الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: نذير جعفر
الناشر: يحدد لاحقاً
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

بنية السرد المتقطع في «أوقات بريّة»
نـذيـر جعـفر
يستعيد غسّان كامل ونّوس في روايته: «أوقات بريّة» أطيافاً من حياة وطباع وسلوك ثلاثة طلاّب جامعيين ريفيين من قرية «العليّة» الساحلية: (سعيد, سعدون, حمّاد), جمعتهم ظروف الدراسة والسكن في غرفة واحدة بائسة في دار(أبي حمد) بحيّ عشوائي معزول وموحل, يشي بأنه أحد أحياء مدينة اللاذقية. ويرصد من خلال علاقاتهم الإنسانية والعاطفية بمحيطهم, وبعدد من الشخصيّات الأنثوية والذكورية, ملامح التحولاّت الاجتماعية/الاقتصادية وما رافقها من فساد واستغلال للمناصب ومراكز النفوذ, وإثراء غير مشروع, في ثمانينيات القرن العشرين.
ولا تمتثل هذه الاستعادة الروائية لنمط السرد المحكم الذي ينهض على لسان راو كليّ المعرفة, ُيعنى بخطيّة الحبكة وتتابعها الكرونولوجيchronology (بداية ـ عقدة ـ نهاية), أو حتى بتنويعاتها, بل تتجاوز ذلك إلى تحطيم وتذرير هذه الحبكة عبر سرد حداثي تجريبي متقطع, يراهن على متلق نوعي, يحاور النّص ويعيد بناءه في مخيّلته وذائقته ووعيه, ويقارب جمالياته الفنيّة والحكائية.
ويمكن للدارس أن يحدد سمات البنية السردية المتقطّعة عبر تناول أشكال حضور الراوي, والعلاقات الزمنية/المكانية, وبناء الشخصيّة الروائية.
ـ أشكال حضور الراوي:
على الرغم من وجود راو مركزي في «أوقات بريّة» تمثّل في صوت الشاب سعيد, الذي تمضي حياته عبر شبكة من العلاقات المحيطة به, ما بين حاضر قاس يعيشه مع زملائه في المدينة ويدفعه إلى العزلة, وماض جميل يحنّ إليه ويتذكّره في القرية, إلا أنّ هذا الراوي يتقنّع برواة عدة, يتناوبون على النهوض بالبرنامج السردي عبر ثلاث صيغ: (المتكلم, والغائب, والمخاطَب). وهذا التنوع في صيغ الراوي ـ على أهميته في كسر عمود السرد وتحريره من هيمنة الراوي الأحادي ـ لم ُيعزّز فنيّاً بتنوّع الأصوات على المستوى اللغوي, عدا ما تخلّل السرد من أقوال وأمثال ولغات ولهجات فردية ونبرات صوتية متباينة على نطاق محدود تمثّلت في خَطابات: (المتنفّذ صاحب المزرعة أبي زرد, والسائق جمال, وصاحب الدار أبي حمد, ولوبي التهريب والدعارة أبي سيف).
إن تعدّد صيغ الراوي بين مسافة سردية وأخرى, وفي المسافة الواحدة أحياناً, كسر رتابة السرد, وفتّت الحدث, وألغى متوالية الأسباب والنتائج المرتبطة بالرواية الكلاسيكية, وأضفى نوعاً من التوتر الدرامي على الخطاب الروائي, وجعله قطعاً متناثرة, وفجوات متباعدة, ما على المتلقي إلا لملمتها, وملء ما بينها من فراغات, في رحلة بحثه عما ترتبط به من أحداث وشخصيّات ونوازع ودوافع, وتحيل عليه من معان ودلالات.
لقد اختصّت صيغة الراوي/ المشارك( ضمير المتكلّم) بشخصيّة سعيد الذي يصنع الحدث الراهن, ويعلّق عليه, ويتأثر به ويؤثّر فيه, ويوهم بواقعيته عبر ربطه بسيرته. ومن هنا يتبوأ موقعه المركزي في البنية السردية.
والتزمت صيغة الراوي/ الشاهد(ضمير الغائب) بالحياد, فنقلت ما حدث لسعيد ولغيره أيضاً من أصدقائه في السكن, ورفاقه في السجن, وزملائه في الجامعة, وجيرانه في الحيّ, ورؤسائه ومرؤوسيه في العمل, دون تدخل من الكاتب أو دعاوة إيديولوجية مباشرة.
أما صيغة الراوي/ المخاطَب فنهضت بالمونولوج الداخلي, والتداعيات, والمذكّرات التي كان يستدعيها سعيد في لحظة ما من لحظات تصادمه مع شرطه الإنساني بين ما يطمح إليه من أحلام وما يعيشه من خيبات.
هذه الصيغ الثلاث أغنت البرنامج السردي, ونأت به عن النمطية والترهّل, وأدخلته في حقل الحداثة والتجريب الذي يستدعي قراءة تنفتح عليه, لا قراءة محكومة بأطر تقليدية مسبقة ومحدودة.
