ما نزال نعيش في موسم الفقد العزيز، هذا الذي لم يفْتُرْ منذ نحو ثلاث سنين، وهو ليس الأوّل في مسيرة وطن يقاوم وينمو ويتقدّم، ونأمل –ولا نعتقد- أنّه سيكون الأخير؛ وما تزال مواكب الشهداء تترى في مختلف جهات الموئل الأعزّ: سورية. وعلى الرّغم من استمرار ذلك، وكثافة المشاعر الّتي تطوف في الأحياز كلّها، فقد كان الحزن –وما يزال- نبيلاً، يليق بمن ضحّى بنفسه في سبيل وطنه، وأريق دمه، واُختصرت سِنِيُّهُ، وتوقّفت مسيرته الأرضيّة بين أهله، وفي رفقةَ محبّيه؛ لكنّه خروج مشرِّف، وارتقاء سامٍ بإرادة وحماسة واندفاع.. كلّ هذا يجعل من مناسبات التّشييع وقائع إنسانيّة مشهودة بحضورها ومواكبتها والاهتمام بها شعبيّاًّ، ورسميّاً. وممّا زاد من شساعة معناه وألق جوهره، ما أظهره، ويظهره آل الشهيد من تماسكٍ وتفهّم وتحمّل، وتجمّل بالصّبر؛ بل هناك استعداد دائم لتقديم المزيد؛ على الرّغم ممّا يرافق بعضها من مبالغات، قد تستدعيها مرارة الخسران، وتفسّرها انفعالات الوداع الأخير، ويمارسها بعض الخارجين على الانضباط الذّاتي المعهود، والإيقاع الجنائزيّ الّذي يتحوّل احتفاءً، واقتناعاً بضرورته، وثقة بجدواه؛ هذا الذي تكتنفه معرفة بالحالة شاملة ما كان قبلها، وما يرافقها، وما قد يستتبعها؛ والأهمّ من كلّ ذلك، الوعي بالعدوان المُستشري، والخطر المصيريّ المُحْدِق..
من دون أن ننسى أنّ هناك جنازات مُرجأة؛ لأنّ الجثامين لمّا تصل إلى مثواها الأخير، وأخرى دُفنت بشكل مؤقّت أو في أماكن غير ما يُفترض أن تكون. وهناك حالات أكثر مرارة في انتظار معلومة عن مخطوف أو مغيَّب أو مفقود.. ولا يمكن التّغافل عن حالات أخرى يكتنفها القلق والأرق لمن هُجِّر، وأُخرج من مأواه عنوة، ويعيش ظروف الغربة المضطربة، والافتراق القسريّ، وأوقات الضّيق والعذاب..
ليس هذا التّوصيف جديداً، ولا يمكن تجاوزه في بيان قيمة الصّمود والمقاومة، والتمسّك بالحياة والأواصر التي تَجمع، والعناصر التي تُغني، وتقوّي المناعة، لاستمرار المواجهة المعقّدة المتعدّدة الوجوه والأشكال والجبهات، مع المرتزقة والمارقين والفاسدين، ومن يدعمهم ويدرّبهم، ويخطّط لهم في الميادين العسكريّة والسياسيّة، في الدّاخل والخارج، حِضناً ومحيطاً، وإقليميّاً وعالميّاً..
وفي إطار ذلك، تتقدّم خطا الخلاص، وتتواصل علامات الوصول إلى نتائج مأمولة؛ سواء أكان ذلك من خلال الإنجازات التي يحرزها الجيش العربي السوري، والقوات المسلحة الأخرى، في مختلف المواقع، ومظاهر المصالحات التي تتوالى في أكثر من حارة ومدينة ومنطقة، ومشاهد المسيرات المعبّرة عن الوقوف إلى جانب الحقّ الوطنيّ الإنسانيّ المشروع في الحياة الكريمة من دون تدخّل أجنبيّ، أو فرض هيمناتِ تَحُدّ من الاستقلال والسّيادة، في أيّ إطار أو شكل أو مسار. وإذا كان التعبير العفويّ عن هذا، يزيد من جرعات الأمل باستعادة ما كان من وئام وانسجام وتواشج وأمان، بتنا جميعاً نعرف قيمته، ونقدّر أهمّيّته، وانبثاثاته الإيجابيّة، وثماره المجتناة؛ فإنّ هناك ضرورة الإشارة إلى أنّ مظاهر الفرح والسعادة يُفترّض أن تتّخذ المنحى الهادئ المعبّر عن الرّغبة الأكيدة بالحياة الكريمة، واللّهفة المفعمة بالأمل إلى العيش المشترك في بلد مستقلّ، موحَّد الأرض، متواشج الأطياف، متعدّد الألوان والرؤى الحريصة على الوطن ومكوّناته، والنّفور من أيّ تحريض على آخرين، أو إشاعة لسموم التّفريق والبغضاء، ورفض الفتنة وعناصرها ومفرداتها، والوقوف في وجه جميع المحاولات المستميتة للتدخّل الأجنبيّ، حتّى لو كان عدواناً مباشراً أو غير مباشر، مع حقّ المواطنين المشروع أن يتحمّلوا المسؤوليّات، وفي مختلف المستويات، وفق الدستور والقوانين، من دون أيّ فرض أو إملاء. وفي هذا الإطار لا بدّ من كبح جماح المشاعر الفيّاضة، وضبط الانفعالات التي تفرزها الحماسة، وتضاعفها رياح الانفراج، من بعد قتامة الحصار النّفسي والاجتماعي، وقسوة الظّروف الّتي مرّ بها المواطنون السوريّون على اختلاف مواقعهم وحالاتهم.. وهذا الأمر يحتاج إلى اهتمام جدّي، يشترك فيه القادرون على الأرض: جهات حكوميّة ومسؤولون وسعاة خير ونشطاء.. وذلك حرصاً على أن يكون فرحنا جليلاً، يليق بالإنجاز العظيم المتمثّل بالبقاء، والحفاظ على الوطن ومؤسّساته، ويستشعر التّضحيات الّتي قُدّمتْ، والخسائر التي تُكبِّدَتْ، ويوفّر الطّاقات للانطلاق إلى ساحات العمل وميادينه وورشه، بجدّية واندفاعة وحرص، للتّعويض في أقلّ زمن، وأعظم جدوى.
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: مجلة الموارد عدد 3 آذار ونيسان 2014
تاريخ النشر: 2014-04-30
رابط النص الأصلي: www.facebook.com/Almawared.sy