الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
بين الوقتِ والتأمّل علاقة متوتّرة، تنعكس سلباً على الكائن العاقل؛ إنْ فكّر في أيّ منهما بمعزلٍ عن الآخر، وتجعله مضطرباً غير متوازن؛ وهو يحاول أن يمارس التأمّل، فيتسلّل الوقت، أو يهتمّ بالوقت، فيضيع منه التأمّل!.
ليس الوقت هو الأمر الوحيد، الذي يعرّض التأمّل للانتكاسة؛ فهذا العصر ليس مناسباً للتأمّل، ولا يؤمّن ملاذاً آمناً للمتأمّلين؛ سواء أكان ذلك بتسارع إيقاعه، وتكاثف انشغالاته، وتضاغط إنجازاته، والملاحقة التي يحسّ بها الكائن؛ وهو يبحث عن قوتِ يومه، أو سدِّ ثغرةٍ في مكمنه، أو تأمين حرّاس لمأمنه، أو حاجاته التي تتزايد وتتعقّد؛ أو كان بالضجيج الذي يكاد يملأ أسماعه، ويشغل مساماته، ويعكّر أوقاته ومزاجه بما لا يودّ سماعه، أو لا يختاره- على الأقلّ- وفي أيّ مكان من البيت والمؤسّسة والدائرة والمعمل والشارع والحارة والحافلة؛ في الصباح والمساء والليل والنهار؛ أصوات متداخلة متفاوتة متباينة متنافرة للكائن، الذي كان عاقلاً، والكائنات الأخرى، التي يدّعى أنّها غير عاقلة، ومن الآلات والأدوات والآليّات.. وسوى ذلك ممّا يمتلكه الفرد، أو لا يملكه، يمكنه التحكّم به، أو لا يمكنه، ولا يقع في نطاق رغبته وطاقته وأمنياته… حتّى إنّك لا تستطيع أن تتأمّل ما ترى عياناً، أو عبر الشاشات؛ لسرعة مروره أو عبورك، ولكثافة المحتويات، التي تعبر أمامك، ولا يمكنك التوقّف مليّاً، عند ما تسمع من أخبار؛ للتحقّق منها بعيداً أو قريباً من التحليلات السابقة واللاحقة والمواكبة، التي تأخذك في مختلف الاتّجاهات، حسب هوى الناطق بها أو موقفه أو رأيه أو مصلحته..
أمّا الأفكار المهمّة، في الثقافة والعلم، وفي أيّ مجالٍ كان، تلك التي تحتاج حقّاً إلى تأمّل؛ فهي تحتاج إلى إفراز واستخلاص واستنتاج، أو ربّما انتزاع ممّا تسمع من خليط، أو مزيجٍ أو خام، وما ينتج من خبث أو مخلّفات.. وإن كانت لديك الرغبة، وألحّ عليك التوق لمثل هذه الأفكار، التي تغويك، وتستهويك، فتعود إلى سلطان الوقت تستجديه، أو تستقطعه، أو تتغافل عنه بالتخويض فيما تريد أن تتأمّل فيه، أو يأخذك التأمّل إلى الغوص فيه.
ولا شكّ في أنّ الإنسان يحتاج إلى التأمّل والتفكير العميق، حتّى يحقّق إنسانيّته، ويجعل لوجوده معنى في هذا الخضمّ الهائل من الموجودات والحوادث والمتطلّبات والمستجدّات.. وهناك أفكار، لا يمكن أن يمرّ عليها الإنسان ذو العقل، من دون تساؤل وتمحيص، من وجوده إلى مآله.. وهو عبر عمره القصير المقدّر بعشرات السنين، لن يستطيع القيام بالكثير؛ إلّا إذا تفرّغ لأمرٍ ما، وهذا يحتاج إلى زهدٍ وصومعة، وترفّعٍ وابتعاد عن كلّ ملذّات الحياة، والتخلّص من كلّ أعبائها. وقد كان ذلك يحدث، أو يمكن أن يحدث في أزمنة سابقة؛ لأنّ الظروف العامّة والخاصّة، كانت تسمح، ولن نقول :إنّها كانت تتطلّب ذلك؛ فلا تزال تتطلّب؛ بل إنّ الحاجة إلى ذلك تضاعفت؛ لأنّ كثيراً ممّا كان مجهولاً، لا يزال مجهولاً؛ على الرغم من الاكتشافات والاختراعات والاحتمالات والتوقّعات، التي تتّخذ مناحي أكثر قبولاً وقناعة وقناعات وبراهين..
