تتكاثر مواقع التواصل عبر الشابكة، وتتكاثف صفحاته، وتتناثر بلا انضباط كبذار مزارعين كسالى، يتسارعون لإنجازه قبل اشتداد العاصفة التي بدأت..
وكما تكون حال أيّ جديد متجدّد بإمكانيات وتقنيّات واحتمالات، ينشغل الناس بهذا التواصل «الاجتماعي» الافتراضي، وينهمكون في تفاصيله ومتطلّباته، والانفعال اللاهث لقاء مؤثّراته وتبعاته..
وافدٌ-ككثير سِواهُ- ليس من صنعنا، ولا يعبأ برغباتنا وبيئتناوواقعنا، ولا يتوقّف على طاقاتنا، ولا إدارته تشركنا، يحاول من أطلقه أن يتحكّم به وبنا عن طريقه، فيبالغ في تسهيل انتشاره، وتيسير ارتباطاته البينية، ويتوغّل كثيراً في أسئلة حول المشتركين وتفاصيل حيواتهم، ودرجة حرارة عواطفهم، ولا ينسى أن يوجهها أحياناً بذكاء وحنكة، ويعرض أمامك من قد تعرفهم، ومن يمكن أن تتعرّف إليهم!!
وليس هذا النوع من التواصل سوى واحد من بين إنجازات عبقرية بشرية تتنامى باطّراد، وليس الوحيد الذي نُلقى إليه، أو نندفع فيه ونحن بكامل «قوانا العقلية»!وكما «العديم الذي وقع في سلّة تين» نخوّض في المجرى بلا أدوات العوم أو الحماية من كائنات القاع وأشياء الضّفاف، ونتسابق في التخبّط العشوائي، ونتلاقى، ونتوافى، ونختصم، ولا نحتكم!
ليس في هذا القول افتئات على إنجاز مهمّ حضاريّ بارع، ولا مكابرة على ساح مشرعة للوغى؛حيث «هل من مُبارز، هل من مُناجز؟! لايبرز لي الآن لا كسلان ولا عاجز!»؛لكنّ هذه المحرّضات التي كان الفرسان يستفزّون فيها خصومهم ذات شجاعة ونبالة، لم تعد تصلح لكائنات هذا الزمان، أو لبعضها على الأقلّ! فقد تكبر الصغائر أو تصغر العظائم، حسب صاحب العين «البصّاصة» والإصبع والرصاصة!وليس في هذا الكلام تنكّر أو نكران لحقّ أيّ شخص في أن يكون له منفَذٌ أو منبر أو باب على العالم، بلا رقيب أو حسيب، «كما يظنّ»، ولا سيّما أنّ مجالات التخفّي ممكنة، ومتاحةٌ فرص التمويه والتضليل والتعكير بالأسماء المستعارة والبيانات التي يتحمّل صاحبُها المسؤولية عنها.. لكن عندما يريد أصحاب الموقع الأصيل التحقّق من الشخص المتواري، والتأكّد من هويّة العابر أو المقيم، لا يعدمون الوسيلة؛ إذ إنّ إمكانيّاتهم كبيرة واستشعاراتهم حسّاسة وبعيدة المدى والتحكّم!!
فلا شكّ في أنّ النفثات التي يطلقها المرء، والزّفرات الّتي تعبق بها الصفحات اللامحدودة مساحة وعدداً، تخفّف عن أصحابها الذين سيستقبلون المواساة تتهاطل عليهم من مشارق الأرض ومغاربها، والشماتة أيضاً ربما!! ويلاقون الرعاية والاهتمام في مصحّات العالم المفتوحة بلا حساب! ولعلّ الإحساس بأنّ هناك من يقرأ، ويطّلع، ويتابع، ويتأثّر.. حتّى إذا لم تصل ردود أفعاله، يكاد يكون عاملاً مهمّاً في تنفيس الاحتقان، وإحلال الراحة النفسية؛ إذ إنّه حتّى لو كان ممّن «على البعد حيّا»فهو قادر على أن يُحيي!!
وهناك، بلاشكّ، معلومات وموضوعات ومعارف مفيدة، وحوادث وانطباعات وآراء.. وهناك أشخاص ومارّون يزيدون من رصيد المرء، ويشحنونه ويدعمون حصانته ومقاومته؛
ولكن.. دعونا نفكّر في جوانب أخرى: الوقت المهدور، والعزلة المفروضة، والانكفاء الرضيّ؛ دعونا نلاحظ الانشغال الدائم، والاستفزاز المتوقّع، والترقّب المتوتّر، والقلق والأرق… من خبر أو رسالة أو صورة أو تعليق أو ردّ أو مشاركة!!
ولنراجع عجزنا عن متابعة القذف المستمر لكل شيء، كرنين عدد كبير من الهواتف في وقت واحد أو أوقات متقاربة، حتّى لو كانت لاتطلبك؛ فهي تعنيك، أو ربّما تحسّ بأنّ لديك رغبة في القبض على هذه الإشعاعات التي لم تعد عارضة أو طارئة..
دعونا نفكّر في هذا القَدْرِ الكبير من الهذر والإسفاف والثرثرة والسطحيّة، على حساب الجدّيّة والصدق والعمق والتّوق لاتّصال يردّ الرّوح، وتواصل يعاند الريّح، وإشارة تدلّ، وتلويحة تبلّ..
وماذا عن الكمّ الفادح من العبارات القادحة، والصفات الذامّة، وما تنضح به الشاشة المحدّبة أو المستوية من السباب والشتائم والألقاب المقرّعة والصفات المقزعة.. حتّى في محاولات حوار أو إبداء رأي أو تعبير عن موقف..
يبدو لي أحياناً، أنا الذي التحقت بهذا الرّكب مؤخراً، أنّ الكثير من منافذ هذا التواصل الافتراضي ليس سوى جَمْعات التّنُّور، وسهرات العين، وحلقات السّاحة، وقيلولة ظلال السنديان والخرّوب.. تسكعات الشوارع، ووقفات تداخل الحارات، وجلسات المقاهي.. والسِّيَر المفتوحة، والخبريّات المفضوحة، والحكايا الملفقة، والحوادث المزيدة، ومغامرات العضلات المنفوخة، ومنادمات القوّالين، وخصومات الأعراس..فقد انتقلت جميعها إلى واجهات التواصل الاجتماعي؛ من دون أن ننسى أن تلك الممارسات البشريّة كانت تحلّ تحت وطأة الحاجة والضرورة، أو الظروف، والوقت المتطاول، والفراغ، والعجز، أو نتيجة المواسم الخائبة، أو المناسبات الدوريّة أو العارضة..وكان فيها قدر مهمّ من الالفة والودّ والقرب، مع المجاملات المفروضة والمفهومة؛ فهل تقارَن بسيل من الإعجابات العابرة، والمدائح المجانيّة،والتقريظات السيّالة، والتقويمات والمبالغات الّتي لاتأخذ من «الصديق» أو من «القارئ» إلا القليل من الجهد والتفكير؛ وقد لا تستحقّ مورّداتها أكثر من ذلك؛ وقد لا تبتعد عن الأهواء والنزوات والتمسّح والتزييف والنفاق؛ فالحرج مفقود، والخطو معدود، والعتب مردود، و«الحقّ دائماً على الطليان»!