ـ العلاقات الزمنية/ المكانية:
يشكّل التناقض بين الريف والمدينة مدخلاً للعلاقات الزمنية/المكانية في «أوقات بريّة». هذه العلاقات التي جاءت متناغمة مع بنية الخطاب السردي شكلاً ومحتوى. فقرية «العليّة» تتموضع مكانياً في الريف الساحلي, وزمنياً في الماضي, ومن هنا تأتي هذه النزعة النوستالوجية في استعادتها عبر ذاكرة سعيد بوصفها مكاناً أليفاً, ومسقطاً للرأس, وموطناً للحب الأول( هنادي), ورمزاً للعذوبة والنقاء بمائها وطبيعتها البريّة البكر.
أما الحي العشوائي الذي يعيش فيه سعيد وزملاؤه فيتموضع مكانياً في مدينة «اللاذقية» التي لم يرد اسمها صريحاً, وزمانياً في الحاضر الذي يضغط على روحه, ويزيد إحساسه بالعزلة والاغتراب عن محيطه. ومن هنا تأتي هذه النزعة المتذمّرة في استعادته بوصفه مكاناً معادياً, وغريباً, وملتبساً, ورمزاً للفقد والانحلال والضياع.
إن زمن المتن الحكائي يمتد ما بين الماضي(السبعينيات) والحاضر(الثمانينيات) وُيستدل عليه من الإشارات الزمنية المتعلقة بالحرب الأهلية اللبنانية, والتفجيرات التي حصدت أرواح الأبرياء. لكن هذا الزمن لا ُيقدم في الخطاب بتتابعه الخطيّ, بل ُيخترق عبر تقنيتي الاسترجاع والاستباق بأنساق زمنية متقطّعة من الحاضر إلى الماضي, ومن الماضي إلى الحاضر أو ما بينهما. فالاستباق يتكرّر على لسان الراوي سعيد: «سيمضي وقت طويل قبل أن تستطيع التعرّف على مفردات الحارة, كائنات وعناصر وعلاقات ص5». «سيأتي إليك بعد قليل, وسترافقه إلى مكان اعتاد أن يذهب إليه ص100». فيما يبدو الاسترجاع تقنية أثيرة لدى الراوي في استعادة صور الماضي سواء أكانت ذكريات, أم أحداثاً, أم شخصيات: «كان حدثاً غير عادي أن صار في ضيعتنا سيّارة. لم نفكّر في نوعها, شكلها, أو لونها, يكفي أنها تمشي على دواليب ص102». كما ُيخترق الفضاء المكاني ما بين«العليّة» في الريف و«الحي العشوائي» في المدينة, بأبعاد مكانية مختلفة منها ما هو مغلق ومعادٍ: «المزرعة», و«السجن». و ماهو مشبع بأبعاد سيكولوجية ملتبسة وجاذبة: «القصر», و«منزل أبي سيف». وما هو منفتح وأليف: «البريّة» و«الغابة» و«المرفأ».
ويتجاوز الوصف وظيفته المعهودة في التزيين ليتحوّل إلى تقنية في تفسير وتأويل المكان, والإيهام بواقعيته, وبيان علاقته بالشخصية, ودلالاته السلبية والإيجابية. وغالباً ما يوشّى الوصف بغلالة من الغموض الشفّاف الذي لا يفصح عن اسم المكان بقدر ما يحاول الإيحاء به, كما في وصف المهجع: «كل الأجساد ممدّدة, المصباح سيطفأ في العاشرة, وسيسود الظلام ساعات. الكلام ممنوع, والقراءة مستحيلة, وويل لمن يغنّي ص86». أو وصف السجن: «الظلمة تتقوقع , والوشوشات تتوسّع, ويسيل الأنين, هل هو الثقب الأسود الواصل بين الأكوان أم يوم الحشر؟ هل كل هؤلاء مرتكبون؟ وهل هو عنبر واحد؟ ص86». ويشغل وصف الطبيعة حيّزاً واسعاً من البرنامج السردي معزّزاً بذلك دلالة العنوان: «أوقات بريّة» تلك الأوقات التي يقضيها الراوي في الغابة بين الأشجار والصخور والنباتات والأعشاب والظلال إمّا راصداً عناصر الطبيعة وتجلياتها: «ذهبت باتجاه الشمس. كانت الأشجار المتباعدة في طرف الغابة موئلاً مهماً من الحرّ الذي بدأت أحسّه على جلدي. ورقة الشجر الكبيرة تغطي منطقة الوسط, وتحميها من الشعاع. شغلني ذلك الفيء الذي تتغيّر أبعاده, وأضطر أن أتحرك وفق تقاصره وزحفه, وما لبث أن عاد للتطاول, بعدما مالت الشمس. في الوقت الذي كنت فيه أعاين الجمرة الشاحبة, كان الظل يهيمن على الغابة كلّها ص80». أو متأملاً سلوك الحيوانات الغريزي الذي يدفعه في النهاية إلى اختيار عزلته في البرية مردداً:« القناعة بالانتصار أو الهزيمة تجعل من أمر كفاية الحاجات حدوداً يتم احترامها….تلك قوانين الكائنات المتشابهة غير العاقلة! أما تلك التي عايشتها إلى عهد قريب فلا حدود لحاجاتها, ولا نهاية لرغباتها, ولا قناعة! ص213».