كنّا- وما زلنا- نقول: إنّ ما يتبقّى لديك من قراءة كتاب، وما يدفعك إلى التفكير فيما جاء فيه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فيلم أو مسرحيّة أو حادثة مؤثّرة، بعد الانتهاء من المشاهدة أو الاستماع، مسألة مهمّة للمرسل أو الباحث، والمتلقّي، وللثقافة الجمعيّة والمعرفة العامّة، وإنّ الأثر العميق، الذي يتركه مثل هذا الأمر دليل على قوّته وجودته وجدارته.. لكن، ما هي نسبة من يقومون بهذا الآن؟! أقصد القراءة أو التلقّي أوّلاً، والتفكير العميق ثانياً، وربّما التعليق والمناقشة والردّ؛ وهذه ثالثة الأثافي؛ وهي قضيّة تدعو إلى الأسى والأسف والمرارة؛ كما تدعو إلى التفكير فيه؛ لا لمعرفة أسبابه أو مراجعتها؛ بل لخلقِ الظروف المناسبة لذلك، من أشياءٍ جاذبة، محبّبة، مرعبة، محفّزة، وأخرى مساعدة، محصّنة، واعية، راعية، أمينة…
ثمّ من أين تأتي بالوقت؟!
فإذا كنت ستقرأ رسائلك الإلكترونيّة، أو تعليقات أصدقائك على المواقع، وتتابع العواجل من الأخبار والحوادث، والمناسبات والمستجدّات، ممّا يهمّك أو لا يهمّك، فإنّك تحتاج إلى أوقاتٍ مضاعفة ممّا هو متاح لديك.
أمّا إن كنت تريد أن تقرأ، وتتثقّف، وتتخصّص، فأنت مضطرّ إلى أن تستغني عن الكثير ممّا يُهدر، أو يصرف بلا كبير جدوى. وإذا كنت تريد أن تشارك، وتكتب، وتعطي رأيك أو موقفك، أو تترك أثراً مهمّاً في أيّ جانب من جوانب الحياة، وأيّ ميدان من ميادينها، فأنت مطالب بانتزاع ما تريد من وقت على حساب أشياء كثيرة أخرى، أو كائنات أخرى عديدة..
ومع ذلك، فإنّك حين تنظر إلى ما يضيع من وقت، في اللقاءات والثرثرات والانفعالات والعلاقات والممارسات غير المجدية لدى كثيرين، فإنّك ستقول هناك فائض من الوقت، وكثيراً ما تسمع هذا القول المستفزّ: أمضي وقتاً، أو أستهلك وقتاً، في تفسير بعض ما يقوم به من أعمال غير نافعة، من دون أن يعني ذلك، أن يقضي الإنسان وقته كلّه في العمل الجادّ الرصين المفكّر المنتج.. حينئذ سيتحوّل إلى آلة، وهذا غير مطلوب، فنحن نحتاج إلى بعض المتعة والفضفضة، مع أنّ عدداً من الناس يجدون المتعة في الإنجاز والتأثير..
إنّنا نحتاج إلى التأمّل، وإلى الوقت الذي نتأمّل فيه، ونضحك، ونتعلّم، ونعمل، وننتج، ونشارك؛ والأهمّ أن نترك آثاراً، تُحسب لنا في أيٍّ من شؤون الحياة، التي لا تعدّ ولا تحصى..
* كاتب وشاعر وقاص
التاريخ: الثلاثاء20-4-2021
رقم العدد :1042