الفئة: أدب
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ملحق الثورة الثقافيّ- العدد (1037)
تاريخ النشر: الثلاثاء (16-3-2021م)

الملحق الثقافي:غسّان كامل ونّوس *

 الأدب والحياة:
ليس الأدب صورة مباشرة دقيقة عن الواقع، ولا منبتّاً عن الحياة المعيشة، أو التي يمكن أن تعاش من قِبَلِ كائنات تشبهنا، أو نتخيّلها.. في أزمنة وأمكنة مختلفة. وما من تحديد لذلك، سوى أنّ الدافع إلى الكتابة، ينبع من الرغبة في القيام بفعل، أو التأثير في وقائع، لا يرضينا أن نبقى سلبيّين قِبَلها، ونُغبَطُ إذ نحسّ أنّنا قادرون على الخلق أو التغيير، أو توهّم ذلك؛ وإنْ بأضعف الإيمان. ولعلّ التعبير عن ذلك بأيّ من الأشكال – والأدب أحد أهمّها- يخفّف من وقع الأقدار المبهمة؛ بإحساسنا بالفاعليّة والجدوى، ويقرّبنا منها، بمجاراتها أو بتقليدها، أو تقويض مفاعيلها؛ أو يجعلنا معنيّين، وإنْ في نظر أنفسنا، بما يجري؛ سواء بالتفكير حول التكوين ومجرياته المتّصلة، أو المآل الذي ما يزال على قرن ثور أو كفّ عفريت! ولا شكّ أنّه كان – وما يزال- للتعبير الأدبيّ حضوره في ترجمة ما يحسّ به الإنسان، واقعاً أو تخيّلاً؛ ألماً أو غبطة، رضاً أو نفوراً، إعلاناً أو كتماناً، أحداثاً أو أقوالاً منذ العهد الشفويّ، وتجلّى أكثر منذ بدء التدوين؛ فتبلورت أشكال متعدّدة للكتابة الأدبيّة، التي تتعدّد، وتتجدّد حتّى وقتنا هذا.
الأدب والإيجابيّة:
للأدب آثار، أو أصداء وتردّدات إيجابيّة مهمّة، لدى من يمارس فعل الكتابة، أو فعل التلقّي؛ كما أنّ دافعه إيجابيّ؛ فلا أعتقد أنّ أحداً يكتب- أو يقرأ- أدباً بنيات دونيّة أو شرّيرة؛ حتّى إن تناول العملُ الأدبيّ حوادث فظيعة، وممارسات شنيعة، وغايات قاتمة، وأشخاصاً سلبيّين؛ فإنّ ما وراء الكتابة، وما أمامها، حال إيجابيّة متبنّاة أو متمنّاة!.
سواء أكان ذلك تسرية ومنادمة، أم تعزية ومواساة؛ فهي انشغال بما هو أجدى وأمتع وأنفع؛ وإن كان النفع، يتجاوز ما نعرفه من إشباع حاجات مادّيّة تتزايد، وتتشعّب، إلى محاولة إشباع حاجات نفسيّة وروحيّة، والإجابة عن أسئلة، لا تني تلحّ، وتتعقّد، مع تطوّر الحياة وتقنيّاتها، وتزايد عُقَدِها وتشابكاتها، من دون أن تظهر حلول تريح، أو يلوح خلاص آمن؛ بل على العكس، تزداد الويلات والمواجع، ويتضاعف التغرّب والاغتراب، ويبتعد القريب الأليف، ويقترب البعيد الافتراضيّ، بأسرع ممّا كان، وأبطأ ما يُتمثّل أو يُستشفى ويُستطاب، وأقلّ ما يرضي ويؤمّل!
وقد يقترب هذا قليلاً أو كثيراً ممّا قيل؛ من أنّ مهمّة الشعر والأدب «محاكاة الحياة»؛ أفلاطون؛ (427-347) ق.م؛ أو «تطهير الحياة» أو «إعادة صنعها» باستخدام الخيال، حسب أرسطو (384-322) ق.م؛ أو «نقد الحياة»؛ (أرنولد) في القرن التاسع عشر، أو «تنظيم الدوافع» أو «الاستجابات المخزّنة» (د.ريتشارد) في القرن العشرين؛ وصولاً إلى نظريّته حول الشعر المعروفة بـ «نظريّة القيمة».
