جدلية الحضور والغياب
في رواية «أوقات برية»
د. عاطف البطرس
العنوان المحطة الأولى لالتقاء القارئ بالكاتب، وهو عتبه نصّية صغرى تفضي إلى نص أكبر، ينقل العنوان من إمكان إلى منجز يحققه الكاتب في متنه الروائي.
العنوان يقود إلى النص، وقد يكون مفارقاً له في الدلالة، بين العنوان بصفته اختفاء، والنص كحضور أو إرجاء وغياب مؤجل.
العنونة من أهم العتبات النصية والمحفز الأول للقراءة، فهي مصيدة القارئ وموسقة الإغواء الأولى، وهي في النهاية تسم النص وآخر ما يتبقى منه في ذهن المتلقي.
لو توقفنا قليلاً عند عنوان رواية الكاتب /غسان كامل ونوس/ «أوقات برية»، وتأملنا فيه محاولين استخلاص دلالته الإبلاغية، بصفته منارة تهدي إلى المتن وتكثف محتواه /تُبئره/، فأوقات تعني الأزمنة، وهو مفهوم غائم حمّال أوجه، لكن (بري) حددت الوقت على ما فيها من انزياح دلالي، يقود بدوره إلى غياب وعماء، يهدف إلى إرجاء المعنى… (بري) حضور يكثف غياباً….
(بري) فضاء دلالي يطلق أفق التفكير، فالبرية مكان مفتوح يمكن أن يعبر عن الحرية /الغائب في العنوان/ أو الانطلاق والعفوية والبعد عن التكلف والبساطة، هي مقابل المدينة بما فيها من صنعة ونظام ودقة في العمران /إرجاء دلالي/.
البرية بلا محدوديتها، قد توحي بالخوف والتوجس وسيادة شريعة الغاب، حيث الحياة للأقوى في عملية الصراع والتحدي والمواجهة بين الكائنات.
البرية بمعنى ما عكس /المزرعة/ التي صنعها الإنسان مدجناً الطبيعة، بما يملك من قدرة سيطرة وإخضاع لها وإعادة تشكيلها وفقاً لمصالحه الضيقة.
أوقات برية كعنوان، يحملنا إلى المتن النصي، وهو يحمل دلالات متنوعة ومتباينة، أساسها حضور البرية كدال مشبع بوفرة من المدلولات ترجئ المعنى المحدد إلى ما بعد قراءة النص الروائي حيث يخرج القارئ بتحديد واضحٍ للعنوان بصفته أهم مؤشرات النص الدلالية، فهو لا يخيب أفق انتظار القارئ ويستجيب لمحتويات النص الدلالية /خطاب النص/.
نص ونّوس في مستوى من مستويات قراءته هو أحد أشكال الصراع /الصدام بين المدينة والريف/ الطبقات الشعبية الفقيرة والفئات الاجتماعية المتشكلة على هوامش عملية التنمية في الربع الأخير من القرن الماضي.
إنسانية القرية (العلّية) ووحشية المدينة، والفساد المنتشر بين بعض فئاتها الاجتماعية حديثة التشكل والتي تعود إلى أصول ريفية، والكاتب لا يقف ضد المدينة فهي مرحلة متقدمة لما حملته من إنجازات، وإنما يعترض على ما في مسار المدينة من نواقص وسلبيات.
عندما تعيد الرواية صياغة الواقع كموضوع، تشكل نفسها كبناء فني، فالنص الأدبي /الروائي/ عند تحقق وحدته العضوية، يقترب من عضوية الحياة /الواقع/ الذي أنتجه، ثم قام بدوره بإعادة إنتاج الواقع على غير ما هو عليه في المعيش وفق قوانين وجماليات فعل التخييل السردي وذاتية الكاتب الإبداعية..
لا يمكن عزل بنية النص عن بنية المجتمع والتاريخ، فالنص يبقى نسقاً في بنية كبرى هي التاريخ والمجتمع والثقافة والتلوين الشخصي للمؤلف.
رواية ونوس تدرس الواقع والتاريخ الاجتماعي للفئات الاجتماعية في سورية، وتتحدث عن دورها في عملية التطور أو التراجع الحاصلة في قلب المجتمع وتخص الفئات الطفيلية بالاهتمام، ليصبح هذا الواقع المرصود أكثر انكشافاً ودلالة لمن لا يرى… وينبه إلى خطورة ما يجرى على المسار العام لتطور الإنسان والوطن في المآل الأخير.