إن تقنيات الاسترجاع والاستباق والوصف أسهمت في توسيع دائرة التنوّع والتداخل والتشابك بين الأنساق الزمنية, والأبعاد المكانية, وهو ما ينسجم فنيّاً مع تجريبية الخطاب القائمة على السرد المتقطّع بوصفه ثيمة فنيّة دلالية رئيسة في بناء «أوقات بريّة».
ـ بناء الشخصيّة الروائية:
إن بنية السرد المتقطّع لا تتيح إمكانية بناء وتقديم الشخصيّة الروائية في سياق خطّي متنام ومتماسك يتعلق فيه اللاحق بالسابق, بل من خلال تناثر أقوالها وأفعالها وما يقوله عنها الآخرون من رواة وشخصيّات خيطية وثانوية في فضاء النّص. ومن هنا لا تكتمل صورتها إلا باكتمال دائرة القراءة التي تمنح المتلقي إمكانية تخيّلها وصياغتها في وعيه من جديد بوصفه طرفاً متفاعلاً معها, ومع شبكة علاقاتها.
فالراوي المحوري سعيد لا تكتمل صورته ولا يمكن الحدس بما سيُقدم عليه إلا مع آخر صفحة من الرواية! أما صور زملائه وسلوكهم وطباعهم فتُقدّم أيضاً بشكل متناثر بين مسافة سردية وأخرى. ويتيح السرد المتقطّع إمكانية ظهور شخصيّات عدّة واختفائها في آن معا دون أن يكون لها فعل خارج إطار التذكر والاستدعاء فتبدو باهتة ولا تترك ملمحاً بارزاً في ذهن ومخيّلة المتلقي, مثل: شخصيّة الأشتر, وغادة, والرقيب يوسف. وتلعب خطابات الشخصيات عن نفسها, وحواراتها المتشظيّة مع الآخرين دوراً في الكشف عن نوازعها وأفكارها وسلوكها وتباين أصواتها ونبراتها الاجتماعية المختلفة. كما هو الأمر بالنسبة إلى المتنفّذ أبي زرد الذي يستغل منصبه في فرز الجنود إلى مزرعته الخاصّة, ومعاقبتهم على أي تقصير, مسوّغاً سلوكه بأبلغ العبارات. وكذلك زوجته هناء ابنة «العليّة» ورفيقة صبا سعيد التي ترغمه على معاشرتها بذريعة خيانة زوجها لها.
إن «أوقات برية» تقدّم شبكة واسعة من العلاقات التي تربط ما بين الشخصيّات, بدءاً من الدائرة الأولى التي تضم كلاً من طالب الزراعة الغرّ, المتوحّد في عزلته سعيد, وزميله المجرّب منصور, وزملائه في السكن: الدونجوان طالب الطّب سعدون, والمغامر طالب المعهد المتوسّط حمّاد, وجيرانهم في السكن والحي: أبو حمد, وأم حمد التي تنتظر ابنها الغائب, وابنهم الصغير فارس, وابنتهم التي تخون زوجها السجين, وعامل المرفأ عبود الذي يطمح إلى عمل إداري, ورجل النوافذ سلوم الذي يفضّل الصور الفاضحة على امرأته, والدكنجي أبي فيصل. ثم الدائرة الثانية التي تربط كلاً من سعيد بهناء وهنادي المتناقضتين موقعاً وسلوكاً, وبحمدان رفيق الظلمة في السجن, وبجمال سائق المزرعة الذي يتغزّل بسيارته الشبح.
إن الصراع هو السمة الرئيسة التي تطبع علاقة سعيد بهذه الدوائر, الصراع مع نفسه ومع محيطه, والصراع مع ماضيه وحاضره, والصراع مع المدينة والريف, والصراع مع رغبات الجسد وتحليق الروح. ويأتي حل هذا الصراع متناغماً مع نزوعه إلى العزلة والهدوء والنقاء عندما يختار البريّة سكناً وملاذاً أخيراً له.
لقد قدّم غسان كامل ونوس رواية تزخر بنماذج بشرية لها أحلامها وخيباتها, ونماذج متنفّذة تروّج الفساد وتحميه, موظفاً في بنائها تأملاته الفلسفية, وموروثه الشعبي من الحكم والأمثال, وخبرته الفنية, دون أن يركن إلى اليقينيات, أو يجاري السائد المألوف, مكتسباً بذلك شرف المغامرة الروائية التي لا تتوقف عند حدّ.

ـ ونّوس, غسّان كامل: أوقات بريّة ـ رواية ـ دار إناناـ دمشق 2006.

اترك رداً