الأدب والنقد
وليست الكتابة الأدبيّة، التي تتناول القيم الإيجابيّة الأخلاقيّة، أو تهدف إليها، تمثّل، بالضرورة، قيمة فنّيّة مميّزة؛ فيما قد تكون النصوص، التي تتحدّث عن الجرائم والموبقات أعمالاً أدبيّة رفيعة.
فليست مادّة الأدب هي التي تحدّد مكانته وقيمته؛ بل أمور أخرى!.. وما الذي يحدّد هذا؟! إنّه النقد!
النقد:
في لسان العرب: نقد: النقد: خلاف النسيئة (النسيئة البيع المؤخّر أجره)، والنقد والانتقاد: تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها.
وناقدتُ فلاناً إذا ناقشتُه في الأمر، وفي حديث أبي الدرداء أنّه قال: إن نقدتَ الناس نقدوك، وإن تركتَهم تركوك؛ معنى نقدتهم أَي عِبْتهم واغتَبْتَهم قابلوك بمثله، وهو من قولهم: نقَدْتُ رأْسه بإِصبعي؛ أَي ضربته، ونقَدْتُ الجَوْزَةَ أَنقُدها إِذا ضربتها.
ونقَدَتْه الحيَّةُ: لدغَتْه. ونقد الطير: نقر.
والنَّقَدُ: تَقَشُّرٌ في الحافِرِ وتَأَكُّلٌ في الأَسنان.
والنقد: السفل من الناس. يقال: هو أذلّ من النقد.
وإذا كان للنقد صدى سلبيّ، يتمثّل بإظهار العيوب والنواقص، فإنّ غايته نبيلة، ونتيجته إيجابيّة، حتّى حين يُظهر عدم فنّيّة نصّ، أو قصوره عن أن يكون ذا شأن أدبيّ؛ فهو (النقد) سبيل إلى تحديد القيمة الفنّيّة، أو محاولة من أجل ذلك؛ فمهمّته جماليّة، وفعاليّته إيجابيّة!
ومن الطبيعيّ ألا يندرج كلّ نقد في هذا السبيل أو المعنى، وليس كلّ ناقد مؤهّلاً لذلك؛ بل النقد الموضوعيّ، هو القمين بهذه المهمّة، والحريص عليها، لا النقد التأثّريّ أو الذاتيّ.
النقد الأدبيّ: تفسير، وتحليل، وتقويم للأدب؛ دراسة النصّ الأدبيّ بآليّات محدّدة؛ للوصول إلى جماليّاته؛ وفقاً للمناهج السائدة في (الشعر والنثر).
أنواع النقد:
النقد الشكليّ: قراءة دقيقة للنصّ؛ التراكيب- الصور- الرموز والشخصيّات- والنوع الأدبيّ (الشكلانيّون الروس (1830م).
النقد النفسيّ: يبحث أثر النصّ في نفسيّة المتلقّي، والجانب النفسيّ للشخصيّات، والجانب النفسيّ لشخصيّة الكاتب.
النقد التاريخيّ: يتناول الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة (التاريخيّة)، التي كتب فيها النصّ.
النقد النسائيّ (النسويّ): النقد الدال على نوع الجنس، والهويّة الجنسيّة لابتداع النصّ وتلقّيه.
النقد الماركسيّ: مرتبط بالقوّة، ويدرس التاريخ والسياقات الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في فترة كتابة النصّ، وحال الكاتب والشخصيّات السياسيّة، والاقتصاديّة وطبقات المجتمع: الجيش، الطبقة الوسطى، طبقة العمّال (الواقعيّة الاشتراكيّة- البطل الإيجابيّ).
النقد الأدبيّ الحديث: معاينة الأمور بالسياقات المختلفة لدراسة العمل بطريقة جديدة وممتعة؛ بعدسات نقديّة متنوّعة؛ مناهج سياقيّة- ومناهج نصّيّة: البنيوية- القراءة- والتلقّي؛ ويتمّ التركيز على النصّ لا على الأديب.
