه ساعات في البيت آو المكتب فحسب؛ بل صارت تلازمه محمولة في حقيبته أو جيبه أو قبضته؛ فإلى أين المفرّ؟!
لقد انفض حتى عن أفراد الأسرة، ورُفعت عنه الواجبات، حتى الضرورية منها، وانعزل عن صديقه ورفيقه وزميله، ولم يعد لِمجاوِرِهِ في المقعد أو الدار أو المقعد.. ذلك القرب وتلك الألفة، وليس لديه فضول للتعرف إليه أو إلى من يقابله عملاً أو مصادفة، وتبادل أطراف الحديث؛ فهو مشغول بأناس آخرين، وأفكار أُخر، ومُلاحَق بأسئلة أخرى، مترقّب لآراء وردود وتعليقات تغزوه عبر الشابكة “الانترنيت”، ومتحفزّ للردّ عليها بأحسن منها أو أقسى، وليس صمته هدوءاً أو تأمّلاً بأحواله أو أحوال البشر أو حسن المآل.
وصار من الممكن أن يلبي دعوات غامضة، وأوامر عارضة، ينساق إلى جهة بلا تفكّر أو تمحيص، يدخل في معركة بلا تحصّن، والخصم مجهول والفكرة خداعة، والغاية غائمة أو قاتمة.. ولا سيما وقد صار لهذا الفضاء أربابه ومتعهّدوه ومتنبّئوه ومسيّروه ومخدّموه ومستثمروه.. وهي احتكارات أيضاً في ميادين المعرفة والطاقات والحاجات.. وإذا كان التشييئ والتجريد من الحواس والمشاعر من صفات الحداثة وما بعدها، فإن تحول المرء إلى أن يكون أسير ترددات وأرقام وكلمات مجردة هائمة في فضاء غير محدود.. ليس في صالح إنسانية الكائن العاقل الذي يدوخ في وهج ألسنة الحضارة، الذي يتشتت ويتذرر كالالكترونات التي تدور في ضواحي النواة، لكنه دوران غير منتظم، نتيجة تعدد جهات الجذب، وتأرجحها، واختلاف كتلها وكثافاتها، مما يجعل تلك الكائنات في ضياع، ويعرضها لاصطدامات كارثية.
ليس معنى هذا أن نغلق أجهزتنا، ونطفئ شاشاتنا، ونبتعد عن هذه الساحة الهائلة الغنية بمعارفها وعلومها وتجاربها وآرائها واختلاطها وتنوعها.. ولا الإيقاء على الجهل المعلوماتي كفراً بشروره، أو ترفّعاً عن منزلقاته، أو هروباً من تبعاته؛ لكن التواصل الاجتماعي الطبيعي هام، والتحصين الأخلاقي والمعرفي ضروري، واستمرار الارتباط بالأرض والبيت وأفراد الأسرة والأصحاب والمعارف.. مفيد، وأساسي في العيش المشترك، وابتناء الثقة بالنفس والحضور الواقعي في النشاطات والواجبات والملتقيات والندوات والرحلات.. مع الاستفادة الأكبر من الاختلاف في وجهات النظر وتعدّد الرؤى في من نعاشر، ونقابل ونرافق! كيلا يكون أخوك غريباً، وجارك خصماً، وزميلك عدواً، لا بسبب أفكارهم المخالفة فقط؛ بل لانتماءات لم يختاروها، نتيجة الاستنفار والتجييش والتحريض.. إلى ما يتجاوز الكلمات إلى الصور التي لا يمكن الركون إلى صدقيتها، حتى لا نندم ندامة الكسعي، ولات ساعة مندم!
ولا شك في أن لوسائل الإعلام المتعددة الألوان والمرجعيات والمقاربات دوراً في إثارة الحوارات المنوعة المشتركة، وإتاحة المجال أمام البعيدين والمهمّشين للحضور فيها، ومعرفة اهتماماتهم وتنمية مهاراتهم، ورصد ملامحهم العامة والخاصة، والإضاءة على بيئاتهم وظروفها وحاجاتها، ودعم التوجهات المميزة، وأصحاب الآراء والإمكانيات في العطاء المختلف والسمات المقنِعة والمحببة والصفات الحسنة، وإشهار النموذج الخلاق في مختلف المجالات الزراعية والصناعية والعلمية والخدمية والاجتماعية.. وأصحاب المبادرات الإيجابية تواصلاً ونفعاً ومشاركات..
ومن خلاصات ذلك تتبلور الارتباطات بالأرض والوطن، وتتعزز الرغبة بتطويره وتحصينه وإغنائه والدفاع عنه، بنظرة إنسانية، لا تنظر إلى الآخرين بعدائية أو عنصرية أو نفور، ولكن بإحساس المواطن المنتمي الواثق المشبع، القادر على التعامل مع الآخرين المعروفين صداقة أو خصومة بواقعية ومصداقية، وبما يناسب الحال؛ أما المجهولون المشكوك في أصولهم وحقيقتهم ونواياهم، فليس من الضروري الانشغال المديد بدعاواهم، والانغلاق داخل دوائرهم، والانقياد لفتاواهم!
ولاشك في أن أمر الاهتمام بذلك، وتأمين البيئة الصحية الغنية بالحضور والحوار مسؤولية الدولة وقوانينها ومؤسساتها.. وانتشار النوادي والجمعيات والمراكز الثقافية التي تتيح للرواد القيام بالأنشطة غير المقيدة، والمشاركة الجدية النابعة من الرغبة والقناعة والحماسة.. أساسيّ أيضاً؛ ويمكن أن يكون الفضاء الافتراضي واحداً من الاهتمامات الجماعية التي يتشارك في إمكانياتها، ويستفاد من خصائصها إعلاماً وإغناء وتدريباً وإفرازاً وإنجازاً..
كما أن للمبادرة الفردية أهمية في هذا الفضاء الذي يمكن تشبيهه بمحيط متلاطم زاخر، وعليك الوصول إلى الكنوز الوافرة بلا أدنى شك؛ فلا بد من وجود الهدف أو ملامحه، وبعض معالم الطريق إليه، وامتلاك القدرة على التصرف بحكمة في الظروف الطارئة، رغم أن إمكانية الهلاك تبقى واردة، ولكن بنسبة أقلّ، مما لو أُلقيت في اليمّ أو أَلقيت بنفسك، مكتوفاً، فليس معقولاً أنك لن تبتل بالماء أو.. تغرق!
***

اترك رداً