صعود البرجوازية الطفيلية ومفرزاتها (المزرعة) وما كونته من علاقات وأنماط سلوكية وأخلاقية أدت إلى ضياع القيم.. ثم الدور التاريخي لهذه الفئات وإمكانياتها الفعلية، وانحسار أفقها التاريخي في مصالحها الضيقة الأنانية المرتبطة بالربح السريع /صاحب المزرعة/، وتسخير كل ما يستطيعه من أجل إنقاذ مزرعته، التي لا يمكن أن نماثل بينها وبين الوطن… فهي ملكية فردية لا تتجاوز وظيفتها الأرباح العائدة على صاحبها.
تشكو الرواية في فصولها الأولى من بعض القلق وعدم السيولة السردية مما يضعف عملية التلقي بسبب عدم استقرار المبنى الحكائي، ولعل ذلك يعود إلى قلق المرحلة وعدم استقرارها وغياب الضوابط الصارمة فيها، وهو انعكاس فني لوعي الكاتب في تجسيد أفكاره وتجلي مفاهيمه، قلق الواقع وعدم استقراره، يقود إلى قلق في البناء الفني وعدم استقرار فيه، والانعكاس هنا ليس آلياً ميكانيكياً.. كما تكون الصورة يكون انعكاسها.. آليات الانعكاس في الأدب نأخذ مسارات معقدة تمليها الذات الإبداعية للكاتب.
تبدأ الرواية بالاستقرار السردي وتأخذ بالسيولة والتأثير على القارئ عندما يبدأ امتلاك الكاتب لموضوعه، وتبرز سيطرته على أدواته، وذلك في الفصول اللاحقة باستخدام تقانات سردية كالحوار والوصف والدخول أكثر في العمق النفسي والمعرفي للشخصيات الروائية؛ النقاش الدائر بين سعدون وسعيد لما فيه من زخم معرفي وثقافي حول الحب والجنس والرغبة واللذة، وعلاقة الإنسان بالطبيعة كمصدر للاستثارة الجنسية، تخريب التعليم، فوائد المصارف، وقضايا فكرية كثيرة تطرحها الشخصيات، الرواية ليست تسريداً وتشويقاً وإنما هي معرفة وثقافة وبناء فني يحمل أفكاراً وقيماً.
الشخصيات في الرواية:
من الصعب أن نقف عند كل شخصيات الرواية وشبكة علاقاتها، وحسبنا الإشارة إلى شخصيتين يمكن بثقة اعتمادهما نموذجاً للمرحلة، وهما شخصيتا، سعدون الطبيب، وسعيد المهندس الزراعي، الذي نعتبره الحامل الفني لمجمل خطاب الرواية والشخصية النموذجية فيها.
نلاحظ ـ وقد نخطئ الملاحظة ـ تسرب العنصر السيري في كل من الشخصيتين، حيث يمثل سعدون بعض الجوانب النظرية والمعرفية من شخص الكاتب، بينهما تنسل بعض المفاهيم الأخلاقية والسلوكية، والمنظومة القيميّة إلى شخصية سعيد، مع الاعتراف باستقلالية كل من الشخصيتين في الرواية عن شخص المؤلف، هذا التسلل لا يضعف الشخصية وإنما يزيدها غنى وحيوية ويقربها من مرجعيتها الواقعية، كما يبقيها شخصيات ورقية من صناعة الكاتب وإنتاجه.
شخصية سعيد ومنظومتها القيمية الأخلاقية، ومواقف هذه الشخصية بصفتها /حامل الخطاب/ تمثل المرحلة، فهي ابنة المرحلة وشهيدتها، بما تحمل من مثل اجتماعية وأخلاقية، /القرية في مواجهة المدينة/ والصراع بين منظومتين من الأخلاق… الصدق والإخلاص، التسلق والنفاق والرياء إلى حد الخيانة.
موقف سعيد من المرأة، كدلالة على منظومته القيمية واحد من أهم محددات شخصية سعيد وبعدها الدلالي… علاقة سعيد العاطفية مع فتاة المدرسة، وكذلك مع زائرة صديقة منصور، والذروة: موقفه من السيدة صاحبة المزرعة، كتصادم صارخ لمنظومتين من القيم.