النقد الذاتيّ والنقد الموضوعيّ:
سيتمّ التفصيل فيهما؛ للمقارنة، والتوضيح؛ ولا سيّما النقد الموضوعيّ موضوع بحثنا الأساس في العنوان.
بين الذاتيّة والموضوعيّة؛ الإشكاليّة
الذاتيّة: الشخصيّة (الفرديّة) ما يخصّ الشخص ذاته، ويجعل تقويماته كلّها قائمة على إحساسه ومزاجه وتذوّقه، وتجاوزاً تطلق الذاتيّة على كلّ ما كان الفكر مصدره، لا الواقع.
الموضوعيّة: تعتقد بإمكانيّة أن يكون لموضوعات المعرفة وجود مادّيّ خارجيّ في الواقع، وفي استطاعة الذهن أن يدرك بشكل تامّ الحقيقة الواقعيّة القائمة بذاتها، المستقلّة عن النفس المدركة.
في الميتافيزيقيا:
الذاتيّ: إرجاع كلّ وجود إلى الذات، والاعتداد بالفكر وحده.
الموضوعيّ: إرجاع كلّ الوجود إلى الموضوع المبدأ الواحد المتجاوز للذات.
في نظريّة المعرفة:
الذاتيّة تعني أنّ التفريق بين الحقيقة والوهم، لا يقوم على أساس موضوعيّ؛ بل هي مجرّد اعتبارات ذاتيّة، وليس هناك حقيقة مطلقة.
الموضوعيّة: هناك إمكانيّة للتفرقة.
في علم الأخلاق:
ترى الذاتيّة أنّ مقياس الخير والشرّ شخصيّ، ولا معياريّة متجاوزة.
الموضوعيّة: هناك إمكانيّة للوصول إلى معياريّة.
في عالم الجمال
الذاتيّة ترى أن الأحكام الجماليّة مسألة ذوق.
الموضوعيّة: تحاول الوصول إلى قواعد عامّة، يمكن بواسطتها المفارقة بين القبيح والجميل.
وتتعلّق الإشكاليّة: الموضوعيّة والذاتيّة بالممايزة بين الظاهرة الطبيعيّة والظاهرة الإنسانيّة.
في الفلسفة الغربيّة هيمنت التصورات المادّيّة الموحِّدة بين الظاهرتين. رأى وليم ديلتاي (1833-1911م) أنّ بين الظاهرتين فارقاً جوهريّاً؛ فمن غير الممكن معرفة الإنسان من خلال الملاحظة الخارجيّة، وغير ممكن تناقل المعلومات الموضوعيّة المادّيّة عنه؛ لأنّ لسلوكه دوافع إنسانيّة جوّانيّة (ضمير- معنى- إحساس بالذنب- رموز- تأمّل عقليّ- ذكريات طفولة)؛ لهذا تُدرس الظاهرتان بمناهج مختلفة. ونقل ديلتاي المصطلح: «الهيرمينوطيقا» (يونانيّة) من علم اللاهوت، إلى الفلسفة والعلوم الإنسانيّة. وكان يُقصد بها تأويل (إعادة إلى أوّليّات) النصوص الدينيّة بطريقة خيالية (تفسير أو توضيح)، أو رمزيّة تبتعد عن المعنى الحرفيّ المباشر، وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقيّة والخفيّة وراء النصوص المقدّسة.
وهو يمايز بين التفسير والشرح:
التفسير: الاجتهاد في فهم الظاهرة، وجعلها مفهومة من خلال التعاطف.
الشرح: إدخال الظاهرة في شبكة السببيّة المطلقة الصلبة والقوانين الطبيعيّة، وكشف العلاقة الموضوعيّة بين السبب والنتيجة.
وانتقلت إشكاليّة مناهج دراسة الظاهرة الإنسانيّة والظاهرة الطبيعيّة إلى الدراسات والبحوث؛ من حيث علاقتها بصياغة الفرضيّات، وصار على الباحث بالموضوعيّة والحياد الاعتقاد بأنّ المعرفة سلسلة مترابطة الحلقات، كلّ حلقة تؤدّي إلى التي تليها، ولا يمكن تخطّي حلقة منها؛ لأنّها تراكميّة، والاقتناع بسيادة مفهوم السببيّة في الظواهر الإنسانيّة بدرجة صلابة تلك التي للظاهرة الطبيعيّة، واتّضحت أبعاد الفكر الموضوعيّ في موقفها من العديد من القضايا الفلسفيّة؛ مثل الإدراك والواقع وعقل الإنسان.
