بين الكتاب الصادر
والمخطوط الذي ينتظر
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
يستطيع القارئ المهتمّ أن يتلمّس فروقاً مهمّة، بين قراءة كتاب صادر بأيّة وسيلة، وقراءة مخطوط قبل أن يصل إلى مرحلة الطباعة بعد؛ ولا سيّما إذا ما خلا من اسم المؤلّف، أو أيّة إشارة إليه.
فقراءة ما هو منجز، تتمّ تحت تأثير اسم المؤلّف أو المؤلّفة، سلباً أو إيجاباً، وهاجس التحقّق من سمعته، والمقارنة بين ما يُعرف عن الكتاب وصاحبه، أو ما أشيع عنهما، وبين ما تتضمّنه الصفحات بين يدي القارئ، وفي هذا توجيه واع أو لا واع للقراءة والتركيز والتقييم؛ بل تحدّ لها، ومسؤوليّة في “ضرورة” تشكيل الرأي المطلوب التعبير عنه، أدبيّاً وأخلاقيّاً لصاحبه، أو علنيّاً للملأ، منشوراً، أو مطروحاً في نشاط رسميّ أو غير رسميّ؛ سواء أكان ذلك إلى جهة الإعجاب أو النفور المعلّلين؛ كما أنّ في إنجاز الكتاب ووصوله إلى القارئ، افتراضَ أنّه وصل عتبة المقبول، على الأقلّ، من قبل قارئ آخر، على الأقلّ أيضاً، أو أكثر من قارئ؛ ناهيك برأي الناشر وقناعة الكاتب نفسه، ومن ثمّ فإنّ الذائقة المكتنَزة للقارئ، ستتعامل معه على هذا الأساس؛ من دون أن يعني هذا دائماً جواز عبور مسبق، أو أنّه يعفي الكتاب، ويعفي صاحبه من المسؤوليّة والتقييم؛ بل على العكس، إنّ فرضيّة نيله الموافقة الرسميّة على النشر- بصرف النظر عن رأينا في منطقيّة أن تكون هذه الموافقة مسبقة أو لاحقة أو موجودة- إضافة إلى ما قيل عن الكتاب، أو نشر، ستتطلّب مساءلة أكبر، وستقلّل من الفجوة الممكنة في التقييم، وتخّفف من الإثارة المنتظرة، والمفاجأة الأثيرة. ويحدث أن تقرأ كتباً مطبوعة وموزّعة بأخطاء واضحة وفاضحة، لا تغتفر، فتتساءل: كيف لم يكتشف هذا من أقرّها؟! وبأيّ مسؤوليّة وإمكانيّة اقتنع بها صاحبها، وأرسلها إلى الناشر؛ الذي يتحمّل مسؤوليّة أكبر؛ عامّاً كان أو خاصّاً؟! مع الاعتراف بأنّ من الممكن أن يأخذ تحسّس الخطأ غير الواضح – أو الواضح- في الفكرة واللغة والصياغة والمناقشة والأسلوب منحى أكبر وأهمّ لدى القارئ؛ وربّما ذهب مذهب التصيّد؛ نتيجة ما سبق، وانعكاساً لسلوك شخصيّ، ومواقف وحسابات ومنافسات معلنة ومكتومة، في العمل والدائرة والوسط والحيّز والحياة.
ويتخلّص قارئ المخطوط أو الكتاب غير المنجز، من مجمل هذه الضغوط، ويُقدِم على القراءة بحرّيّة، وبسرّيّة وبموضوعيّة- يُفترض هذا- وبإثارة مراودة عذراء، وبرغبةٍ في التخويض في ماء غير معروف عمقه، ولا محتواه، أو الغوص في منجم مجهول المضمون، ونسبة المادّة الصالحة فيه مدار بحث، مع أهمّيّة الاحتمال والتوقّع والترقّب والاستثارة، والمفاجأة في جعل القراءة إبحاراً هادئاً حذراً يقظاً، تعمل المَلَكات فيه بإمكانيّاتها الذاتيّة، وبقدرتها المختبَرة والمختبِرة على التخيّل والتمحيص والتحليل والتقييم؛ من خلال الكلمات والسطور والصفحات، وبحيّويّة المقاربة الجادّة المقرّرة المؤثّرة، التي لا تتوقّف عند مسؤوليّة إعطاء الموافقة على النشر، أو عدمها؛ بل تتعدّاها إلى مسؤوليّة اكتشاف فكر جديد، ولون جديد، وصوت جديد، وبحّار جديد، وغوّاص جديد، وصيّاد جديد، ومخلّص جديد في بحر الأدب وعائلة الثقافة والحياة. وعلى عاتق القارئ هذا مهمّة منحه إجازة الأبحار، وفي رقبته مغبّة منعها عنّا وعنها؛ ما قد يدفعه إلى الوقوع في مطبّات الحيرة والشك والتشكيك، وبراثن الخيبة والنكوص