سعيد شخصية محبطة، شبه مستلبة، نموذجية تمثل فئة اجتماعية تبحث عن نفسها وعن مستقبلها في غابة مدنية طفيلية، فيها كثير من الرومانسية والانسحاب والحنين إلى القرية التي أصبحت ذكرى يريدها ويهرب منها…
ترى ما هو سبب إخفاق سعيد وعدم استجابته لدعوة صاحبة المزرعة /زوجة سيده/، أهي عجز شخصي مسرده خلل في البناء العضوي السيكولوجي لسعيد أم أن هناك أبعاداً أخرى للقضية (فنية وأخلاقية).
لم يناقش سعيد الدعوة (عقلياً) ولم يعان من التردد لقد رفض الممارسة على ما فيها من تعديات وإشباع للانتقام من الواقع عن طريق إذلال السيدة.. لو أن سعيداً قبل العرض /الصفقة/ واستجاب للدعوة في القصر المبني على أحلام سعيد وأمثاله.. لفقدت الرواية الكثير من مصداقيتها وموقفها النقدي من الواقع ومفرزاته، والأكثر من فنيتها، فكل ما في سعيد يدفعه إلى الفعل، الحرمان، المغريات، المستقبل…. الانتقام من سيده ومن واقعه الظالم…
سعيد لم يفعلها، وبذلك بقيت الرواية محافظة على وحدة بنائها وحريصة على خطابها الفكري النظري الاجتماعي، لو أن سعيداً فعلها لخسرنا قوة التحريض الكافية في الشخصية، ولحلت أزمة سعيد /الفرد/، إلا أن المشكلة ليست شخصية، وإنما هي اجتماعية المنشأ، اجتماعية الحل.. نحن أمام صراع أعمق من نزوات ورغبات جنسية وفق الكاتب في صناعته بعيداً عن الإغراءات الجنسية، على ما في الرواية من تناول لموضوع الجنس يناسب المكانة التي يشغلها في الحياة دون إثارة أو ابتذال.
رفض سعيد لعرض رخيص، ينسجم مع موقفه من الحياة، ومن العلاقة بين الرجل والمرأة، تلك العلاقة التي تقوم على الحب الذي هو ما يتبقى من المشاعر بعد أن تشبع الغرائز، ذلك هو الحب وما قبله وما بعده رغبة وغريزة، الحب هو العلاقة الصادقة البعيدة عن الأغراض والثروات /هنادي ابنة القرية، براءة الريف في مواجهة التصحر العاطفي للمدينة ومفرزاتها القهرية.
رفض سعيد وإحباطه وفشله في أكثر من علاقة، هو قضية اجتماعية اقتصادية، وليست مشكلة شخصية، أو مرض نفسي أو خلل عضوي يعاني منه سعيد، عدم الاستجابة يبقى فجوة في النص على القارئ ملؤها وهي مادة حوارية بين النص ومتلقيه.
أما شخصية السيد وزوجته (أصحاب المزرعة) ففي الواقع، وفي الرواية، تصريح وتلميح لطبيعة كل منهما الأخلاقية والسلوكية كأنماط اجتماعية حديثة العهد نحاول فرض منظومتها القيمية على المجتمع..
خلاصة: يمكن قراءة عمل الكاتب «غسان كامل ونونس» على مستويات عدة.. المستوى الفني البنائي علاقة الفن بالواقع، المستوى الثقافي المعرفي، علاقة الكاتب بشخصياته، المسارات الاجتماعية وتأثيرها على حياة الأفراد /الشخصيات الروائية/. وقدرتها على عكس طبيعة المرحلة. الأخلاقي والجمالي في بناء الشخصية الروائية، النمذجة والتعميم ودلالة الشخصيات الاجتماعية والفكرية، عدم طغيان الاجتماعي والفكري على الأدبي الفني، وذلك لا ينفي أن الظاهرة الأدبية في المعيار الأخير تكثيف فني واختزال نوعي للظاهرة الاجتماعية، والرواية تاريخ من لا تاريخ لهم، فهل وصل الكاتب إلى هدفه، هذا ما يجيب عليه منجزه النصي /السردي/ في عملية حواره وتلقيه من القراء
(أوقات برية) رواية للكاتب غسان كامل ونوس تقع في 214 صفحة من القطع الكبير، صادرة عن دار «إنانا» للطباعة والنشر عام 2006.