النقد التأثّري (الذاتيّ)
يهتمّ بحياة الأشخاص، ولاسيّما حياة الكاتب التقليديّة بتفاصيلها، وتأثير حياة الكاتب في العمل الأدبيّ؛ كما يتأثّر بذات الناقد فيشارك في تكوينه؛ بعواطفه وميوله ورغباته وانتمائه ومواقفه؛ إضافة إلى بيئته وتاريخه وطبقته.. ويكون في الغالب مبالِغاً ومجزّأً ومعوّماً ومعمّماً، ويفتقد الدقّة والإحاطة والتمحيص والاختبار والمسؤوليّة.
النقد الموضوعيّ: الموضوع في لسان العرب:
الوضعُ ضدّ الرفع- التواضع: التذلّل. وضع يده في الطعام: أكله.
في معاجم عربيّة أخرى: المحايد صفة- المجرّد من غاية شخصيّة- العادل- العقليّ- غير المتحيّز.
وفي المعنى العام: الموجود بذاته، أي خارج إرادتك؛ فالمعرفة والقيم الإنسانية محدّدة بطبيعتها الواقعيّة، مكتشفة وغير متولّدة من فكر المرء؛ فهي موضوعيّة.
فالنقد الموضوعيّ:
هو النقد الذي ينظر إلى الموضوع المتناول كما هو عليه، بشكل مستقلّ، ومنفصل عن مجمل المؤثّرات الذاتيّة والنفسيّة والتاريخيّة والإعلاميّة، ويتعمّق في خصائصه، ويستعرض مسبّباته، ويحلّل عناصره، ويستنتج خلاصاته، ويتكهّن بتبعاته.
لمحة تاريخيّة
قال أفلاطون ( 427-347 ق.م) بالمحاكاة في الشعر؛ حيث «نظريّة المثل العليا»: لكلّ شيء في الحياة مثال كامل متكامل في عالم المثل، (لا نستطيع لمسه في الواقع)، وكلّ ما في العالم الواقعيّ تقليد أو محاكاة لما هو كائن في عالم المثل؛ أو ما جاء به أرسطو (384-322 ق.م) من أنّ الشعر «تطهير الحياة» أو محاكاتها باستخدام الخيال لـ»إعادة صنعها» لخلق جوهر ينتمي إلى عالم عقليّ (عالم المثل العليا)؛ بعمل جديد من مادّة الواقع الخام، يحوّرها الشاعر برؤية إبداعيّة، ويعيد تشكيلها طبقاً لما كان، أو لِما هو كائن، أو لما يمكن أن يكون، أو لِما يُعتقد أنّه كان؛ إنّها محاكاة يلعب الخيال دوراً مهمّاً فيها، ليقدّم حقيقة أسمى؛ أي واقع جديد، تعلو منزلته على الواقع الفعليّ.
ثمّ جاء النقد الموضوعيّ ردّاً على الرومانسيّة، التي عدّت الذات مصدر الشعر ومآله، وأرخت العنان للخيال يرسم العالم حسب ما يراه الشاعر؛ أهمّ أعلامها (بليك، وورد زورث، وكوليردج، وشيللي، وكيتس)، وتمّت مواجهتها من قبل أرنولد، والبرناسيّة، ومدرسة الصورة.