والتهمة والاتّهام، وهي مسؤوليّة لا يقدّرها عديدون، ولا يهتمّون بها، ولا يتعاملون مع المخطوط قيد المخاض على أساسها؛ وقد تلعب هنا أيضاً حساسيّات التفوّق والأستذة والقمع والمنع لمن قد ينافسنا، ويقاسمنا الإعلام والسمعة والحضور والمغانم، غير المادّيّة؛ على أساس إغلاق الطريق إلى الباب الذي قد يأتيك منه ريح! ويستغلّ الفاعل هنا، أنّه القادر، المتمكّن، المتخفّي، المجهول، المقرّر بعيداً عن الآخرين، كما أنّ اسمه مغفل أيضاً، وليس عليه سوى أن يكتب تقريراً مختصراً غائماً عامّاً مدّعياً، يبيّن فيه أسبابه، التي قد لا يعود إليها أحد، ولا يناقشه في صحّتها أحد! وهنا تظهر أهمّيّة اختيار القرّاء، الذين يمكن أن يتحمّلوا مسؤوليّة الكتب المعمّمة، والأسماء المفوّضة، والأجيال الأدبيّة في الأجناس الأدبيّة؛ فالقضيّة أكبر من “تنفيعة” ومصلحة متبادلة، وترضية لمن كان في مهمّة سابقة، أو فاتته مهمّة ممكنة، ومجاملة لصحبة وموقع ومسؤوليّة؛ فقد لا يكون كلّ ما حصل عليه سابقاً بريئاً من عقد الإشكاليّات السابقة المعروفة في مختلف المجالات. وهناك من يتفاخر بأنّه يرفض غالبيّة ما يأتيه من مخطوطات، فيحوّل إليه ما تريد الجهة المعنيّة استبعاده؛ فيما يذهب المرغوب به والمرضيّ عنه إلى قارئ يوافق! فهل العبرة في الرفض أو الموافقة؛ أم في الحالات المطروحة للتقييم ومستواها وأهمّيّتها؟! أليس في أوساطنا الأدبيّة والثقافيّة عموماً، وفي سواها أيضاً، بخلاء حتّى في التحيّة والسلام؟! كما فيها من هو سهل متاح متيح أكثر من اللازم؛ فالأهمّ أن يكون القيّمون والمقيّمون موضوعيّين قادرين على التمييز بين الصالح والرديء، بين المبشّر والمنفّر؛ بلا أخطاء مقصودة، ومع أخطاء غير مقصودة أقلّ؛ فقد خطّأ قراء ما هو صحيح، وأقرّوا ما كان خطأ؛ لقصور، أو إهمال، أو استسهال. قال قارئ مجاز؛ لوجوده في موقع ثقافيّ مهمّ: لأذهبْ إلى مكتبي، و”أرفض” المخطوط المحوّل إليّ، قبل الاجتماع! وخاصم أكثر من مسؤول ثقافيّ، موظّف المخطوطات الحريص في مؤسّسة ثقافيّة عريقة؛ لأنّه لم يفصح لهم عن اسم صاحب المخطوط، قبل أن يتّخذ قراراً بشأنه!
وقد حزنت على نصوص أدهشتني؛ لرفضها من قرّاء آخرين، وأسفت على نصوص، طبعت، كنت قد اطّلعت على مخطوطاتها، ونالت عدم الموافقة من دون تردّد. وهناك مخطوطات رفضتُ أن أمنحها الموافقة؛ على الرغم من الإلحاح في الضغط المعلوم المصدر والغاية! لكنّ سواي لم يتوانَ عن التوقيع على إجازتها للنشر!
ولا ننسى الفروقات الفرديّة المؤثّرة في القدرة على تحييد ما يحبّ القارئ، وما يكتب، وما يعتقد، وما يتبنّى في كتاباته ومنهجه وحياته، في أثناء الحكم على نصوص الآخرين، وفي توسيع مروحة المسموح به إلى مديات التساؤل والفتح والاكتشاف والتحليق والتجاوز، وتضييق فرجار الممنوع إلى حّد الإسفاف والسوقيّة والانحطاط.
صحيح أنّ هذا الأمر، ينسحب على مجمل من يقيّم، ويقرّر، في المسابقات والجوائز، في التكريم والتقدير، في التعيين والترفيع، في المحاور والميادين والساحات جميعها، ويتحمّل كلّ من يقوم بهذا المسؤوليّة عن النجاح والفشل، عن التطوّر والانهيار، عن التميّز والإحباط؛ لكنّه يحمل مسؤوليّة مضاعفة في الأدب والثقافة؛ لأهمّيّة الرسالة؛ شكلاً ومضموناً؛ تلك التي يسير بها الأديب- والمثقّف عموماً- وينثرها؛ مع فيض من روحه، على الأجيال في مختلف المجالات الأخرى.
***
غسان كامل ونوس