ماثيو أرنولد (1822-1888م) الناقد الإنكليزي في العصر الفيكتوري، ويَعُدّ أرنولد الشعرَ «تفسيراً» للحياة، أو نوعاً من المعرفة «معرفة العالم والحياة»، وسيلته ليست الفلسفة (الجدل الذهنيّ) ولا التحليل التعليميّ للحياة؛ بل التعاطف، وهو في هذا وسيلة لجلب الراحة النفسيّة لنا، وبثّ العزاء في أنفسنا، ويقول أرنولد أيضاً: الشعر وسيلة لإحياء صفات إنسانيّة جوهريّة معيّنة «آمال باطنيّة»، ويرى أنّ الشعر العظيم هو ما يخاطب العواطف الإنسانيّة الأوّليّة، أو تلك المشاعر الطفوليّة، التي تكمن على الدوام في الجنس البشريّ؛ فمهمّة الشعر الأساسيّة إذاً تناول قوانين الحياة الإنسانيّة، والتعامل مع أعمق الحقائق في حياة الإنسان؛ وبهذا يقوم الشعر بمهمّة «التفسير»، الذي موضوعه الحياة؛ لا المجتمع الذي عليه أن يهيّئ الجوّ الملائم للإبداع.
ورأى أرنولد أنّ النقد الحقيقيّ ينبغي أن يكون مستقلّاً عن الاهتمامات الشخصيّة والسياسيّة، والعمليّة، والتاريخيّة، والدينيّة، والفلسفيّة، وأنّ الشعر مشروط بقانَونَي الصدق الفنّيّ والجمال الفنّي.
البرناسيّة (الفن للفنّ)؛ نسبة إلى جبل البرناس في اليونان؛ حيث تقول الأسطورة إنّه ملهم الشعر، في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، «إنّ الفنّ للفنّ، ولا يمكن أن يكون الفنّ طريقاً للمنافع، ولا للخير، ولا للأمور القدسيّة؛ لأنّ الفنّ لا يقود إلّا إلى ذات نفسه»؛ كما يقول فكتور كوزان؛ وأعلامه: (مدام دو ستيل، وغوتيه، وإدغار ألن بو، وبودلير، ودوليل وبانفيل).
كما يدين النقد الموضوعيّ لـ مدرسة شعراء الصورة؛ وأهمّ روّادها: توماس هيوم، وعذرا باوند، وت س اليوت: وتقول نظريّتهم الموضوعيّة: إنّ الأدب، ولا سيّما الشعر، خَلْقٌ، وليس تعبيراً عن الشاعر والمجتمع؛ والأهمّ هو العمل الفنّيّ المستقلّ بوجوده عن كلّ ما أسهم في صنعه.
وأهمّ روّاد نظريّة النقد الموضوعيّ، الشاعر الأميركيّ الأصل الإنكليزيّ الجنسيّة، (ت. س اليوت) نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين: وقد طرح «المعادل الموضوعيّ»؛ وهو قدرة الشاعر على التعبير عن الحقيقة العامّة من خلال تجربته الخاصّة المركّزة؛ من خلال انفعال خاصّ؛ بحيث يستجمع كلّ خصائصه المميّزة لتجربته الشخصيّة، ويستخدمها في خلقٍ عام» (1919م) واستبعد اليوت النقد التأثّري، وأنواع النقد الخارجيّ كافّة: التاريخي، والاجتماعيّ، والنفسيّ، والفلسفيّ، وقال: «من الأفضل ان يُسَمّوا مؤرّخين أو فلاسفة»، ومهمّة الشاعر ليست في التوصّل إلى انفعالات جديدة؛ وإنّما في استخدام الانفعالات العاديّة، والتوصّل عن طريق تحويلها، إلى التعبير عن مشاعر وجدانيّة لا أساس لها في الانفعالات الواقعيّة على الإطلاق.
ظروف النقد الموضوعيّ:
لا بدّ أن يقوم النقد الموضوعيّ في بيئة تؤمّن حرّيّة التعبير، وتحمي حقوق القول والنشر، وتشجّع على التفكير النقديّ، وتؤمن بوجود الرأي الآخر واحترامه، وتفسح المجال للحوار الجريء الجادّ المتّزن؛ بعيدة عن التقديس، والتكفير، والتهميش… وألّا يُعتمد التجزيء المُخِلّ، والتعميم المشوّش، والإطلاق والضجيج والعكر…
شروط النقد المضوعيّ
– ناقد خبير وموهوب ومحايد.
– الضمير والوجدان.
– الثقافة العامّة.
– الثقافة الخاصّة المتعلّقة بالموضوع، الذي يتعرّض للنقد.
– خبرة في اللغة.
– خبرة في التاريخ.
– خبرة في المعارف المتنوّعة.
– خبرة بالبيئة وخصائصها.
– قوّة الشخصيّة.
– ملكة القول.
– ملكة الإصغاء.
– البحث والتقصّي.
– الحضور الواثق.
– الثقة بالنفس والآخرين.
– المرونة والرحابة والصبر.
– الواقعيّة.
– الموضوعيّة.
– عدم المبالغة والتهويل.
– القدرة على الاستيعاب.
– القدرة على النقاش.
– القدرة على الاستقراء والتحليل والاستنتاج.
– التعليل.
– الابتعاد عن الحكم المسبق، والحكم القاطع بلا بيّنات.
من الأدب إلى الحياة
ويمكن؛ بل يجب الانطلاق بالنقد الموضوعيّ من الأدب إلى مختلف شؤون الحياة، فنتناول الموضوع القديم أو المستجدّ بالمساءلة والاختبار، ونراجع أسبابه وظروف إطلاقه وشروطه، ومَنْ وراءه وما وراءه، ثمّ ندقّق في مقولاته، وحيثيّاته، ووسائل انتشاره، والأوساط والأحياز، التي يعيش فيها، أو يظهر؛ والشخوص والشرائح والأجيال التي تتعامل معه، وندقّق في النتائج أو المنعكسات، التي تكون قد ظهرت، من دون التوهّم والمبالغة والتهويل ومعاينة النتائج، التي يمكن أن تكون بعد زمن، والمؤثّرات المساعدة أو المولّدة لآثار أخرى، ثمّ نناقش ردود الأفعال المنتظرة.
مع التركيز على الجانب الإيجابيّ إن وجد، ومحاولة اقتراح ما يزيد منه، وما يحدّ من الجوانب والآثار السلبيّة، مع الدلائل والمؤشّرات والملامح والمعالم… وصولاً إلى الرأي الذي نقول به، ولا ندّعي صوابه الكامل؛ فهو يحتمل الخطأ؛ كما أن آراء سوانا تحتمل الصواب (حسب القول المشهور)؛ كما أنّني مستعدّ للتضحية من أجل أن تقول رأيك! (حسب القول الآخر المعروف أيضاً).
ولا نعتمد في سعينا وقولنا على أساليب غير شريفة، ولا نستعين بمن ليس ثقة أو ليس ذا خبرة أو صاحب مصلحة في ما نقول؛ كما لا نشوّه الآخرين وأقوالهم وأفعالهم وتاريخهم لمجرّد اختلاف آرائهم عن آرائنا..
وإذا ما ربطنا النقد الموضوعيّ بالثقافة ذات المعنى الإيجابيّ أيضاً، فإنّ الناتج سيكون إيجابيّاً من رتبة مضاعفة، وهذا ما يدعو إليه عنوان هذه المادّة والغاية منها.
ثقافة النقد الموضوعيّ والعصر
يتّصف عصرنا بخواص، لم تكن موجودة سابقاً؛ من حيث كثافة الاتّصال والتواصل وسرعته، وسهولة القول غير المحصّن، والبحث اللحظيّ، وسرعة الانتشار، وعدم المسؤوليّة عن الرأي، الذي يطلق بلا اهتمام، وهذا يقلّل من فرص التمحيص والاختبار الجدّي، والانتظار المدقِّق والتبيّن، وليس من السهولة لملمة الحطام بعد أن يتناثر، أو إعادة بلورة الصورة بعد التشويه والتحوير، أو جوهرة الفكرة بعدما نالها من «إعجابات» متسرّعة، وتعليقات مبالِغة غير محايدة وغير منصفة أو محترمة، ربّما، ومن دون قراءة أيضاً. ويضيع الرأي الناقد الموضوعيّ بين ركام الآراء الأخرى؛ فكيف نتقرّى الصدق والموضوعيّة والخبرة والسلامة والأمان في خضمّ كلّ هذا التشوّش؟!
من أجل ثقافة موضوعيّة حقّة لا بدّ من:
– زيادة الإحساس بالثقة والمسؤوليّة.
– زيادة الثقافة، التي تحصّن رأي الفرد المصدِر، ورأي المتلقّي الذي قد يكون وحيداً.
– زيادة فرص التواصل الجادّ والحوار المسؤول.
– تأمين بيئة للتفكير الموضوعيّ، الذي يحيل إلى: الاهتمام بالموضوعات لا بالأشخاص، تجنّب الأحكام العامّة، تجنّب الأحكام الانفعاليّة والمتسرّعة، الحرص على البحث الفعّال من أجل الوصول إلى نتائج محدّدة وموثوقة.
– إتاحة الفرصة للحضور الخبير الجادّ، وتخيّر الأوقات والوسائل والظروف، التي تساعد في انبثاث التأثير الفعّال.
– التنبيه إلى خطورة إدارة الوسائل الحديثة، واستعمالها من قبل غير الجديرين.
– التدخّل الرسمي وغير الرسميّ المخوّل والمموّل، والقادر على القول المفيد والمجدي.
– طرح القضايا الإشكاليّة بأساليب جادّة، وبرامج مدروسة ومعمّمة، وتصل نتائجها إلى أكبر قدر من الناس.
– احترام الآراء الجدّيّة، والتساؤلات المحقّة، ومقاربة الإجابات الجوهريّة من دون مداورة أو مناورة أو استخفاف أو امتهان.
– زيادة المواقع المحترمة والأشخاص ذوي الحصافة والإمكانيّة والقدرات، والتركيز على آرائهم.
– اعتماد ورشات عمل مصغّرة، وتعميم نتائجها، وتكرارها وتنوّع موضوعاتها وشخوصها.
– الابتعاد عن التلقين والإملاء في التعليم والثقافة، وتشجيع البحث الجادّ الفعّال.
– مكافأة المبدعين المتميّزين في مختلف المجالات؛ بما هو مفيد ومبادر إلى البحث والاستقصاء؛ للوصول إلى تجارب ونجاحات أخرى.
– إجراء استبيانات واقعيّة حقيقيّة في مدد محدّدة؛ تُستقرأ نتائجها بعد ذلك، وتختبر عمليّاً بإشرافٍ خبير.
– تثقيف الإعلام بشكل عام، والإعلام الثقافيّ بشكل خاصّ، وتغطية النشاطات الثقافيّة النوعيّة.
هل هناك نقد موضوعيّ خالص؟!
أعتقد أنّه يكاد يكون من المستحيل وجود نقد موضوعيّ خالص لوجه الموضوع؛ كما هو عليه؛ فإنّ الناقد أو المتناول لأيّ قضيّة، لا بدّ من أن يتأثّر بنسبة ما، بأيّ من مجموعة كبيرة من العوامل، وهو ما قد يظهر في النبرة أو التوقيت أو الاهتمام أو تكرار الحديث في الأمر، وبما يترك أثراً ما على رأيه أو موقفه؛ فلنتحدّث؛ إذاً عن الأكثر موضوعيّة والأقلّ ذاتيّة!
وهذا يجب ألّا يكون مسوّغاً لعدم الاهتمام بالنقد الموضوعيّ، أو ثقافته؛ بل على العكس، يجب أن نسعى جاهدين لنكون صادقين مع أنفسنا، باحثين بجدّيّة وحرص ودقّة عن العناصر الحقيقيّة، والمعلومات الدقيقة، والوقائع الصحيحة؛ وصولاً إلى الجوهر؛ أو محاولة جادّة في المسار إليه؛ فلعلّ سوانا يكملون في سواء السبيل.
المراجع:
– المنهج الموضوعيّ في النقد الأدبيّ- محمّد عزّام- اتّحاد الكتّاب العرب (1999م).
– النقد الموضوعيّ- سمير سرحان- (1990م).
– النقد الأدبي الحديث- إسماعيل صبري.
– النقد الأدبيّ بين الموضوعيّة والذاتيّة- د.فاتن عبد الجبّار.
– بين الذاتيّة والموضوعيّة- سعيد آغا- الموقع: لكلّ سؤال إجابة- (11-7-2014م)
 *كاتب وقاص

التاريخ: الثلاثاء16-3-2021

رقم العدد :1037



اترك رداً